دارفور … حرب ضد التمرد أم حرب إبادة؟

 


 

 



helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
قبل أن تحتفل الحكومة وتبتهج بتورط الأمريكان فى المستنقع العراقى عليها أن تنظر لوجهها فى مرآة الحقيقة لتعلم كم هى نفسها متورطة حتى أخمص قدميها فى مستنقع دارفور, وها هى الدوائر تدورعليها, ولعلَّ الفرق بين الحالتين هى "الشفافية", هذه الكلمة السحرية التى لم تدخل قاموس الإنقاذ بعد, فما حدث فى العراق وضد العراقيين يظل مشاهداً كأى فيلم سينمائى مأساوى وعلى كل الفضائيات العالمية, بل إنَّ الجهة التى كشفت عن تلك الممارسات غير الإنسانية وأوضحتها لكل العالم هى إحدى أكبر ثلاثة محطات تلفزيونية عامة فى أمريكا (CBS) وفعلتها رغم كل الضغوط والتوسلات ومن أعلى المسئولين فى وزارة الدفاع الأمريكية, فهل فعل التلفزيون السودانى مع أحداث دارفور مثل ذلك؟ وبعد كشف المستور سارع الرئيس الأمريكى بالظهور فى الفضائيات العربية وتحدث بأدب لتوضيح مما حدث, ولمَّا لم يقنع ذلك حتى مواطنية إضطر للإحتماء بالملك الأردنى الشاب ليعلن إعتذاره العلنى على الملأ بخجل واضح ويحاول الإبقاء على وزير دفاعه سبب الكارثة والذى يواجه اليوم مصيراً مأزوماً ويتعرض للبهدلة والتأنيب من لجان التحقيق الصارمين بالكونغرس الأمريكى محملاً نفسه المسئولية عن كل تلك الجرائم التى إرتكبها جنوده فى السجون العراقية, نعم نشاهد والعالم أجمع كل ذلك, وسنشاهد ما هو أفظع, تنقلها وسائل الإعلام المرئية والمسوعة والمقروءة إضافة للشبكة العالمية وعبر كل اللغات, ويستمر الرئيس الأمريكى وقادة أركان جيشه يوزعون الإعتذارات العلنية على مدار الساعة, هنا تحديداً تتجلى المفارقة وتتكشف مرآة الحقيقة لتعلم الحكومة السودانية كم هى ضحالة فرحتها بمصيبة الأمريكان, ناسية, أو متناسية, فى الوقت ذاته, مصيبتها التى تنزف دماً فى أرض دارفور, إنَّه المضحك المبكى, و"الأبو سناى الذى يضحك على أبو عشر سنون", هذا إذا إفترضنا مساواة أسنان الحكومة مقارنة بأسنان الأمريكان النووية.
ولعلَّ هذا المشهد الحكومى الحزين والذى يدعو للسخرية يستدرج فى الوقت ذاته عدداً من الأسئلة التى تعكسها مرآة الحقيقة لتتأمل الحكومة وجهها بغرض التفكر فيها فقط, إذ لا يبدو أنَّها ستجد الإجابات الكافية عليها:
* فهل سمحت الحكومة لوكالات الإعلام المحلية والعالمية بالسفر لدارفور والتجوال فى ربوعها بكل حرية, ودون وصاية منها, لتنقل للعالم حقيقة ما جرى ويجرى الآن وتبرئ ساحتها من الإتهامات الخطيرة القائمة بحقها كما تحاول الآن جاهدة بمناسبة وبدون مناسبة عن طريق النفى المشكوك فيه؟
* هل إعترفت الحكومة أصلاً, وبمبادرة شخصية منها دون ضغط دولى, بحدوث إنتهاكات فى حقوق إنسان دارفور؟
* هل تمت, أو ستتم, محاسبة المتورطين من قيادات الجيش والأمن والمليشيات فى تلك الإنتهاكات كما بدأ الأمريكان يفعلون مع المتورطين فى الأحداث العراقية من مواطنيهم؟ خاصة وأنَّ السيد مواكيش كابيلا أكَّد أنَّ لديه أسماء المتورطين فى كوارث دارفور فى أعلى أجهزة الدولة السودانية؟
* هل يوجد فى سجل هذه الحكومة تحديداً ما يدل على قيامها بعمليات تحقيق قانونى علنى وكشفت نتائجها للرأى العام المحلى والعالمى لمآسى مماثلة وقعت بحق مجموعات أخرى من الشعب السودانى, مثل جنوب السودان وجبال النوبة والإنقسنا؟
* هل تحترم هذه الحكومة "حقيقة" أهل دارفور وتعتبرهم مواطنين كاملى الأهلية وتتصرف حيالهم تحت هذا الفهم؟
* أخيراً, وهو الأهَّم, هل سيعتذر السيد رئيس الجمهورية لأهل دارفور, كما فعل الرئيس الأمريكى مع الشعب العراقى وبقية الشعوب العربية, عمَّا ألحقته قواته المسلحة ومليشياته المتحالفة معه من قتل وحرق وتدمير ونفى طال أكثر من مليون شخص من سكان الإقليم؟
