ذكريات جامعة الخرطوم

 


 

 

 

1967-1972

 

Gibriel47@hotmail.com

 

توطـئة

هذه المقالات محاولة لاسترجاع الذكريات في جامعة الخرطوم في الفترة من أواخر الستينيات إلى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، حيث كان العود أخضرا. وكان كل شيء سليما ينبض حيوية ونشاطا في (قهوة النشاط) وغيرها من مرابع الصبا والشباب آنذاك. لقد كانت تلك فترة عصر ذهبي في السودان بكل المقاييس.

 

لقد أضفت بنات جامعة الخرطوم – آنذاك – السمر والبيض من السودانيات وغيرهن من الأجنبيات وبنات الفرنجة على الجامعة ألقا ونضارة وحلاوة وجمالا.

 

وقبيلة (البراكسة) هي مجموعة الطلاب الذين كانوا يسكنون الثكنات التي غادرها جيش المستعمر وأصبحت داخليات الطلاب بالقرب من سينما النيل الأزرق ومستشفى العيون.

 

ولا يعني الحديث بضمير المتكلم أن كل تلك التجارب والمعاناة العاطفية والأزمات النفسية المذكورة في هذا السفر قد مر بها المؤلف، فرافق الليل وسهر الليالي الطوال وسبح مع موج الذكريات. بل مر ببعضها ومر بها بعض الأصدقاء الأعزاء، وكنت شاهد عصر عليها وعايشتها معهم.

 

كانت هذه التجارب تبدو في تلك الأيام معضلات جسام عصي حلها، ومتاهات صعب الخروج منها. كما يجب أن أنوه بأن أسماء الأبطال المذكورة هنا، والذين مروا بتلك المواقف ليست حقيقية.

 

 ومر الزمان وعدنا بذاكرتنا إليها، فوجدناها ليست بتلك الصورة التي كانت عليها آنئذ، سبحان الله!!! وعندما قرأ الأبطال المواقف الآن ضحكوا كثيرا بأسنان ليست كاملة، وتضاريس زمان أظهرت بجلاء مسيرة الأيام عليهم!!!

 

اقتضت بعض المواقف إخراجا أدبيا، ولم تكن الأمور حقيقة بتلك الصورة لأسباب عديدة احتفظ بها لنفسي، واستميحكم العذر في ذلك.

 

فإلى كل الأصدقاء من الجنسين، وكل الذين عاصروا تلك الفترة الذهبية في أي كلية من كليات جامعة الخرطوم أهدي هذه المحاولة الطريفة علها تضع على ثغورهم بسمات وآهات رضا، وعلى صدروهم تنهدات شوق دفين، فقد وضع الفرسان (رجالا ونساء) أو على وشك أن يضعوا أسلحتهم، وقد (ذهب النوار وبقي العوار).

 

المؤلف

 

 

 

وزارة (التخطيط)

 

ليس المقصود بوزارة التخطيط هنا الوزارة المعروفة – مع الاعتذار لها. فوزارة التخطيط هي إحدى الزميلات التي كانت لا تترك مساحة من وجهها إلا وقد أعملت كل أساليب الزينة فيها. ونتيجة لهذه العمليات التبرجية سماها بعض الطلبة الأشقياء الآنسة (وزارة التخطيط).

 

ذات مرة أراد أحد الطلاب أن يلعب عليها، و(يشربها) بعض المقالب (الخدع). كتب هذا الشقي رسالة غرامية قوية لها، وانتهز خروج الآنسة (وزارة التخطيط) إلى النشاط مع أحد أصدقائها، فقام بوضع الرسالة بين كتبها وكراساتها.

 

جلست ثلة من هؤلاء الأشقياء ترقب الوضع. فعلا عادت (الوزارة) من قهوة النشاط نشيطة جدا. ويبدو أن صديقها قد رفع معنوياتها كثيرا. رأت هذه الوريقة الغريبة المدسوسة وسط كراساتها وكتبها. وضع ذلك الشقي الرسالة الغرامية بصورة تمكن الآنسة (الوزارة) من عدم إخطائها.

