رسالتان في الممنوع من مؤتمري جوبا والخرطوم
9 October, 2009
ما بين مؤتمري الحركة الشعبية بجوبا، والمؤتمر العام للمؤتمر الوطني بالخرطوم ما صنع الحداد، ومع ذلك البون الشاسع في ما هو ظاهر من اختلاف في ملابساتهما، وفي طبيعة ائتمارهما، إلا أن القراءة الفاحصة في مجرياتهما ومداولاتهما وما خرجا به من توصيات تنتهي إلى استنتاج وحيد يؤكد شراكتهما فعلاً، ولكنها شراكة تحمل مدلولات سلبية تحمل رسالة ذات مضمون واحد للشعب السوداني مفادها أن التفكير ممنوع
في تغيير الواقع السياسي المأزوم، وأن الحلم شبه مستحيل بغد أفضل يجنب البلاد مصيراً مشؤوماً تُساق له بأيدي طبقة سياسية مكابرة لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً ويعوزها الوازع الوطني العميق والحس السليم باللحظة التاريخية الراهنة واستحقاقات إبعاد السودان من حافة الهاوية.
قد يرى البعض تهويلاً في هذا الاستنتاج، ونزوعاً لرؤية متعجلة قطعية غير منصفة لا تنظر لغير نصف الكوب الفارغ ، ولكن مهلاً لنقرأ معاً بهدوء مجريات ومداولات وتوصيات ومخرجات المؤتمرين في ضوء الواقع السياسي المأزقي والتحديات المصيرية التي تجابهها البلاد، وحتى لا تكون المواقف السياسية للمؤتمرين في جوبا أو الخرطوم مجرد بيع للكلام في الهواء دعونا نبحث عن ردود على سؤال واحد هل قدم أيٌّ من المؤتمرين أجوبة شافية فعلية وواقعية على الأسئلة الحقيقية بصورة تطمئن السودانيين فعلاً أنهم مقدمون على الخروج من أزمتهم الوطنية؟. بصورة أخرى هل أطلق أيٌّ من المؤتمرين بارقة أمل بأن أسوأ أيامنا قد انقضت. أم أن إعادة إنتاج المؤتمرين للمواقف ذاتها التي أدت إلى انسداد الأفق السياسي يعني أن الأسوأ لم يأت بعد!.
لا أظن أن هناك من يجرؤ على القول إن أبواب الأمل اتسعت، ببساطة لأن مؤتمر جوبا والخرطوم قيل فيهما ما ظل السودانيون يسمعونه من أطراف اللعبة السودانية من مواقف معلومة نتيجتها العملية ظاهرة بين أيديهم، هذا الواقع المأزوم شديد التعقيد، ولم ينجح أيٌّ من الطرفين في فتح طاقة أمل جديدة عنوانها مواقف سياسية جديدة وجريئة، تتجاوز تكرار المواقف المحفوظة المعلبة وتتحرر من الأجندة الحزبية الضيقة،
وقادرة على استيعاب التحديات الراهنة واستحقاقاتها، وتسلحه بإرادة حقيقية للتغيير، ومستعدة لتقديم التضحيات اللازمة من أجل المصلحة الوطنية العليا.
لقد انشغلت الساحة السودانية في الأيام الماضية بالمؤتمرين باعتبارهما حدثين سياسيين مهمين، وأهميتهما تأتي من كونهما انعقدا في ظرف دقيق بين يدي استحقاقات وطنية بالغة الأهمية لجهة أن مصير ومستقبل البلاد، بكل ما يعنيه ذلك، معلق بالنتائج المترتبة عليها، بداية بتحقيق السلام في دارفور، ومروراً بانتخابات عامة يُفترض أن تكون الوسيلة التي تفضي إلى إقامة نظام سياسي يكتسب شرعيته من الشعب وحده، وانتهاءً بالاستفتاء على تقرير المصير الذي تحدد نتائجه مصير السودان كله، وليس الجنوب وحده، وتبعات ذلك.