نعلم مسبقاً أنَّ لا رئيس الحكومة ولا نخبته الحاكمة سوف يفعلون, أو حتى أن يرد ذلك فى خاطرهم, ولماذ؟ فليس هناك صناديق إنتخابات تنتظرهم, ولا هيئة تشريعية فاعلة وقوية تستجوبهم, ولا قضاء مستقل يحاسبهم, والأخطر فى ذلك كله هو أنَّهم لا يعترفون بالأساس بأنَّ لهؤلاء البؤساء والمشردين قضية بالأصل ناهيك عن التفكير فى تقديم إعتذار لما أصابهم, فالقلم بيدها تكتب ما تشاء. لكننا نظن أنَّ ربَّ ضارة نافعة, فهذه الخضة التى يعيشها العالم اليوم قد تمثل درساً حياً ومجاناً لكل النظم الدكتاتورية المتسلطة على شعوبها لتتعلم من خلالها أصول التعامل الشفيف مع مثل هذه الأزمات, وإنَّ محاولة الهرب منها أو إخفاءها قد لا تزيد الطين إلاَّ بلة, بجانب أنَّ لكل فعل رد فعل, وأنَّ ما يتم فى دارفور من مآسى سيكون له حتماً ردود فعل موازية, وإذا ظلَّت الحكومة تنفى دائماً عدم حدوث تصفيات عرقية بحق مجموعات من أهل دارفور وتنكر علاقاتها الوثيقة بالجنجويد فها هى الجهات الدولية المتنفذة قد بدأت تتداعى بكشف الحقائق المؤلمة بجانب الشهادة الدامغة من حليفتها تشاد عن المساندة والحماية التى تجدها مليشيات الجنجويد من الحكومة, وتكشف للعالم أجمع مدى إرتباطها بتلك الفئة الضالة من القتلة تحت ظل صمت مريب منها ومحاولتها لملمة الفضيحة من وراء الأبواب المغلقة.
سوف نقوم فى هذا المقال برصد حصيلة مبدئية للقتل والدمار الذى طال إقليم دارفور وأهله منذ بدايات هذا الصراع عام 1986م, وسنفعل ذلك بالأرقام, ومن مصادر موثوقة, إضافة إلى معلومات مختلفة أرسلها لى أشخاص لا أعرفهم عن طريق البريد الإلكترونى, أعتقد بأنَّهم قريبين من مراكز القرار ويفضلون ألاَّ يتفوهوا بها مخافة قطع أرزاق أبنائهم وأسرهم. وفى كل الحالات فإنَّ المعلومات المتوافرة لدينا الآن وتلك التى قد نتوقعها لاحقاً ستكون جزءاً من عملية توثيق دقيق لهذه الفترة العصيبة من تاريخ دارفور, ومن المعلوم إنَّ دارفور قد تعرضت للتدمير عدة مرات أبرزها عام 1874م عندما أسقط سلطنتها الزبير باشا وعاث فيها فساداً وتدميراً قبل أن تسيطر القوات التركية التى قدمت من كردفان على الأوضاع وتبعده عن دارفور, ثمَّ حصل التدمير مرة أخرى بفعل تجريدات عامل المهدية عثمان آدم "جانو" خلال العقد قبل الأخير من القرن التاسع عشر تحت دعاوى التهجير, ثمَّ هذا التدمير المنظم الذى يحدث الآن, لكن فى الحالتين الأوليتين لم يحدث أى توثيق دقيق لتلك الفترات لظروف موضوعية, ولذلك لا يجب أن تمر هذه الأحداث الماثلة دون إنتباه فهى تشكل محور مفصلى فى تاريخ دارفور الحديث وقد تكون لها تداعيات متباينة من الصعوبة التنبؤ بها الآن.
إضافة إلى رصد كل الخسائر المتراكمة, على حسب من نعرف حتى الآن, من فقد أرواح وحرق قرى ومزارع, ونهب حيوانات مختلفة, ونزوح داخلى وخارجى, سنقوم أيضاً بتقدير القيمة المالية الإجمالية لتلك الخسائر كضرورة واجبة لمعرفة فاتورة إعادة بناء دارفور, وما قد يتعلق بذلك من قضايا معقدة ومعطيات على المستويين القومى والعالمى.
تاريخ ومراحل الدمار الأخير فى دارفور:
بالرغم من وجود صراعات قبلية فى فترات كثيرة من تاريخ دارفور القديم منها والحديث, بفعل الموارد أو الدارات, إلاَّ أنَّها لم ترق أبداً لمستوى الحروب الشاملة والرغبة فى إنهاء الآخر, إذ كانت الإدارة الأهلية حازمة وواقية من حدوث مثل هذه التجاوزات, ولم تنفلت الأمور من عقالها إلاَّ بعد تواتر برامج وخطط لإضعاف منظم للإدارة الأهلية بجانب تدخل السياسة والآيدلوجيات التى تستبطنها, سواءٌ أكانت تلك الآيدلوجيات وافدة من الخارج مثل التمدد العروبى المدفوع من ليبيا فى مطلع الثمانينات والمسنود بنظام الصادق المهدى فى عهد الديمقراطية الثالثة أو بالمشروع الحضارى الإسلامى العروبى والتى أراد بها نظام الإنقاذ إعادة صياغة الإنسان السودانى! هذين الآيدلوجيتين هما أسَّا البلاء ومصدرا الشقاء ليس لأهل دارفور فحسب بل ولكل الشعوب السودانية المهمشة خاصةً, وعلى ذلك يمكننا تصنيف مراحل التدمير الأخير لدارفور على ثلاثة فترات محددة هى:
(1) فترة الديمقراطية الثالثة: من عام 1986م إلى 30 يونيو 1989م.
