قوبل الإعلان عن قيام المحكمة الجنائية الدولية في منتصف العام 2002 بالكثير من الترحيب وغير قليل من التطلع والأمل لدى المواطن الأفريقي الذي ظل يعاني الأمرين من جور الحكام ، خاصة وأن معظم هؤلاء الحكام وصلوا لمواقعهم على ظهور الدبابات ومارسوا الكثير من أساليب التسلط والطغيان. وإن كان رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا هو المثال الأسوأ للحاكم الطاغية في التاريخ الحديث للقارة حيث أثر عنه أنه كان يحبس معارضيه داخل أقفاص في حدائق قصره ، وألصقت به بعض الجهات تهمة أكل لحوم بعض معارضيه ، فإن الكثير من حكام الدول الأفريقية الأخرى لم يكونوا أقل سوءاً منه في تعاملهم مع معارضيهم. غير أن المحكمة الجنائية الدولية لم تكن في مستوى التوقعات إذ عصفت بها أهواء السياسة من كل حدب وصوب. فبالإضافة لمحاولة بعض القوى الكبرى استغلال المحكمة كوسيلة للضغط على الحكومات المسماة بالمارقة والتي تشكل تصرفاتها على الساحة الدولية قلقاً للقوى المذكورة ، فإن القادة الأفريقيين إستغلوا فرصة التركيز الذي تبديه المحكمة حتى الآن على قضايا القارة دون غيرها فاتهموها بالانتقائية والاستهداف ، وصدر عن قمتهم في مايو من العام الماضي قرار يمنع مثول أي رئيس أفريقي أمام المحكمة الجنائية الدولية بينما لا يزال في موقعه الدستوري. غير أن الانتقاد الذي تعرضت له المحكمة من جهات عدة لم يقتصر على الجوانب السياسية فقط ، بل تناول بعض الجوانب القانونية والأساليب التي اتبعها المدعي العام لتجميع الأدلة لدعم دعاواه أو تلك التي اتبعتها المحكمة خلال مختلف مراحل المحاكمات.
في الأسبوع الماضي أصدرت المحكمة قرارها بتوجيه تهم للجنرال جيرمين كاتانغا وهو أحد أمراء الحرب الكونغوليين تتعلق بارتكابه لجرائم حرب بسبب ما ارتُكِبَ من مخالفات خلال الهجمات التي قامت بها المليشيات التابعة له على مدينة بوغورو في مقاطعة إيتوري بشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2003. غير أن المحكمة برأت الجنرال كاتانقا من تهمتي العنف الجنسي وتجنيد الأطفال بسبب عدم كفاية الأدلة. كان من الطبيعي أن تتباين وجهات النظر حول قرار المحكمة الذي يشكل الإدانة الثانية فقط خلال عمر المحكمة الذي بلغ حتى الآن 12 عاماً ، خاصة وأن هذا القرار لم يكن بالاجماع حيث اعترض عليه أحد القضاة في هيئة المحكمة. ولعل أهم ما يوجه للمحكمة من انتقاد هو أنها لا تزال بعيدة للغاية عن الهدف الأساس الذي من أجله تم إنشاؤها وهو وقف جرائم الحرب وتحقيق السلام في مختلف أنحاء العالم ، ويذهب بعض المنتقدين إلى أن هذه الجرائم ازدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة بالرغم من وجود المحكمة كما أن العالم لا زال بعيداً عن تحقيق السلام. ولعل البطء الشديد الذي تتعامل به المحكمة مع القضايا المعقدة المطروحة أمامها وفشلها في إصدار حكم ناجز على أي من المتهمين بارتكاب جرائم الحرب حتى الآن يشكلان أهم الأسباب التي تجعل تأثيرها على مجرى العدالة الدولية غير محسوس.
لا شك أن مكتب المدعي العام هو الأكثر سعادة بقرار المحكمة الذي أشرنا له أعلاه ، فقد عايش في الماضي انهيار خمس من القضايا التي تقدم بها للمحكمة إما في مرحلة جلسات الاستماع الأولية أو خلال المحاكمة نفسها. المعروف أن إعلان براءة المتهم أو إسقاط التهم عنه لا يعني بالضرورة أنه لم يرتكب الجريمة ، ولكنه يشير إلى عجز الاتهام في إثبات البينات ضد المتهم بصورة لا يرقى لها أدنى شك إذ أن الشك يفسر عادة في صالح المتهم. ويعود معظم الفشل في إثبات الجرائم في الحالات التي أشرنا لها أعلاه للوسائل الذي اتبعها المدعي العام السابق لويس أوكامبو كما سيتضح من النقد الذي وجه له من بعض الجهات المهتمة بالأمر والذي سنعرض جانباً منه في هذا المقال. ولعل السيدة فاتو بن سودة المدعية العامة الحالية والتي كانت تعمل في السابق مساعدة لأوكامبو تواجه اتهامات شبيهة فيما يتعلق بأدائها مما يجعل الكثير من المراقبين يرون أنها قد تجد نفسها في نفس الوضع الذي كان يعاني منه سلفها ، وهو الأمر الذي قد يلقي ذلك بالكثير من الظلال حول مقدرة المحكمة الجنائية الدولية على تحقيق العدالة فيما يتصل بالجرائم ضد الانسانية.
