ليس من بدعة ابتكرها الإنسان أكثر انغماساً في حياته من الرسم والتلوين ، منذ العصور الغابرة . وليس من فقد أجلّ من الذي زاوج بين مؤسستين عريقتين : كلية الفنون الجميلة وجامعة الخرطوم " كلية العمارة "، وهو اسمها من بعد الترفيع والنهوض .
(1) رحل في 17 من أغسطس 2015 ، الفنان الخلوق " تاج السر أحمد " تاركاً فراغاً لن يسده أحد . ففي كلية الفنون تخرج على يديه زمرة من الأيقونات المتمرسة على إبداع التلوين منذ سبعينات القرن الماضي ، وفي كلية العمارة ، كانت مؤاخاته الرعيل الأول من أهل الفن الذين ابتكروا هندسة العمارة ، ونزعوها من الهندسة المدنية ، من أمثال " فرانكلويد رايت " و " ليكور بوزير ". هؤلاء النحاتون والرسامون ، من الذين جعلوا لفن العمارة معنى . هربوا به من خشونة التصميمات الإنشائية رائدة الجسور والمباني العظام ، إلى التناغم الناعم بين الفن وهندسة العمارة . من تلك المقدمة الموجزة ندلف للفقد العظيم لأستاذ في قامة الفنان " تاج السر أحمد " . وهو فقد بكل المقاييس . كان بوجوده العالم أجمل ، وليس وطنه فحسب .
(2)
في مقابلة عام 1981 ، أجراها معه الفنان " حسن موسى " وهو أحد تلامذته ، قال : { أنا ما كنت مهتم كتير بمسألة الكينونة في الرسم، و لا أرسم قناع او غابة عشان أقول أنا كدا او كدا. أنا راجل ممكن أعيش في أي مدينة و أرسم، ممكن تخُتني في مدينة في إنجلترا أو في ألمانيا، و تخليني أقعد هناك بقْعُد، و حتى في الوسط الثقافي الغربي فأنا عندي مفاضلات : أنا بفضل المزاج الالماني في الفن، و دة بزعّل أصدقائي الإنجليز }
(3)
تنقل الفنان " تاج السر عثمان " مثلما تنقل الشاعر المتنبي :
وَفي الجسْمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بشَيْبِهِ .. وَلَوْ أنّ مَا في الوَجْهِ منهُ حِرَابُ لهَا ظُفُرٌ إنْ كَلّ ظُفْرٌ أُعِدُّهُ .. وَنَابٌ إذا لم يَبْقَ في الفَمِ نَابُيُغَيِّرُ مني الدّهرُ ما شَاءَ غَيرَهَا .. وَأبْلُغُ أقصَى العُمرِ وَهيَ كَعابُغَنيٌّ عَنِ الأوْطانِ لا يَستَخِفُّني .. إلى بَلَدٍ سَافَرْتُ عنهُ إيَابُ * كالنسر سبح الفنان " تاج السر أحمد " في سماء المدائن والأوطان : الخرطوم - سواكن -القاهرة - لندن - نيروبي - كمبالا- الرياض - عمان - برغوث - بحر الغزال .
(4)
على يديه تتلمذت زمرة من مبدعي فن العمارة ومن مبدعي الفن التشكيلي . لذا كان الرحيل اصطفافاً لأرتال المبدعين الذين رحلوا ، تاركين الوطن والعالم من حولهم ، لبقاء الكثيرون مما لا يصلحون . وإنها لمكيدة الدنيا ، التي تحتطب ليلاً ، والبيئة تسأل عمن يُنبت أكثر لتكون الدنيا أرحب .
(5)
بعض سيرته الذاتية : تاج السر أحمد في سطور - تشكيلي سوداني يجمع بين الرسم والتصوير وفنون الحفر والتصميم الغرافيك. - تخرج في الكلية الملكية للفنون بلندن عام 1962،نال المدالية الفضية للامتياز وزمالة الكلية الملكية في نفس العام. - نال جائزة الاقامة بالكلية مشفوعة بمعرض شخصي لأعماله في التصوير والحفر في قاعة التايمز بضاحية "وندسور" في منتصف عام 1963.