(2) فترة حكم الإنقاذ: من 30 يونيو 1989م إلى 26 فبراير 2003م.
(3) فترة إندلاع الثورة بدارفور: من 26 فبراير 2003م إلى اليوم.
وعلى كل ربما لا نلتزم بهذه الفترات تحديداً فى سياق نقاشنا فى صلب هذا المقال, لكن ذلك لا ينفى أن لكل منها خصائص تميزها عن غيرها, وعليه فمن المستحسن فى عمليات التوثيق ضرورة الإهتمام بعدة جوانب أهمَّها المديات الزمانية والمكانية والأسباب والعوامل الفاعلة فى ذلك بجانب كيفية مسارات تلك الأحداث ودرجات تأثيراتها المختلفة.
رصد مبدئى عام عن تطور الخسائر البشرية:
سوف نضع مسلسل القتل والخسائر البشرية فى دارفور خلال العقدين الماضيين فى شكل نقاط تمثل حصيلة مبدئية فقط, وقد لا يكون أكثر من رأس جبل الجليد الطافى لحقيقة تلك الخسائر, وسيثبت ذلك من عدمه فى حال وجود تحقيق قانونى دولى مستقل مثلما جرى فى رواندا والبوسنة وكسوفو, وستظل المطالبة بإجراء مثل هذا التحقيق قائماً إلى أن يتحقق بهدف التثبت من الإحصائيات التالية وإذا ما كانت ترقى لدرجة الإبادة الجماعية والتصفية العرقية كما هو مطروح الآن:
(1) بسبب الحروبات الليبية التشادية, والتشادية التشادية, ثمَّ دخول القوات الليبية شمال دارفور وإقتحام الفيلق الإسلامى وقوات إبن عمر للأجزاء الشمالية منها وتمركزها فى قواعد ثابتة بدءاً من شهر مارس عام 1987م, إنفجر الحرب بين المجموعات العربية الوافدة من تشاد ضد قبيلة الفور تحديداً أدى إلى حرق قرى الفور واباده السكان حتى بلغ عدد القرى المحروقه 650 قريه وعدد القتلى 3000 نسمة, وأدى إلى نزوح 10000 مواطن من قراهم, وإستمر ذلك حتى مجىء نظام الإنقاذ الإسلامى فى 30 يونيو 1989م. هذه المعلومات وغيرها وردت فى تقرير المجموعة السودانية لحقوق الإنسان عن المسح الذى قامت به فى الربع الأخير من العام الماضى, 2003م, للتحقيق عن إنتهاكات حقوق الإنسان بدارفور, وأصدرت تقريرها النهائى بتاريخ 15 نوفمبر 2003م, وسنتعرض بالتفصيل لاحقاً فى هذا المقال لمحتويات ذلك التقرير, والتى تتضمن معلومات خطيرة, ولا ندرى لم تقاعست هذه المجموعة التى يرأسها المحامى الحقوقى النشط غازى سليمان عن نشرها على الملأ والعالم أجمع حتى يقف الجميع على حقيقة ما حدث بدارفور.
(2) بعد قيام نظام الإنقاذ, وتصاعد هجمات المليشيات العربية (الجنجويد) وفيالق الدفاع الشعبى (البشمركة) على قرى الفور والتى أدَّت إلى بروز الحملة التى قادها المهندس داؤود يحيى بولاد تحولت المواجهات إلى حرب مكشوفة, خاصة بعد إنحياز الحكومة للمليشيات المهاجمة وتسليحها, وتمدد ذلك ليشمل سلطنة دار المساليت ومناطق وادى صالح, خاصة بعد تطبيق "نظام الأمارة" وإلغاء حواكير القبائل الكبرى, فقد أورد تقرير المجموعة السودانية لحقوق الإنسان أنَّ مقدار الخسائر البشرية خلال الفترة من عام 1990م إلى 15 أكتوبر عام 2003م قد تمثل فى قتل 12248 شخص وحرق 435 قرية بكل المناطق التى تأثرت بتلك الهجمات فى الإقليم.
(3) أصدر مكتب منسق الشئون الإنسانية بالأمم المتحدة تقريراً فى 7 أكتوبر 2003م أوضح فيه أنَّ عدد المتأثرين بأحداث النزاع بدارفور خلال الفترة من شهر فبراير من العام الماضى وإلى تاريخ صدور ذلك التقرير, أى خلال 7 أشهر فقط, قد بلغ 3000 قتيل وتشرد 400000 شخص داخل الإقليم, منهم حوالى 200000 تشردوا خلال أسبوعين فقط, إضافة إلى نزوح 70000 شخص بمعسكرات اللاجئين بتشاد, وقد أوردت هذه الأرقام وكالة الأنباء الفرنسية فى نشرتها بتاريخ 8 أكتوبر 2003م.
