رائد التجديد الديني في السودان” 2-3″

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
كل شيء يدعو الأستاذ الترابي في ذلك العهد لأن يتخلى عن طنطنته لما يريد أن يستحدثه من أمور، وأن يكبح ما يجول في ذهنه من خواطر، ويئد ما يضطرب في صدره من شعور، فخطرفته التي لا يُفهْم بعضُها إلاّ في عناء، لن تحقق للحركة الإسلامية سعادة دائمة، ونعيماً مُقيما، فحري بصحابها ذو القلب الذكي، والعقل الراجح، أن يكتُمها ويشقى بكتمانها، ولا يخاشن الناس بالإعراب عنها، فتجديده الذي ينشده يسير حينما تلوكه الألسن في سماجة، ولكنه عسير موغل في العسر، إذا أراد أن يحقق معانيه في النفوس، وجدير بالأستاذ حينها بما حباه الله من فضل، ورزقه من أيْد، أن يلتمس لحركته ما يلائمها من حلول، حتى تتغلغل في أوساط المجتمع السوداني، ويترك هذه القضية التي شغل بها نفسه، فأقل ما توصف به أنها عقيم، فليس الواقع الذي نعيشه الآن يحتم عليه العكوف على مثل هذه المبهمات، واحتمال المشقة المضنية، والعناء المرهق، في شرحها وإبانتها، وحتى تصان الحركة الإسلامية من عبث التجديد الذي أتى به الترابي، وتعصم أصولها من الضياع، تصدى له ثلة عُرِفت بسمو الروح، وأريحية الفؤاد، فقد راعها أن تتواتر على الحركة الإسلامية المكاره من تصريحات زعيمها، واجتهاداته المغايرة لمناهج السلف، فأخبروه في وضوح وجلاء أن أحاديثه تلك التي يصدع بها في كل صقع وواد، سوف تكلف الكيان الذي ينتمون إليه هماً ثقيلا، وعناء طويلا، ولكن الأستاذ الترابي لم يكترث لهذه التحذيرات، ومضى مع اعتقاده هائماً به، وحريصاً عليه، فهو يشعر أن منظومة الفكر الإسلامي ينبغي أن تتجدد، وتتغير أطوارها وحوادثها، لا أن تظل جامدة كرواسي الجبال، فنحن لا نستطيع أن ننزه أنفسنا من معرة الجمود إلاّ إذا اتخذنا من التجديد غاية، ووجهناه توجيهاً صائباً نحو كل معضلة يثار في نقعها ضرام الخصومة واللجاج، ولما رأى الأستاذ مالك بدري وجماعته أن الترابي منصرفاً إلي تدبير رؤاه وأفكاره، جاداً في تطبيقها، لا يكاد يحفل بغيرها من القضايا والمتعرجات، تفقدوا صبرهم فإذا هو نافد، وراجعوا أحلامهم، فأنبأتهم أنهم غير مضطرين إلي أن يذعنوا لهذا الرجل، فانسلخوا عنه، ولزموا غرس الحركة الأم، وتسموا باسمها.
لم يكتفي الدكتور الترابي بما تورط فيه من العناد، فقد أخذ في إنشاء تنظيم مستقل عن الحركة الأم بعد أن أجلى الله عنه غمرة السجن الطويل، فهادن الرئيس النميري، بعد الحرب الضروس التي لم تدم وتيرتها طويلاً عام 1976م ، ودخل معه في مصالحة أفضت لتعيينه في مناصب دستورية عليا، هذه المصالحة مع النظام المايوي كفلت له أن ينهض بهذا العبء الذي آثر أن يحمله على عاتقه، لقد كان عقل الدكتور الترابي يعلم بأنه قد مال بالناس في مؤلفاته عن الطرق المعروفة، والمذاهب المألوفة، في الفقه والقياس، فقد انبرى الترابي في طرح قضايا لم تكن سائدة في ذلك العهد، فهو لم يجتر المفاهيم التي كانت تكثر من تداولها النخب المثقفة، على شاكلة ” الحاكمية” و”العدالة الإجتماعية” و”القاعدة الصلبة”، لم يطوف الدكتور الترابي حول هذه المفاهيم، بل انخرط في سبك أطر ومعايير لقضايا نجح هو في تدشينها، مثل قضية تجديد الفكر الإسلامي الذي نعته بالغرابة في كتبه ومحاضراته وخلع عليه صفة القدم، وأنه جاء