دورا

 


 

 

هذا معسكر (كريو) للاجئي جنوب السودان حيث عاشت الجميلة دورا. حكت لي الأمهات كيف سقطت ثمرة بابايا ناضجة فوق حبة كاكاو ذات خريف ماطر، وأرسلت الشمس شعاعا أخترق السحب وأمعن النظر في صلابة الكاكاو وذائب رحيق البابايا ...هاللويا... لقد جاءت ألي الدنيا دورا.باركتها (فينوس) وسجد لها (الهوبر) والقوافي وفاض بالجمال علي فقره وقفره (كريو).
تخرج دورا من خيمتها البلاستيكية الزرقاء كل صباح، تحمل (جركانا) أبيض تسري به مع لداتها ألي بركة المياه البعيدة نسبيا عن المعسكر.هذا المشوار لطيف في الصباح الباكر حيث النسيم يوشوش بين الكرانك والرواكيب وخيام اللجوء البغيضة بالتساوي، يخرج الصغارعراة أو شبه عراة ببطونهم المنتفخة من سوء التغذية، يكسوهم تراب لعب اليوم السابق فيحيل سمرة بشرتهم ألي اللون الرمادي، الماء في (كريو) أعز من أن يهدر في النظافة اليومية. ينطلق الصغار خلف الأغنام والدجاج بين اللعب وواجب رعاية الحيوانات فتعلو أصواتهم بالضحك والصراخ في نشاط لا علاقة له بالجوع الذي يستوطن أجسادهم ولا القذارة التي يعايشونها بسلام وأذعان. تعود دورا من النبع والشمس تستعمر الرمال والأرواح والأشجار،يتأرجح (الجركان) الممتلئ بالماء فوق رأسها بالتناغم مع خطوها المتباطئ في محاولة حفظ توازنها حتي لا تفقد قطرة واحدة من حصادها الثمين، يسيل العرق علي وجهها وعنقها فيحيلها خنجرا من العقيق نادر جماله. من تحت الشجرة الجدباء في مدخل المعسكر يتابعها بعينيه أشول الواقف مع أخويه، يراقبها في أشفاق وحب..... يحصي أبقاره وهو يقيس بعينيه أرتفاع قامتها فيشهق قلبه لعلوها،يضحك ببساطة... يسارع شقيقاه لمساعدة شقيقتهما المستقبلية فتبتسم دورا ويضحك أشول جذلا.... يحلمان بالعودة ألي القرية القديمة لينجبا أطفالأ أصحاء تحت سقيفة تظللها أشجار المانجو قرب النبع الجاري بين الأجداد الحكماء والجدات الثرثارات وبقية الأقارب والأحباب. دورا أجمل من حصة الحبوب ومن ناموسيات الخريف ومن جميع عطايا المنظمات المبهجة.
وفي المساء عندما تفرج الشمس عن الظلام بعد أجهاض الغروب الطويل الأحمر، تخرج دورا مع صديقاتها سارا وليليان وميمي من خيامهن ليفترشن الرمال الباردة تحت نور هلال رحيم، يتحلقن حول جداتهن العجائز اللائي يدخن ويسقين الجميع بعض شراب الذرة المخمر. يبدأ الحديث همسا ثم يتشارك الجميع الحوار فتعلو الأصوات باللغط والمغالطات والضحك بلغة قريتهم. تجذب الأصوات فتيان المعسكر فيتسللون تباعا ليشاركوا في الأنس والحكي حتي تبدأ أحدي الجدات بترديد أغنيات القرية القديمة بحنين وحماس فيشاركها صوت ثم صوت أخر حتي يغني الجميع أغاني القرية البعيدة بحزن يحيل الغناء ألي مدامع شوق توشك بالعصف بأمسية السمر الدافئة فيسارع الفتية بأطلاق النكات و تشغيل أغنيات حديثة من أجهزة هواتفهم التي يشحنونها من الطاقة الشمسية.
هكذا سارت الأيام في معسكر (كريو) حتي أتاه اليوم المشهود. يوم أسود حزين، حط فيه سرب كبير من الجراد المزعج يقوده ذكر ضخم علي كتفيه المثقلين بالذنوب تتزاحم النجوم والمقصات وألات حادة أخري.هجم الجراد بقوة وسرعة علي المعسكر فنهبه بغضب وهمجية حتي أتي علي كل ما فيه،استباح مخازن الطعام والخيام، أخذ الحقائب المدرسية والأقمشة الملونة والأطفال ثم أشعل حرائقا مخيفة. أما القائد القبيح فقد أجال النظر بعدسات عينيه الكثيرة وشاربه الخبيث في جنبات المعسكر الفقير..... وعندما مرت عاصفة الجراد وأحصي اللاجئون خسائرهم ودماءهم لم تكن هناك دورا.

redseawaters@hotmail.com

 

آراء