(4) بمقارنة النقطتين (1) و(3) أعلاه, يمكن الأستنتاج أن حجم الخسائر البشرية منذ قيام نظام الإنقاذ فى 30 يونيو 1989م وإلى تاريخ نشوب الحركة المسلحة بدارفور فى 26 فبراير 2003م, قد فاق التسعة آلاف قتيل, أو تحديداً 9248 حسب الفرق بين هذين التقديرين.
(5) أفادت مصادر إنسانية مختلفة فى شهر نوفمبر 2003م بأن المعارك في دارفور قد أدت إلى نزوح 670 ألف شخص داخل السودان و100 ألف إلى تشاد.
(6) أعلن منسق الأمم المتحدة للعمليات الإنسانية في السودان موكايش كابيلا فى منتصف شهر مارس من هذا العام أن النزاع الذي إندلع بدارفور في فبراير من العام الماضي قد أسفر عن سقوط أكثر من 10 آلاف قتيل وأكثر من مليون منكوب.
(7) بمقارنة ما ورد فى النقطتين (3) و(6) أعلاه, يمكننا الإستنتاج بأنَّ عدد الضحايا بين شهر أكتوبر 2003م ومنتصف شهر مارس 2004م, أى خلال فترة الهجوم والقصف الحكومى الأخير, قد يصل إلى 7000 شخص.
(8) صرَّح السيد آندرو ناتسيوس مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية فى مؤتمر صحفى نهاية شهر أبريل الماضى لمناقشة السياسة الاميركية تجاه السودان, بما في ذلك الوضع الحالي في دارفور وموقف مفاوضات السلام, أنَّ عدد القتلى نتيجة النزاع فى دارفورغير واضح حالياً ولكنه بالآلاف، وأشار إلى أنَّ بعض التقارير تقول أنَّه قد بلغ الـ 30.000 قتيل.
(9) تقول تقارير الأمم المتحدة أنَّه تم نزوح مليون شخص على الأقل نتيجة للنزاع فى دارفور، منهم 900.000 نازح لا يزالون داخل دارفور ومائة ألف لاجيء في تشاد والبلدان المجاورة.
(10) بمقارنة النقاط (3) و(4) و(7) أعلاه, وذلك ما هو معلوم فقط, يمكن الإستنتاج أن الخسائر البشرية منذ العام 1990م وإلى هذه اللحظة قد فاق ال 20 ألفاً, منهم 10 ألف منذ بدء النزاع, ومن الجدير الإشارة إليه أنَّ ذلك لا يشمل الأبرياء الذين لقوا حتفهم وأولئك الذين أبيدوا فى قراهم النائية دون أن يعلم عنهم أحد, أو الذين سقطوا فى الطريق أثناء النزوح أو أولئك الذين مضوا بالجوع والمرض والمسغبة, إذ أنَّ التجويع قد تمَّ إستخدامه كسلاح ضد الأبرياء كما أكدته التقرير الأخير لبعثة الأمم المتحدة, ولذلك فقد يكون تقدير السيد آندرو ناتسيوس مدير الوكالة الاميركية للتنمية الدولية بهلاك 30000 شخص نتيجة للنزاع أقرب للصحيح بالرغم من قناعاتنا أنَّ العدد الحقيقى قد يبلغ ضعف ذلك إن لم يكن أكثر.
(11) صرَّح وزير الخارجية السودانى الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل لقناة الجزيرة مؤخراً أنَّ عدد الذين قتلوا طوال فترة الحرب بين قوات الجانبين من الحركة المسلَّحة والحكومة لا يتجاوز الألف, معظمهم من القوات المسلَّحة السودانية! وعليه يكون الذين هلكوا بغير ذلك من عدد الثلاثين ألفاً هم من الأهالى والمدنيين الأبرياء, فكيف مات أو قتل هؤلاء؟ هذا سؤال محورى يتطلب إجابة.
(12) أشار تقريرللجنة الأمم المتحدة التي زارات دارفور مؤخراً أنَّ الحكومة تقوم بحملة تجويع للنازحين في دارفور, وأنَّ ما بين «8 إلى 9» أطفال يموتون يومياً فى معسكرات النازحين بكلبس, وقد أكدت نشرة أخبارية للبى بى سي فى قناتها الرابعة ذلك فى الأسبوع الماضى وأوردت صوراً حيَّة كدليل إثبات لخبرها, كما عرضت صوراً أخرى لمجموعة من مليشيات الجنجويد يفرون على ظهور جمالهم عندما شاهدوا كاميرات المراسلين توجه نحوهم.