(6)
قال عنه " جورج بوتشر ": تاج السر أحمد في وندسور تطرق مقال حديث في مجلة " أخبار الفن" الأميركية الى "الخضرة اليانعة للفن الإسلامي" في مقال عن الفن الفارسي، وما انتاب هذه الخضرة من ذبول طوال القرن الماضي... غير أننا بدأنا نحس هنا في لندن بنبض احيائي جديد لهذا الفن، ليس في فارس ولكن في السودان منذ عدة شهور لأعمال نادرة للرسام ابراهيم صلحي في معرضه بمعهد الفنون المعاصرة، وبالرغم من استخدامه للألوانالزيتية - وهو من خريجي كلية سليد للفنون - إلا أن موهبته في استخدام الخطوط طغت على تشكيل عناصره مع جنوح الى الاستعانة بالأقنعة والرموز في اتجاه بين أعمال سوزا واستاينبرغ. نحن الآن في زيارة لقاعة التايمز قرب قلعة وندسور لفنان سوداني آخر هو تاج أحمد في معرضه الأول، وهو معرض توديعي يغادر بعده الى السودان ليفي بالتزامات بعثته الدراسية بالتدريس، وهو جد قادر على ذلك بعد تدريبه في قسم الحفر بالكلية الملكية تحت عناية الاستاذ جوليان تريفليان، مع ما تعلمه من مواد أخرى كالرسم والتصوير الزيتي بخصائصه التعبيرية المتنوعة، وليس بديلاً عن الرسم. تشكل ابداعاته من وجهة نظر اسلامية، دعامة مادية للتعبير عما تكتنفه الذاكرة وما يمور في المخيلة، وهي دلالة على أن الحب والثناء والإطراء مشاعر تم التعبير عنها منذ القدم بالكلمة المنسوخة، والزخرف المنمّق، وكل ما هو نفيس. فوسائل الابداع في العروض غربية مستحدثة، والعبادات والتقوى مآثر شرقية قديمة. وتأثر أحمد برواية Metamorphosis أو "دورة التحول" للروائي فرانز كافكا، بما تحمله من رمزية دفينة لدلالة شبيهة- وإن كانت على جانب مشرق- بما تركته مآذن مدينة تونس من تأثير في أعمال الفنان بول كلي، ولأحمد لوحة تسمى " حشرة وليفة في فراغ مفصول" وهي لوحة مزعجة. وثمة خاصية اسلامية ثانية تتسم بها تشكيلات أحمد ، من نوعية اللمسات غير واضحة المعالم التي تدعو المشاهد لتفسيرها كما يشاء، تحت دلالة عنوان العمل الفني المطروق عن اللوحة، مما يضفي على العمل سمة التمحور المغاير لتشكيل الصورة الفوتوغرافية. ومن هذا الغموض المتناغم ينبري المشاهد ليتمم ما غمض عليه، وهي سمة شبيهة بهمهمة رواد حفلات الغناء أو الانشاد، يتولاه كبير المنشدين ومعاونوه، ولعل اللوحة المسماة " أشلاء متناثرة" لدمية في فضاء منظر طبيعي" دلالة وافية لمشاركة المشاهد وقد أكمل استيعابه لمضمون العمل الفني، هذه المشاركة في اتمام ما غمض على المستوى الفردي كفيلة بإضفاء التميز على العمل".
(7)
قال عنه " دكتور خالد خريس " الناقد تشكيلي من الأردن مدير متحف الفنون الجميلة في عمّان. : تاج السر أحمد: عينٌ مُدربة يدٌ موهوبة وفكر خلاق تاج السر أحمد هو أحد الفنانين السودانيين المتميزين القلائل، أعماله ذات نكهة خاصة تعكس روح السودان بترابه ونيله وناسه. لو لم يكن تاج السر رساماً لكان روائياً، إذ لديه القدرة على تصوير أدق التفاصيل بأسلوب يلفه الغموض، فاللوحة لديه مسرح يضج بالحياة، وهي تحتمل تآويل عديدة تمنح المتلقي متعة الاستكشاف، وهو لا يستمد مواضيعه الاّ من محيطه وحياته اليومية، وذكريات الطفولة والشباب. وهو ينسج أشكاله وألوانه وشخوصه نسجاً، فنجد في تكويناته وتنويعاته اللونية تلاحماً وترابطاً تلقائياً، لكنه عند تاج السر يأتي من عين مُدربة ويد موهوبة وفكر خلاق. فهو لا يساوم ولا يجامل، كبير في تواضعه وشديد في دفاعه عن الفن والحرية. تعلم تاج السر أحمد في الكلية الملكية للفنون في لندن، وقام بتدريس الفن في السودان وبلاد افريقية وعربية منها الأردن، وكان إخلاصه في تدريس الفن أحد الأسباب التي جعلته مُقلاً في انتاجه الشخصي، لكن الفنان الذي في داخله يقاوم كل الظروف من أجل أن يجد متسعاً للإبداع. * عبدالله الشقليني 20 أغسطس 2015