في مجملة استجابة لعصور اندثرت وطوى ذكرها الزمان، ومن المفترض أن يبزغ نجم فكر جديد لا يتنافى مع الواقع، ولا يحتدم مع الثوابت، ودعوة التجديد التي صدع بها الترابي خالفه فيها في نفر من جهابذة العلم، حينما دعا في سفور إلي بناء صرح أصولي جديد، وحجته في ذلك أن معظم القواعد الأصولية مرتبطة بالواقع الذي صغيت فيه، وأنها لا تناسب البيئة المادية الاجتماعية والثقافية الحاضرة، كما أنه عبّر في مؤلفاته التي كان فيها حافل الخاطر، ثبت البديهة، حاضر الذهن، عن حاجة الأمة لتفسير يتناغم مع عقلية عصرها، فكل التفاسير التي حاكها السلف تعود إلي المجتمعات التي نشأت فيها، وتكاملت عندها أبنيتها وصياغتها، كان الترابي إذاً يُروّع الأمة التي ألفت نظاماً معيناً واطمأنت إليه بتقادم العهد بألفاظ مشرقة، ومنطق عذب، وأسلوب خلاب، دعاها في غير أناة أن تضيق بهذا الجمود الذي لازمها لزوم الغريم، وأن تجد له طباً وعلاجاً، فأدنى إلي الحق، وأقرب إلي الصواب، أن حياتنا المعاصرة التي جدت فيها أمور، وحدثت فيها أحداث، وظهرت فيها أنماط لم تكن من حياة السابقين في شيء تستوجب كما يقول الدكتور الترابي في كتابه" قضايا التجديد” أن نستدرك الأمر، ونضفي التدين العقدي، والتدين الشرعي، على كل قطاعات الحياة الحديثة، ونسترد ما فرطنا من جراء انفصام الدين عن الواقع، والعلم الشرعي عن العلم الوضعي” انتهى.
دعوني أيها السادة أقول بلا تزيد أو إسراف أن دعوة الدكتور الترابي للتجديد ليس فيها ما يقتضي سخط العقول، فلم تكن أقواله فيها متدافعة، أو حججه متخاذلة، أو أدلته متناقضة، فكل شيء فيها صادقاً من جهة، وواقع على شواكل السداد من جهة أخرى، فأنت حينما تطالع “حبيبتاك” قوله في ثبات وتطور الدين:” وهكذا هيأ الله لشريعة الإسلام الخاتمة أن تستغني عن التغيير اللاحق والتطوير لحاجة كل قوم وقرن، وأن تكون صالحة لكل زمان ومكان، وما كان لذلك أن يكون بمجرد بقاء الأصول، وانتشار البلاغ المنقول، وإنما صيغت نصوص الشريعة بما يكفل لها الخلود، وبما يعلم الله أنه تعبير عن الحق لا تؤثر عليه حركة الظروف الكونية. فمن الشريعة كليات ثابتة هي تراث الرسالات الدينية الباقي أبداً، ومنها أحكام قطعية ثبتها الله في وجه ظروف الزمان والمكان لأنها أم الكتاب، ومحاور الحياة الدينية التي تضبط حركتها على الدوام، ومنها مبادئ عامة، ومجملات مرنة، وظنيات واسعة، يمكن أن تتنزل على الواقع بوجوه شتى، تبعاً لتطور ظروف الحياة وعلاقاتها، وعلم الإنسان وتجاربه، ومنها شعائر وفرعيات جعلت سمات تمييز وتوحيد للحياة الدينية تخلد صورة الأمة الواحدة بوجوه لا تحدث حرجاً أو رهقاً مهما اختلفت الظروف، ومنها أشكال ورسوم وتعبيرات صيغة من مادة الواقع الظرفي لعهد التنزيل، قوة لوقع الدين في نموذجه الأول، ورمزاً لمعنى قد ينزله الخلف برسم آخر في واقع مختلف، ومنها عفو متروك لحرية الاختيار والاجتهاد في اطار ما تقدم، وفي سياق كل ظرف زمني- رأياً يفسر مغزى الدين بالمقال، أو عملاً يفسره بالمثال”. انتهى.
لا تملك إذا قرأت هذا الكلام في غير روية إلاّ أن تتمنى بأن تتهيأ لك الأسباب لإعادة قراءته في بطء وعناية وتدبر.
نختتم هذه السلسلة بمقال ثالث بحول الله ومشيئته.
د. الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com

 

آراء