(13) عرض السيد روجر ونتر مساعد مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية فى شهادته أمام لجنة العلاقات الدولية بالكونغرس الأمريكى قبل أيام قليلة (6 مايو) قائمة رسم بيانى يوضح معدلات الموت الجماعى بدارفور, أعدتها مجموعة من خبراء الوكالة, حيث أوضحت تلك القائمة أنَّ معدل الوفيات فى ظلَّ الأوضاع الحرجة بدارفور ومعسكرات النازحين يبلغ موت شخص واحد بين كل عشرة ألف شخص يومياً, وأنَّه أثناء إعداد تلك القائمة كان عدد المتأثرين والنازحين يبلغ مليون ومأتى ألف مواطن بدارفور, وأنَّ معدل الوفيات سترتفع إلى ثلاثة أشخاص بين كل عشرة ألف شخص بحلول شهر يونيو الجارى وقد يمثل ذلك البداية فقط. ويمضى فيشير بأنَّ موسم الأمطار والذى يمتد بين شهرى مايو وسبتمبر قد بدأ, حيث يعتمد الأهالى فى غذائهم خلال هذه الفترة على ما إختزنوه من حصاد الموسم الماضى, ولمَّا فقد هؤلاء الناس كل شيئ بسبب الهجرة والنزوح القسرى فليس لديهم ما سيعتمدون عليه من غذاء بجانب إنعدام مقدرتهم على الزراعة هذا الموسم, كما إنَّه سيكون من العسير توصيل مواد الإغاثة إلى المناطق المعزولة بسبب الأمطار وقفل الطرق حيث لا توجد أى طرق سالكة فى كل أنحاء الإقليم الشاسع, ولكل ذلك تتخوف الوكالة من حدوث "فجوة مجاعة" بين شهرى أكتوبر وديسمبر القادمين وتتوقع أن يرتفع معدلات الوفيات إلى عشرين حالة بين كل عشرة ألف شخص, وسيكون ذلك مشابهاً للمعدلات المأساوية التى ضربت جنوب السودان عام 1998م, ومن المحتمل أن يؤدى ذلك إلى هلاك 30% من السكان المتأثرين وإحتمال موت مئات الألوف خلال الأشهر التسعة القادمة.  
(14) بموجب هذه البيانات, إن صحت, سيكون قرابة 360000 شخص من جملة مليون ومأتى ألف مواطن معرض للموت بسبب الجوع والمرض خلال الفترة من الآن وإلى شهر يناير من العام القادم.
(15) يجب أن نتذكر أن الحرب قد عاد الآن للإشتعال مرة أخرى فى دارفور بالرغم من توقيع إتفاقية هدنة وقف إطلاق النار, وذلك بسبب تقاعس الحكومة عن حل مليشيات الجنجويد وفك الإرتباط معهم ومواصلة القصف الجوى للعديد من المناطق حتى داخل الأراضى التشادية, وفى مقابلة مع الدكتورمجذوب الخليفة وزير الزراعة أجرتها معه مؤخراً جريدة "الزمان" فى القاهرة (عدد يوم 8/5/2004م) سألته الجريدة عن صحة ما تردد عن أنَّ عشرون ألف من الجنجويد إعترفوا بأن الحكومة السودانية لها دور في تسليحهم وتجهيز الملابس الخضراء لهم؟ فرد سيادته قائلاً: "نحن لا علاقة لنا بهم وأعلنا ذلك رسميا، فنحن أصحاب رسالة وأصحاب حقيقة ", لكن السيد نجيب الخير عبدالوهاب وزير الدولة بالخارجية صرَّح قبل يومين أنَّ الوفد الألماني الذى زار البلاد مؤخراً قد طرح تساؤلات حول علاقة الحكومة بالمليشيات المسلحة (وإلى أي مدى توفر لها الحكومة الأسلحة) ولم يورد الوزير ماذا كانت إجابته لهم على هذا السؤال المحورى والذى قد يتضمن إجابات موثَّقة عن الإتهامات بالإبادة والتطهير العرقى, وعلى كل فإنَّه لا يجدى مسئولى الحكومة تكرار النفى خاصة مع الموقف التشادى الأخير (الكلام دخل الحوش) وتهديداتها الصريحة بنفاذ صبرها على دعم الحكومة للجنجويد بل وحمايتها لهم, يقابل ذلك صمت مطبق من الحكومة عن الرد عليها؟
ونتيجة لكل ما ورد أعلاه فمن المتوقع أن تتواصل معدلات القتل والدمار إلاَّ إذا حصل تدخل دولى حاسم لمنع ذلك وإنقاذ حياة الأبرياء, فقد صرَّح السيد جيمس موريس المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي أمام مجلس الأمن المنعقد في جلسة مغلقة قبل يومين أنَّ  "هناك إحتمال فعلي بأن نواجه في دارفور وفي التشاد كارثة إنسانية بتداعيات كبيرة على السلام والأمن في المنطقة, وإمكان سقوط عشرات آلاف القتلى". و"أنَّ جواب الحكومة السودانية يطرح مشكلتين أساسيتين هما: نقص القدرة, وغياب أي (رغبة) سياسية على كل المستويات", وهذا ما يحدث تماماً فالحكومة تظل تنفى حدوث تصفيات عرقية بينما لا تتحرك قيد أنملة لكبح جماح الجنجويد والبيشمركة أو حتى تدين ما يفعلون.