تمثل الكونغو الديمقراطية حالة نموذجية لدراسة أداء المحكمة الجنائية الدولية ، وبصفة خاصة مكتب المدعي العام فيما يتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولعل الحالات التي نحن بصددها توضح بجلاء القصور الذي شاب أداء مكتب المدعي العام مما أدى لفشل خمس محاولات سابقة لإدانة المتهمين كما أشرنا أعلاه. كانت الخيارات أمام المدعي العام عديدة عندما بدأ نشاطه في عام 2004 فقد كانت هناك الحالات الواضحة لانتهاكات حقوق الانسان التي ترقى لمستوى الجرائم ضد الإنسانية في كل من العراق وأفغانستان بجانب الكونغو الديمقراطية ، غير أنه ولأسباب معلومة فقد اختار المدعي العام الخيار الأسهل وهو الكونغو الديمقراطية خاصة وأن حكومة الرئيس كابيلا قررت أن تستعين بالمحكمة لتحقيق العدالة في المناطق الملتهبة من شرق البلاد والتي يعتقد أن العديد من الجرائم ضد الإنسانية قد ارتكبت فيها. لم يكن قرار الحكومة الكونغولية خالياً من الغرض بالطبع ، فقد رأى الرئيس كابيلا أن الاستعانه بالمحكمة سيساعد في تخليصه من بعض ألد أعداءه وأشرس منافسيه على الحكم ، ولم يخيب أوكامبو ظن الرئيس حيث تمكن من وضع معظم المذكورين على قائمة المطلوبين للعدالة. تأكد نجاح استراتيجية الرئيس كابيلا كذلك عندما صدرت تصريحات لبعض المسؤولين بالمحكمة تفيد بأن المرحلة الانتقالية الحرجة في الكونغو تقتضي ضرورة التعاون مع الحكومة القائمة ، مما أزال عنه شخصياً خطر الملاحقة الجنائية واكد وجوده على رأس السلطة في البلاد.
من المشاكل التي واجهت عمل المدعي العام في الكونغو الديمقراطية وأضعفت من موقفه أمام هيئة المحكمة اعتماده الكبير على عدد من منظمات المجتمع لجمع المعلومات في مناطق النزاع ، وقد تعرض المدعي العام وموظفيه للكثير من الانتقاد لأنهم لم يقوموا بزيارة هذه المناطق بأنفسهم ولو مرة واحدة بل اكتفوا بالاعتماد على ما عرفوا باسم الوسطاء. كان معظم موظفي منظمات المجتمع المدني من الأجانب الذين لا يجيدون اللغات المحلية مما أثر سلباً على قيمة المعلومات التي تمكنوا من تجميعها. وفضلاً عن ذلك فإن هؤلاء بالاضافة لشخصيات أخرى لعبوا الدور الأكبر في تحديد الشهود الذين مثلوا أمام المحكمة أو خلال جلسات الاستماع ، بل بلغ الحماس ببعض الوسطاء أن قاموا بتدريب الشهود على ما يجب أن يقولوه داخل المحكمة كما حدث خلال محاكمة توماس لوبانغا عندما اعترف أحد الشهود من الأطفال بأنه تلقى تدريباً حول كيفية الإدلاء بالشهادة التي تؤكد تجنيده بواسطة المتهم ، مما شكل حرجاً بالغاً لمكتب المدعي العام. وقد استبعدت هيئة المحكمة في النهاية شهادات الأطفال التسعة الذين مثلوا أمامها بدعوى تجنيدهم بواسطة لوبانقا باعتبار أن شهاداتهم لا يمكن الاعتماد عليها بسبب الشكوك التي اكتنفتها ، ويرى الكثير من المراقبين أن ذلك كان وراء الحكم المخفف الذي صدر بحق الرجل. من جهة أخرى فقد رفض المدعي العام في بعض الحالات طلب المحكمة تسليم الوثائق التي اعتمد عليها كدليل يدعم اتهاماته ، وذلك لأنه حصل على هذه الوثائق من جهات أخرى مثل بعثة الأمم المتحدة أو المنظمات المدنية بعد التوقيع على اتفاقيات بعدم تسليمها لأي جهة أخرى.
من الواضح أن المحكمة الجنائية الدولية تواجه بالكثير من العقبات في عملها من أجل تحقيق العدالة ، فبالاضافة لما أشرنا له أعلاه من قصور رافق عمل مكتب المدعي العام فإن علاقة المحكمة بالقارة الأفريقية التي تمثل مركز نشاطها في الوقت الحالي ليست على ما يرام. ولعل قضية الرئيس الكيني أوهورو كينياتا تعكس بوضوح هاتين المشكلتين ، فمكتب المدعي العام يعاني الآن بصورة واضحة من تناقص عدد الشهود الذين كان يعتمد عليهم في قضيته ضد الرئيس كينياتا ، بينما يبذل الرئيس كينياتا أقصى جهد لتفادي المثول أمام المحكمة. بدأ الرئيس كينياتا جهده لإحباط عمل المحكمة عندما أثار موضوع الآثار السالبة التي يمكن أن تنتج عن الغياب المتطاول له ولنائبه المطلوب أيضاً لدى المحكمة عن البلاد مما يهدد المصالح الحيوية للشعب الكيني. كما أن قرار القمة الأفريقية الذي أشرنا له أعلاه اتخذ وفي الذهن قضية الرئيس كينياتا أمام المحكمة ، وكان للحكومة الكينية دور كبير في الموافقة على القرار. لا شك أن تحقيق العدالة ، على أهميته ، لا يمثل الهدف النهائي للمحكمة والفلسفة من وراء قيامها. فقيام المحكمة لم يكن فقط لمجرد تقديم المتهمين للمحاكمة والقصاص منهم بقدر ما كان هو السعي لتحقيق العدالة والسلام في كل أنحاء العالم وبصفة خاصة في الدول التي تعاني من الصراعات العسكرية. لذلك فإن هيئة المحكمة قد تجد نفسها أحياناً في مواجهة ظروف خاصة تقتضي التوازن الدقيق بين تحقيق العدالة والحفاظ على السلام الاجتماعي.
mahjoub.basha@gmail.com