دومة “ود حامد” والمدرسة الليبرالية الإنجليزية في التغيير
عبد المنعم عجب الفيا
14 April, 2022
14 April, 2022
قصة "دومة ود حامد" نص فريد وشامخ لفنان ومفكر عظيم. أقول فنان ومفكر لأن كل روائي عظيم هو في الحقيقة مفكر اختار أن يعبر عن رؤاه وأفكاره بالفن. والجمع بين الفكر والفن في صعيد واحد هو شرط نجاح كل رواية وكل قصة. وافتقار الكاتب لأي من هذين العنصرين يعني الفشل.
كانت الدومة تمثّل رمزًا للهويّة الثقافيّة والعرقية والروحيّة لسكان قرية "ود حامد". كانوا يتخذونها مزارًا ومشفى، ويرونها في أحلامهم فيتفاءلون أو يتشاءمون برؤاهم. ولكن أخيرًا تقرِّر الحكومة إدخال التحديث على القرية وإقامة مشروع زراعي وطلمبة ماء ومستشفى، ويصر خبراء الحكومة أنّ الدومة أنسب مكان لإقامة المشروع الزراعي، فتقرِّر الحكومة إزالة الدومة والضريح، غير آبهةً بمعتقدات أهل القرية.
ولكن القرية تهبّ هبّة رجلٍ واحد في وجه وفود الحكومة، وتتعاون معهم في ذلك قوى الطبيعة من هوامِ الأرض وناموسها "النِمتِّي". فيضطر مهندسو الحكومة إلى هجر القرية، وتصرف الحكومة النظر عمّا عزمت على إقامته من مشاريع تحديث.
في خواتيم القصّة يسأل الراوي أحد حكماء القرية: "فقلت له ومتى تقيمون طلمبة الماء والمشروع الزراعي ومحطّة الباخرة؟"
فأطرق برهةً ثمّ أجابني: "حين ينام النّاس في أحلامهم فلا يرون الدّومة".
وقلت: ومتى يكونُ هذا. فقال: "ذكرتُ لك أن ابني في البندر يدرس في مدرسة. حين يتخرّج ابني من المدرسة ويكثر بيننا الفتيان الغرباء الرّوح، فلعلّنا حينئذٍ نقيم مكنة الماء والمشروع الزراعي، ولعل الباخرة حينئذٍ تقف تحت دومة ود حامد".
ولكنّ الكاتب لا ينهي القصّة عند هذا الحدّ، فيسأل الراوي ذلك الشيخ الحكيم في نهاية القصّة: "فقلت له: وهل تظن أن الدومة ستُقطع يومًا؟".
"قال: لن تكون ثَمّة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثَمّة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء جميعًا أنّ المكان يسع لكلّ هذه الأشياء. يتّسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطّة الباخرة".
وهنا يعلّق الناقد السوري/ الدكتور محي الدين صبحي على نهاية القصّة بقوله:
"هذه السطور تلخّص فلسفة سياسيّة كاملة، هي المدرسة البريطانيّة الليبراليّة التي تزعم أنّه لا يمكن حرق المراحل والإسراع بالتصنيع. وحين يبلغ النّاس الوعي حدًّا يشعرهم بالحاجة إلى شيء فإنّهم سيسعون إليه بأنفسهم مثلما سعى إليه بنفسه ابن الشيخ المتكلّم". – الطيب صالح، عبقري الرواية العربية ص 21
abusara21@gmail.com
///////////////////////////
كانت الدومة تمثّل رمزًا للهويّة الثقافيّة والعرقية والروحيّة لسكان قرية "ود حامد". كانوا يتخذونها مزارًا ومشفى، ويرونها في أحلامهم فيتفاءلون أو يتشاءمون برؤاهم. ولكن أخيرًا تقرِّر الحكومة إدخال التحديث على القرية وإقامة مشروع زراعي وطلمبة ماء ومستشفى، ويصر خبراء الحكومة أنّ الدومة أنسب مكان لإقامة المشروع الزراعي، فتقرِّر الحكومة إزالة الدومة والضريح، غير آبهةً بمعتقدات أهل القرية.
ولكن القرية تهبّ هبّة رجلٍ واحد في وجه وفود الحكومة، وتتعاون معهم في ذلك قوى الطبيعة من هوامِ الأرض وناموسها "النِمتِّي". فيضطر مهندسو الحكومة إلى هجر القرية، وتصرف الحكومة النظر عمّا عزمت على إقامته من مشاريع تحديث.
في خواتيم القصّة يسأل الراوي أحد حكماء القرية: "فقلت له ومتى تقيمون طلمبة الماء والمشروع الزراعي ومحطّة الباخرة؟"
فأطرق برهةً ثمّ أجابني: "حين ينام النّاس في أحلامهم فلا يرون الدّومة".
وقلت: ومتى يكونُ هذا. فقال: "ذكرتُ لك أن ابني في البندر يدرس في مدرسة. حين يتخرّج ابني من المدرسة ويكثر بيننا الفتيان الغرباء الرّوح، فلعلّنا حينئذٍ نقيم مكنة الماء والمشروع الزراعي، ولعل الباخرة حينئذٍ تقف تحت دومة ود حامد".
ولكنّ الكاتب لا ينهي القصّة عند هذا الحدّ، فيسأل الراوي ذلك الشيخ الحكيم في نهاية القصّة: "فقلت له: وهل تظن أن الدومة ستُقطع يومًا؟".
"قال: لن تكون ثَمّة ضرورة لقطع الدومة. ليس ثَمّة داع لإزالة الضريح. الأمر الذي فات على هؤلاء جميعًا أنّ المكان يسع لكلّ هذه الأشياء. يتّسع للدومة والضريح ومكنة الماء ومحطّة الباخرة".
وهنا يعلّق الناقد السوري/ الدكتور محي الدين صبحي على نهاية القصّة بقوله:
"هذه السطور تلخّص فلسفة سياسيّة كاملة، هي المدرسة البريطانيّة الليبراليّة التي تزعم أنّه لا يمكن حرق المراحل والإسراع بالتصنيع. وحين يبلغ النّاس الوعي حدًّا يشعرهم بالحاجة إلى شيء فإنّهم سيسعون إليه بأنفسهم مثلما سعى إليه بنفسه ابن الشيخ المتكلّم". – الطيب صالح، عبقري الرواية العربية ص 21
abusara21@gmail.com
///////////////////////////