وانتظار ما يخرج به المؤتمرون في جوبا والخرطوم تأتي أهميته أيضاً من كون أن البلاد أصبحت رهينة، بكل ما تحمله الكلمة من معان، لهندسة سياسية لمستقبل البلاد انفرد المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بالتفاوض حولها وأنتجت اتفاقية السلام التي تحولت إلى خريطة للطريق يفترض أن تؤدي إلى تحقيق التحول الديمقراطي وتضمن استدامة السلام والاستقرار، وذلك وفق استحقاقات دستورية واجبة التنفيذ بنزاهة وجدية وروح تعاون وثيق، ولكن كل تلك الترتيبات تتعرض الآن للتبخر في الهواء بفعل التطور الخطير في الصراع بين الشريكين المؤتمنين على قيادة البلاد إلى بر الأمان، وقد تصاعدت خلافاتهما إلى حد لا يمكن لأي عاقل إلا أن يدرك أن البلاد مقبلة على كارثة حقيقية، ما لم يتم تداركها، بفعل معركة كسر العظم الدائرة بينهما، والمشكلة الحقيقية أن الاستحقاقات الدستورية المقبلة لا يمكن أن تتحقق بسلام بدون اتفاقهما، واستمرار النزاع على النحو الذي يجري لا يعني سوى شئ واحد أننا مقبلون على مستقبل مجهول في ظل تخندق كل طرف في مواقفه، فقد أصبحت حال السودان كطائرة مختطفة، وخاطفيها ليسوا سوى طاقم قياداتها، ولك أن تتخيل مصيرها حين يدب الخلاف بين قائدها ومساعده.
ولذلك كان الأمل ان يكون مؤتمرا جوبا والخرطوم على قدر المسؤولية المناطة بهما، وكان في الوسع أن يكونا سبيلاً لردم الهوة، وطريقاً لإعادة الأمل للعملية السياسية المتعثرة. ولكن النتيجة على أية حال جاءت مخيبة للآمال المعقودة عليهما، ولأن العنوان الحقيقي لمثل هذه المؤتمرات تتمثل في التوصيات والقرارات التي تخرج بها، وحتى لا يظن ظانٌّ أننا نتجنى على المؤتمرين تعالوا نقرأ معاً ونحلل مجريات توصيات وقرارات كلا المؤتمرين لنرى إن كانا يصبان فعلاً في المصلحة الوطنية.
يتسم المؤتمر الوطني بأنه أكثر الأحزاب حرصاً على عقد مؤتمراته الحزبية في مواقيت معلومة، وهو كذلك من أكثرها عقداً للمؤتمرات من ناحية العدد، ولكن السؤال ما هو إسهام هذه المؤتمرات العديدة في إرساء ممارسة سياسية رشيدة طالما دعا لها المؤتمر الوطني غيره من الأحزاب، ومجرد عقد المؤتمرات بصورة منتظمة لا تعني شيئاً طالما أنها لا تطلق أفكاراً جديداً، ولا ينتج عنها تغيير في السياسات التي يثبت أنها معطوبة بدليل سلسلة الأزمات المتلاحقة التي ورَّطت فيها البلاد، ولا تعزّز الممارسة الديمقراطية القائمة على الحرية الحقيقية، وتمكّن من التداول الفعلي في تحمّل المسؤولية وتجديد القيادات وضخ الدماء في الشرايين المتكلسة بفعل الثشبث بالمناصب.
فالمؤتمر العام الثالث للمؤتمر الوطني، انتهى قبل أن يبدأ، بأن أعاد تكريس الواقع بكل تفاصيله وشخوصه وسياساته، حتى غدا السؤال ما الحكمة من عقد المؤتمرات، وانفاق الجهد والأموال عليها، إذا كانت تنتهي إلى نتائج معلومة سلفاً، ودع عنك محاولات إظهار أن تغييراً حصل بتبديل وجوه هنا أو هناك، لا تعدو أن تكون مجرد تغييرات لموظفين حزبيين بيروقراطيين لا يمثلون بأية حال قيادات قادرة على التجديد، وإطلاق طاقات أمل بتغيير حقيقي، تلك هي وظيفة المؤتمرات في أية ديمقراطية حقيقية.
لقد جاء انعقاد الدورة الثالثة للمؤتمر العام للمؤتمر الوطني في وقت عصيب ومفصلي بالفعل، وكان الأمل أن يرتفع إلى مستوى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، ولكن جاءت فعالياته ومخرجاته مفتقرة للوعي بالآمال المعقودة عليه، وفاقداً للإرادة والعزيمة على إحداث تحول دراماتيكي في مجريات الأحداث تسهم في إخراج البلاد من حالة الانسداد السياسي، وتحول إلى مجرد مهرجان سياسي تقليدي من تلك المؤتمرات التي يُحشر لها الناس ضحى من أجل الزينة، فاكتفى بتكريس واقع معلوم متجاهلاً التحديات الراهنة التي تجابه البلاد، لقد جاءت توصيات وقرارات المؤتمر باردة الحس السياسي، تتحدث عن واقع مفترض لا وجود له، مؤمنة على السياسات والخيارات التي صنعت أزمتنا الوطنية الحالية، وتحاول تصوير الأمور وكأن كل شئ يسير على ما يرام، ولو كانت هذه السياسات والمواقف السياسية التي تمسك بها المؤتمر وأعاد التأكيد عليها ذات جدوى لما وجدت البلاد نفسها في هذه المآزق التي تحيط بها، والتي جعلتها نهباً للإرادات الدولية والتدخلات الخارجية من كل حدب وصوب، بل وأصبح انتظار حل لأزمتنا الوطنية آتياً من الخارج هو الأمل الوحيد وللمفارقة حتى من الحزب الذي يتحدث عن استقلال القرار والسيادة الوطنية.