 

دهشت (الوزارة) لوهلة. كان ذلك واضحا في وجهها المخطط تماما بكل المساحيق، وغيرها من أدوات الزينة. ظلت المجموعة الشقية ترقب الوضع من حيث لا تدري الآنسة (الوزارة). فتحت الرسالة الغرامية، واستغرقت في قراءتها زمنا. يبدو أن الرسالة حملتها في قوارب خيالية لبحار ومرافئ الحب الجميل.

 

تشوقنا لمعرفة ماذا كتب ذلك الشقي في تلك الرسالة. علمنا فيما بعد أنه بعد المقدمات الغرامية وبيان إعجابه بها طلب منها أن توافيه غدا ليقوى الحب الذي ذهب بعقلة، وأنه أصبح لا يقوي على العيش بدونها. فهي دائما (متربعة) في مخيلته. وأنه أغرم بها من أول نظرة.

 

حدد ذلك الشقي المكان، وكان في عشب (نجيلة) ميدان كرة القدم الغربي المجاور للنشاط. في ذلك المساء كنا مستعدين تماما، وقبل وقت كاف، للذهاب لقهوة النشاط والجلوس في مكان يمكنا من مراقبة الوضع بكل سهولة.

 

جاء الموعد، وظهرت الآنسة (الوزارة) تتهادى بكل سرور في أول الشارع المؤدي من داخلية الطالبات إلى قهوة النشاط، ثم انعطفت إلى الميدان الغربي حيث خطط ذلك الشقي، وحيث وضع كرسيين متباعدين بمقربة من الموقع حتى لا يثير شكوكها.

 

تناولت الآنسة (التخطيط) الكرسي الأول، ووضعته بجانب الكرسي الآخر. ظلت منتظرة ظهور ذلك العاشق (مجنون الوزارة).

 

مضت ساعة وهي منتظرة. لم يظهر ذلك الشقي. ظهر السأم عليها، ولكنها قاومته وهي تمني النفس بظهور فارس الأحلام الغائب. بعد ساعة أخرى غادرت المكان مكتئبة إلى داخلية الطالبات. لا ندري ماذا جرى للآنسة (التخطيط) في تلك الليلة، وكيف كانت ليلتها. لكن يبدو أنها كانت ليلة (متنيلة بستين نيلة).

 

كرر الشقي فعلته ثانية في اليوم التالي، ووضع لها رسالة يعتذر فيها بحرقة عن عدم إيفائه بالموعد، وأنه لا محالة قادم اليوم في المكان والزمان المحددين.

 

جلست ثلة المراقبة ترقب الوضع. ظهرت ثانية (وزارة التخطيط) تتهادى في الطريق إلى المكان والموعد المحدد. كانت إنسانة فدائية لم تيأس أبدا. كررت الجلوس في المكان المحدد، وظللنا نرقب الوضع. وثانية انقضت ساعتان، ولم يظهر (ابن الذين). تبرع أحد الزملاء بإسدال ستار على هذه المسرحية السخيفة. قرر أن يذهب إليها، ويؤنس وحشتها ولو لدقائق معدودات.

 

أتاها فسلم عليها:

-      أهلا يا عواطف.

-      ردت: أهلا وسهلا صديق (وحاولت أن تستشف من كلامه إذا كان هو الفارس المنتظر أم لا)

-      قال: تشربي شنو يا عواطف؟

-      قالت: فانتا لو تسمح ( ويبدو أنها محتاجة حقيقة للفانتا لتطفئ لهيب الشك الذي أشتعل بداخلها ولم تبح به).

 

عاد صديقنا حاملا الفانتا. لاطفها لبعض الوقت، وكان حريصا ألا يأتي بكلمة أو حركة تؤكد ظنونها أو تنفيها. ثم خرجا معا قاصدين داخلية الطالبات. تركها وهي تغلي في بحر من الشك تتساءل: أيكون هو العاشق الولهان؟!!

 

آراء