تقريرالمجموعة السودانية لحقوق الانسان عن إنتهاكات حقوق الإنسان بدارفور:
أعلنت المجموعة السودانية لحقوق الانسان فى 25 أكتوبر 2003م عزمها إرسال فريق إلى دارفور للتقصي حول إنتهاكات حقوق الإنسان التي أُرتكبت إبَّان الأحداث التي شهدتها المنطقة، وأعلن رئيس المجموعة المحامى غازي سليمان في مؤتمر صحافي أنَّ المجموعة سترسل لجنة حقوق إنسان برئاسة ذو النون التجاني أحمد وعضوية آخرين للتقصي حول الأحداث الدائرة في دارفور، موضحا أنَّ المجموعة لا يهمها من إرتكب الإنتهاكات التي جرت ولكن يهمها توضيح الحقائق. ودعا إلى ما أسماه "مصالحة تاريخية" يعترف فيها الجميع بمن فيهم الحكومة بالأخطاء التي أُرتكبت, خاصة ما يلي حقوق الإنسان، مشيراً إلى أنَّ الأحداث بدارفورغير مطمئنة. وبالفعل قامت اللجنة المكلفة بإجراء ذلك التحقيق, بعد طواف فى أرجاء دارفور, ورفعت تقريرها الختامى للجهة التى كلفتها بتاريخ 15 نوفمبر 2003م.
بداية لا ندرى إن كشفت المجموعة السودانية لحقوق الانسان عن محتويات ذلك التقرير كاملاً أو أن تكون قد نشرته على الملأ, ونظن أن ذلك لم يحدث, بدليل عدم الإشارة إليه مطلقاً فى سياق المعلومات المأساوية عن أحداث دارفور, لكنَّ تكرم السيد ذوالنون التجانى أحمد عضو المجموعة ورئيس تلك اللجنة التى تقصت الحقائق عن إنتهاكات حقوق الإنسان بدارفور, بكتابة مقال ضافى عن ذلك التقرير نشره موقع سودانايل المميز بتاريخ 27/12/2004م, وبالرغم من أهمية ما جاء فى المقال إلاَّ أنَّ السيد ذوالنون لم يُضمِّن تلك الإحصائيات التفصيلية الدقيقة التى تمكن هو وفريقه المحقق من رصدها, وذلك هو الجانب المهم فى الأمر وهو ما يهمنا ويهم المجتمع السودانى والرأى العالمى الإلمام بها.
من ناحية أخرى لقد وصلنى فى بريدى الإلكترونى فى شهر يناير الماضى جانب من هذا التقرير, مصور على مكنة الماسح (Scanner), وهو الجزء المتعلق بالجداول الإحصائية لأعداد القتل والحرق والنهب والتدمير التى تعرضت لها مئات القرى فى دارفور, ولم أشأ نشرها أو حتى الإشارة إليها متحرياً عمَّا إذا تمَّ نشرها إعلامياً أم بقى حبيس الأدراج والخزن الحصينة, مثل ذلك التقرير الذى أعده قاضى عن أحداث مدينة "كتم" لكن لم تشأ السلطات الكشف عنه حتى الآن. ولذلك, ونسبة لدقة الموقف فى دارفور بجانب الأنكار التام من مسئولى الحكومة لما حدث والإهتمام الدولى المتزايد لحل القضية أجد نفسى مضطراً للإفصاح عن تلك الإحصائيات فى هذه المقالة, مبادراً بالشكر لأسرة المجموعة السودانية لحقوق الإنسان ومثمناً فى الوقت ذاته جهودهم لصيانة كرامة الإنسان السودانى, والدارفورى خاصة, تحت هذه الظروف العصيبة, وتظل هذه المجموعة نبراساً يدافع عن القيم الفاضلة ونشر ثقافة السلام والديمقراطية فى بلادنا المنكوبة.  
إحصائيات التقرير:
تمَّ تلخيص إحصائيات القتل والدمار الذى صاحب الأحداث بدارفور فى ثلاثة جداول تفصيلية وتغطى الفترة ما بين عام 1990م وإلى 15 أكتوبر 2003م, بجانب ملحق صغير بأهم الأحداث بعد يوم 15 أكتوبر حتى 9 نوفمبر 2003م. ونسبة لصعوبة تنزيل تلك الجداول كما وردت فى التقرير فسنوردها مجزأة للجدول الواحد لكنها ستكون كاملة.