لقد انفض المؤتمر دون أن يشهد نقداً ذاتياً أو مراجعة حقيقية للأسباب والسياسات التي أدت إلى هذه الأوضاع التي تحدثت التوصيات عن العزم لإيجاد حلول لها دون أن يجد الجرأة ليشير إلى مكمن الداء ومعرفة كيف وصلنا إلى هذا الطريق المسدود. لا يمكن ببساطة إصدار بيان ختامي منمق الكلمات يصلح للتلاوة في محفل شعري، ولكنه بأية حال ليس بيانا سياسيا يستوعب التحديات الراهنة ويعلن مواقف ذات معنى ومغزى تسهم فعلاً لا قولاً في الخروج من الأزمة.
والمؤتمرات السياسية الحقيقية مطلوب منها أن تكون ساحة لتجديد الخطاب والبرامج السياسية للأحزاب حتى عندما لا تكون هناك قضايا تستدعي ذلك، دعك من أن تكون هناك حاجة قصوى في حالة بلد يواجه تحديات مصيرية مثل السودان، لأن التجديد ببساطة هو سنة الحياة، ولكن المؤتمر الوطني آثر أن يتشبث بكل تراثه ومواقفه السياسية وما كان في ذلك ضير لو أنها حققت فعلاً الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية التي يستحقها الشعب السوداني ولكنها سياسات ثبت أن كثيرا منها مثير للجدل وعدم التوافق وأدت لإثارات النزاعات والقلاقل من أي وقت مضى في تاريخ السودان الحديث.
من الواضح أن المؤتمر تقاصر لأن يصبح مجرد تمرين استعداداً لانتخابات يرى المؤتمر الوطني لا مناص منها لتمديد بقائه ممسكاً بمقاليد السلطة، وهو أمر مشروع بالطبع، ولكن أية انتخابات، إن الحديث عن التحول الديمقراطي وكأنه مجرد اقتراع انتخابي أمر لا يمكن أن يحقق الاستقرار السياسي بمعزل عن الأجواء السياسية التي يجري فيها، والأصرار على إجراء الانتخابات على هذا النحو يعني بوضوح أن الطبقة السياسية المتصارعة تستدعي نماذج الاضطرابات التي عاشتها الدول التي شهدت هذا النمط من الانتخابات.
ربما كان الاكتشاف الوحيد المثير للاهتمام الذي أفصحت عنه فعاليات المؤتمر الوطني هذا الإيمان المفاجئ بالحرية، وبأن الكبت لا يمكن ان يولد نظاما سياسيا قويما، ومع أن قيمة الحرية أمر لا يمكن أن يكتشف فجأة، ولكن مع ذلك نتمنى أن تكون هذه قناعة حقيقية وليست من عوارض حمى الانتخابات، وهذا يعني استعداد المؤتمر الوطني فعلاً لدفع استحقاقاتها، فللحرية تبعات لا يتحملها إلا من كان مؤمناً بها فعلاً، والأمل أن يوطن المؤتمر الوطني نفسه على ذلك، وألا تكون مجرد نزوة انتخابية يحاول بها التقرب من الناخبين.
لقد افتقر المؤتمر العام للمؤتمر الوطني لروح التجديد ليس فقط على صعيد السياسات ولكن أيضاً في شأن إطلاق زعامات جديدة، مكتفياً بإعادة إنتاج أوضاعه السابقة مع تغييرات هامشية في طبقة البيروقراطية الحزبية.
