رحلت الجياد والبوخه لسه مدورة: في رثاء د. منصور خالد وفاروق أبو عيسى
يُحكى أن الرجل الوقور جاء ذات يوم لذلك النطاسي البارع مؤسس علم النفس في السودان وأفريقيا والذي جعل من الموروث الثقافي والإجتماعي للشعب السودان علما للعلاج النفسي بعد أن ظل يمارسه على مدى زمني طويل الفقرا والدجالين للاستعانة به في طرد الأرواح الشريرة والأباليس من جسد الانسان.
زيارة الرجل كانت غريبة إذ اعتاد الناس أن يذهبوا إليه في قصره المنيف، فهو رجل مبجل لدى اتباعه، لكن استعصاء الأمر عليه جعله يذهب بنفسه لاستشارة ذلك العالم النفسي الذي لم يكن ليمانع إذا طُلب منه المجيء احتراما لمهنته وعلمه وتقديرا لمكانة الرجل.
قال الزائر "إن ابنه الذي اصطحبه معه في تلك الزيارة صار يردد إنه "الله."
ارتسمت ابتسامة على شفتي الطبيب الذي خاطب الطفل قائلا "لقد سمعنا بالمهدي المنتظر الذي سيملأ الدنيا عدلا بعد أن ملأت ظلما وجورا، كما سمعنا بعيسى بن مريم الذي سينزل بعده معلنا نهاية الكون، غير أن ما تقول به لم يطرق آذاننا من قبل.
ورغم غرابة الأمر إلا أن الطبيب بحكم تخصصه وموسوعيته في الشأن الإجتماعي السوداني لم يستغرب ما قاله الطفل "الإله"، استغرابه انصب في مجيء الرجل إليه واستشارته في الأمر، وهو أحد الذين يركع لهم اتباعهم تبركا ويعتقدون في قدراته على علاج كل شيء بما في ذلك الجن الكلكي.
فما الذي استعصى عليه في أمر ذلك الحفيد حتى يستنجد به؟.
حدث ذلك في العام 1945 وتزامن مع تكوين حزب الأمة من بعض المثقفين الذين كانوا يرفضون الوحدة مع مصر تحت التاج المصري.
بمرور الزمن تنازل الحفيد عن الالوهية لكنه ظل متماهِ مع اسم من أسماء الله الحسنى هو "الدائم"، فهو دائم في كل شيء، بدءً برئاسة الحزب وليس انتهاء بلقب الرئيس الشرعي المنتخب. بل لديه قناعة بأنه هو الذي سيملأ الدنيا عدلا مثلما ملئت جورا وظلما، ومن وقتها لم يكسب السودان عافية.
د. منصور خالد والأستاذ فاروق أبو عيسى، من مجايلي ذلك الحفيد، رجلان اختلفا في حبهما للوطن واتفقا على حبه أيضا لكل وجهته وتصوره وعقيدته.
درسا القانون في جامعتي الخرطوم والإسكندرية وتمهنا به طيلة مسيرتهما المهنية.
أحدهما ليبرالي النزعة والفكر والسلوك، والآخر نشأ ماركسيا منذ عهد الطلب المبكر وعمل على تطبيق ما آمن به.
منصور مثقف موسوعي وكاتب موسوم بالموضوعية والدقة في تناوله للأشياء، وفاروق سياسي بارع ومحنك عرف كيف يمخر عباب السياسة متلاطم الأمواج.
عاشا في مجتمع معقد أهم ما يجمع بين أهله التناقض والتنوع في كل شيء، تضاريس أرضه ومناخاته وسحنات أهله ولغاتهم ولغوهم وشدوهم المختلف.
فيه من يؤمن بأنه رسول العناية الإلهية وبالتالي له مطلق الحق في التحكم على رقاب البشر الذين عليهم قبول آرائه وهم صاغرون، وفيه من جعل الديالكتيك مرشدا له في فهم تطور الحياة وتحديد مآلاتها.
د. منصور وفاروق، وهما من رواد الإستنارة في السودان، حاولا جاهدين أن يعالجا ذلك الهوس الغيبي الذي استعصى على الجد الكبير والنطاسي البارع، غير أن الأمر كان قد استفحل وصار شيئا آخر، وكانت تلك أكبر معضلة واجهها فقيدا الأمة منذ بدء انخراطهما في العمل السياسي وحتى لحظات فراقهما لهذه الدنيا.
في الآونة الأخيرة لم يكونا يواجهان الإنقاذ، فأهل الإنقاذ ثبت في نهاية الأمر أنهم دهريون دينهم المال وديدنهم الاستمتاع به، ولا يهمهم كثيرا التطلع لألوهية غيبية أو همهمات سرمدية لا تطعمهم خبزا أو تبني لهم قصرا او تنكِحهم إمرأة.
جَهِد د. منصور وأبو عيسى نفسيهما، كل بطريقته، لكي يقنعا ذلك الطفل "الإله" بأن "اللعب واطه"، وأن السياسة ليست تهويمات رغائبية أو شطحات امامِ في صحوه ونومه، هي معادلة حسابية بحته، لها مدخلات ومخرجات. مبدأها ومنتهاها تنمية متوازنة ومستدامة للمجتمع ونقل المدينة إلى الريف بتوفير الخدمات ووسائل الإنتاج لذلك الريف التعيس، لكنهما لم يتمكنا من ذلك رغم كل ما أوتيا من قوة الحجة والقدرة على الاقناع، فقد كبر الطفل واستعصى على الفطام وأصبح من العسير إنزاله إلى ارض الواقع.
ألا رحم الله الفقيدين بقدر ما قدماه لأمتهما من جهد واستنارة، وبقدر عنتهما في تسمية القطة باسمها، وغفر لهما وأدخلهما فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والهم أهلهما وذويهما وأحبابهما وعارفي فضلهما، وهم كُثر، الصبر والسلوان وحسن العزاء.
وانا لله وإنا إليه راجعون
محمد موسى جبارة