جدول رقم (1) يوضح عدد القرى المتأثرة بالأحداث من 1990م وحتى 15 أكتوبر 2003م:
(أ) عدد القرى المحروقة:
1- جبل مرة, ولاية غرب دارفور: 52 قرية  
2- زالنجى, ولاية غرب دارفور: 45 قرية
3- وادى صالح ومكجر: ولاية غرب دارفور: 75 قرية
4- نيالا: ولاية جنوب دارفور: 55 قرية
5- كاس, ولاية جنوب دارفور: 53 قرية  
6- كبكابية, ولاية شمال دارفور: 95 قرية
7- الفاشر, ولاية شمال دارفور: 25 قرية
8- كتم, ولاية شمال دارفور: 35 قرية
جملة القرى المحروقة: 435 قرية
(ب) عدد القرى المهجورة:
1- جبل مرة, ولاية غرب دارفور: 74 قرية
2- زالنجى, ولاية غرب دارفور: 85 قرية
3- وادى صالح ومكجر: ولاية غرب دارفور: 86 قرية
4- نيالا: ولاية جنوب دارفور: 89 قرية
5- كاس, ولاية جنوب دارفور: 87 قرية
6- كبكابية, ولاية شمال دارفور: 128 قرية
7- الفاشر, ولاية شمال دارفور: 42 قرية
8- كتم, ولاية شمال دارفور: 45 قرية
جملة القرى المهجورة: 643 قرية
(ت) عدد الأفراد المتضررين:
1- جبل مرة, ولاية غرب دارفور: 165000 شخص
2- زالنجى, ولاية غرب دارفور: 57000 شخص
3- وادى صالح ومكجر: ولاية غرب دارفور: 185000 شخص
4- نيالا: ولاية جنوب دارفور: 135000 شخص
5- كاس, ولاية جنوب دارفور: 145000 شخص
6- كبكابية, ولاية شمال دارفور: 283000 شخص
7- الفاشر, ولاية شمال دارفور: 57000 شخص
8- كتم, ولاية شمال دارفور: 65000 شخص
جملة الأفراد المتضررين: 1092000 شخص
جدول رقم (2) يوضح عدد القتلى والجرحى والخسائر المادية من 1990م وحتى 15 أكتوبر 2003م:
(أ) البيانات:
1- عدد القتلى: 12248 شخص
2- عدد الجرحى: 8790 شخص
3- عدد الأبقار المنهوبة: 335784 بقرة
4- عدد الإغنام المنهوبة: 702304 غنماية
5- عدد الجمال المنهوبة: 10013 جمل
6- عدد الخيول المنهوبة: 3723 حصان/فرسة
7- عدد الحمير المنهوبة: 4202 حمار
8- عدد العربات المنهوبة: 324 عربة/شاحنة
9- عدد وابورات المياه المدمرة: 165 وابور/طلمبة
10- عدد القطاطى المحروقة والمهجورة:  323400 قطية
(ب) القيمة المالية للوحدة بالدينار:
1- ديَّة القتيل: 3000000 دينار
2- تعويض الجريح: 1000000 دينار
3- البقرة: 30000 دينار
4- الغنماية: 5000 دينار
5- الجمل: 100000 دينار
6- الحصان: 50000 دينار
7- الحمار: 20000 دينار
8- قيمة الأموال المنهوبة من العربة: 500000 دينار
9- وابور المياه: 500000 دينار
10- القطية: 50000 دينار
(ت) إجمالى التقييم بالدينار:
1- القتلى: 36744000000 دينار
2- الجرحى: 8790000000 دينار
3- الأبقار المنهوبة: 10173250000 دينار
4- الإغنام المنهوبة: 3511520000 دينار
5- الجمال المنهوبة: 1001300000 دينار
6- الخيول المنهوبة: 18615000 دينار
7- الحمير المنهوبة: 84060000 دينار
8- العربات المنهوبة: 162000000 دينار
9- الوابورات المدمرة: 87000000 دينار
10- القطاطى المحروقة والمهجورة: 16170000000 دينار
القيمة الإجمالية للخسائر: 76805050000 دينار
(ستة وسبعون مليار وثمانمائة وخمسة مليون وخمسون ألف دينار)
جدول رقم (3) يوضح أهم الأحداث بعد يوم 15 أكتوبر وحتى 9 نوفمبر 2003م:
(أ) عدد القتلى:
1- غرب زالنجى (دربة), ولاية غرب دارفور: 100 شخص
2- وادى صالح, ولاية غرب دارفور: 57 شخص
3- قرى هبرى, زالنجى, ولاية غرب دارفور: 47 شخص
4- قرنى وأم حراز, جبل مرة, ولاية خرب دارفور: 5 أشخاص
5- قرى كليكوتنج, كاس, ولاية غرب دارفور: 58 شخص
إجمالى عدد القتلى: 267 شخص
(ب) عدد النازحين:
1- غرب زالنجى (دربة), ولاية غرب دارفور: 45000 نازح
2- وادى صالح, ولاية غرب دارفور: 31000 نازح
3- قرى هبرى, زالنجى, ولاية غرب دارفور: 10000 نازح
4- قرنى وأم حراز, جبل مرة, ولاية خرب دارفور: 7000 نازح
5- قرى كليكوتنج, كاس, ولاية غرب دارفور: 45000 نازح
إجمالى عدد النازحين: 138000 نازح
ملاحظات على التقرير:
نود أن نشير إلى جملة من الملاحظات عن التقرير أعلاه:
(1) المجموعة السودانية لحقوق الانسان معروفة بأنَّها هيئة مستقلة تعنى بالإهتمام بشؤون حقوق الإنسان السودانى والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والتعايش السلمى والسلام المحلى والعالمى, وهى بهذه الصفة تعتبر أكثر الجهات صدقاً ونزاهةً وتجرداً فى البحث عن الحقيقة وإثباتها دون خجل أو تحيز الشيئ الذى يعطى تقاريرها وتوثيقاتها مصداقية تفتقدها كل الأجهزة الحكومية التى تعنى بتلك المجالات.