وعلى أية حال حتى لا نظلم المؤتمر الوطني، فهو ليس فريداً في نهجه هذا بل هو امتداد ووليد شرعي لطبقة سياسية مأزومة على امتداد طيفها، لا يستثنى من ذلك أحزاب اليمين أو اليسار أو ما بينهما، فالزعامة قدر لا فكاك منه في الإرث السياسي السوداني، وخُذ عندك الأربعة الكبار من زعماء ما يسمى بالأحزاب التاريخية فكلها تتقرب إلى الشعب بدعوى الديمقراطية، وتناضل من (أجل التداول السلمي للسلطة)، ولكنه تداول محظور يدخل في دائرة الممنوع عندما يقترب من حظيرة هذه الأحزاب، فالتداول على السلطة حلال عندما تكون بيد الآخرين، وتغدو حراماً عندما يتعلق بخويصة هذا الزعيم أو ذاك، كيف لا وقد أمضى أقلهم عهداً بزعامة حزبه أربعة عقود حسوماً، ثم نتساءل مع ذلك لماذا نظامنا السياسي يدور في حلقة مفرغة من الفشل المتوارث، والإجابة دائماً حاضرة لتبرير هذا الوضع المقلوب مع كثرة دعاوى الديمقراطية في بلادنا أن الحزب وجماهيره لا تستطيع التخلي عن الزعيم لأن حاجاته لقيادته لا تنتهي ولا يمكن الاستغناء عنه، ثم نزعم ولعنا بديمقراطية و(يستمنيستر) التي أنجبت زعيما مثل وليم هيج ولي زعامة حزب المحافظين وعمره ستة وثلاثون عاماً وتخلى عن الزعامة وهو في الأربعين راداً على من حاولوا اثناءه عن ذلك بقوله (لا يوجد رجل لا يمكن تعويضه ) وقبله قال الزعيم الفرنسي (شارل ديجول) الذي استقال عقب ثورة الطلاب في العام 1968م وهو من هو في التاريخ الفرنسي (إن المقابر ملآى بالرجال الذين كان يُظن أنه لا غنى عنهم).
نورد هذه الحقائق المرة ليس من باب التبكيت على أحد، ولكن لأن أحزابنا السياسة وزعماءها يحاصروننا ليلاً ونهاراً بالحديث عن التحول الديمقراطي وأهميته، ويزعم كل منهم (وصلاً بليلى ) ولكن الديمقراطية لا تقر لهم بذلك.
على أية حال نحن لا نحجر على أحزابنا ولا زعمائنا، داعين لهم بطول العمر، فذلك شأنها، ولكن شأننا أن نقول لهم لا تبيعوا لنا الوهم، فالتحول الديمقراطي لا تصنعه نيات حسنة، ولا تحققه قوانين مهما كانت مبرأة من العيوب، ولا تبنيه شعارات براقة لا تعني ما تقول، ولكن تصنعها ممارسات سياسية ديمقراطية حقيقية معلومة، فالديمقراطية لم نخترعها نحن، وما من شيء أوقع البلاد في كل هذه المآزق من بيع الأوهام السياسية تحت لافتات براقة، ومن الأفضل لتطوير نظام سياسي قادر على مخاطبة التحديات الوطنية أن نأخذ في الحسبان حقائق النظام الحزبي الأبوي أو العشائري أو الطائفي المعاش بدلاً من الجري وراء تحول ديمقراطي مزعوم لا يملك أحد في الطبقة السياسية شيئاً من معطياته حتى يحققه، ومنذ متى يستطيع فاقد الشيء أن يعطيه.
وعلى أية حال إذا كان هذا بعض واقعنا لا فكاك منه، فلا أقل من أن يطمع الناس في تغيير في السياسات التي أفضت إلى واقع سياسي مأزوم لعل ذلك يعيد لهم بعض الأمل الموءود، ولكن هيهات، فتوصيات وقرارات المؤتمر العام للمؤتمر الوطني جاءت وكأنها تخاطب واقعاً سياسياً في بلد غير السودان الذي باتت أزماته وخيباته مضغة في الأفواه في أركان الدنيا الأربعة، وجعلته مطية للتدخلات الأجنبية من كل حدب وصوب.
ولقد سبق لنا القول في شأن مؤتمر جوبا في مقالة سابقة مما لا يحتاج إلى التذكير به هنا، فقط نشير هنا إلى أنه مثل مؤتمر الخرطوم لم يطلق بارقة أمل في الساحة السياسية، إذ جاءت توصياته وقراراته مجرد صدى لمواقف الحركة الشعبية السياسية بشأن القضايا التي يشتجر فيها مع المؤتمر الوطني، ولم تزد على أن حشرت إلى جانبها بعض القوى السياسية الشمالية المعارضة التي ما لبثت أن اكتشفت أن الحركة الشعبية (باعت لها الترام) ولذلك سارع قادتها للحاق بمؤتمر الخرطوم وكأنهم يكفرون عن ذنب اقترفوه في جوبا، وهي حالة تكشف عن ضآلة وزنها السياسي وحالة التيه التي تعيشها، فقد أصبحت عاجزة عن الفعل لدرجة أنها لا تجد مناصاً من الاستجارة من الرمضاء بالنار، ومأزقها أنها حتى الآن لا تستطيع التفريق عمن تكون الرمضاء وعمن تكون النار بين الشريكين المتشاكسين.
عن صحيفة إيلاف السودانية