(2) إعداد وصدور ذلك التقرير من هذه المجموعة, وفيما يختص بدارفور تحديداً, يعتبر عملاً توثيقياً مهماً فى عكس صورة قريبة لما حدث وما زال يحدث فى هذا الإقليم المنكوب.
(3) شمولية التقصى فى الإنتهاكات أعطت صورة متكاملة لمدى خطورة الأوضاع فى معظم أنحاء دارفور, كما أنَّ تصنيف الجرائم من قتل إلى نهب وحرق وخلافه تعكس عمق البحث عن الحقيقة بجانب القيمة المادية لما حدث.
(4) بدا واضحاً من المناطق المتأثرة بالقتل والدمار أنَّها مناطق القبائل الأفريقية حصراً (الفور, المساليت, الزغاوة, ألخ) وذلك ما يستدعى التساؤل: لماذا هذه المناطق تحديداً؟ وما إذا كان ذلك يرقى إلى درجة التصفية العرقية؟
(5) يبدو واضحاً أنَّ وتائر القتل والحرق والنهب الواسع هى من أعمال مليشيات الجنجويد والبشمركة فلم يعرف عن الثوار أنَّهم أغاروا على القرى بقصد قتل الأهالى, وإنَّما عكس ذلك تماماً, فهم أهاليهم وقد رفعوا السلاح أساساً للدفاع عنهم من مسلسلات القتل والإبادة التى تصاعدت منذ عام 1986م.
(6) لا نشك مطلقاً أنَّ المنظمة السودانية لحقوق الإنسان قد رفعت تقريرها ذلك إلى أعلى السلطات التنفيذية والتشريعية والأمنية للحكومة السودانية, لكن يبدو أن هذه الجهات لم تحفل به كثيراً ولم تتعظ بما يحدث.
(7) ما حدث أعلاه من مآسى فى دارفور دقَّت ألف جرس تنبيه للحكومة السودانية لتصحو من غفوتها وتتحزم للمِّ شمل الوطن وصيانة كرامة أبنائه, ولعلَّ الأجراس ظلَّت تدق منذ أمد بعيد, فالجنوب, وجنوب النيل الأزرق, ومناطق البجاة, وجبال النوبة ظلَّت كلها تمثل أجراس تدق, لكن لمن تدق؟ ثمَّ تراكمت كل المآسى فى دارفور فى أبشع الممارسات تصوراً, والنتيجة الحتمية هى إنفراط عقد الوطن وإضمحلال مفهوم المواطنة, وسوف لن يعود كل ذلك كما كان لو كانوا يعقلون.
(8) إذا أرادت الحكومة القيام بتحقيق شفيف فى مآسى دارفور فسوف لن تجد أفضل من منظمة المجموعة السودانية لحقوق الإنسان, فهم أولاً قانونيون مستقلون, وثانياً لهم خبرة فى هذا النوع من التحقيقات وفى ذات المنطقة المعنية بذلك, ثالثاً تتمتع المنظمة بإحترام محلى ودولى مما يدعم الوثوق فى نتائج تحقيقاتها, رابعاً تتمتع بالأمانة والنزاهة, ثمَّ أخيراً هى جاهزة للقيام بذلك للتو دون مضيعة للوقت فى الترتيبات والإجتماعات غير المجدية.
أخيراً:
سيتأكد بمرور الأيام وعن طريق التدخل والتحقيق الدولى مدى فداحة الجرم الذى تمَّ إرتكابه بقصد تدمير دارفور, وسيتأكد أيضاً أنَّ الحرب الذى شنته الحكومة لم يكن فقط من أجل حسم التمرد الذى نشب ضد الفتنة التى بادرت بزراعتها فى الإقليم, بل من أجل تدمير أى مقومات للحياة والخدمات سواء فى مناطق التمرد أم الأهالى المسالمين, فحينما تقصف طائرة حربية مورداً للمياه وتقتل الأطفال والنساء وتدمر ذلك المورد فإنَّ ذلك يخرج من دائرة مكافحة التمرد إلى إهلاك الأبرياء أنفسهم عن طريق سياسة "التعطيش", ولقد تمَّ تدمير عدد كبير من الدوانكى والآبار والسوانى فى مناطق لا يوجد بها الثوار, إضافة إلى تدمير المدارس والمستشفيات والأسواق, ولعلَّ حادثة مدينة "كتم" تكشف بجلاء مثل هذه الإنتهاكات, فالثوار ما إنسحبوا من المدينة بعد إحتلالهم لها إلاَّ عندما بدأ القصف العشوائى للمدينة بواسطة طائرات الأنتينوف أدَّى إلى تدمير جزء من المستشفى, ولذلك أنسحبوا حتى لا يعرضوا المدينة للتدمير الكامل, لكن للأسف حدثت بعدها تلك المجزرة والنهب عقب خروجهم بتوقيع مليشيات الجنجويد.

 

آراء