شكلت أتفاقية السلام للعام 2005 معلما رئيسيا في علاقة القوى السياسية المعارضة بمختلف توجهاتها بنظام الانقاذ الذي رأت في وصوله الى سدة الحكم اغتصابا للسلطة عبر انقلاب عسكري وبالتالي فأن مشروعيته محل تساؤل، وكان هذا هو الاساس الذي قام عليه مقاطعتها للأنتخابات التي كانت تجري. على ان شرعية الامر الواقع فرضت نفسها في نهاية الامر والتوصل الى اتفاق السلام الذي وافقت عليه تلك القوى رغم تحفاظاتها على الاتفاقية بصورة أو أخرى. على ان أهم تطور ان تلك الاتفاقية فتحت الباب أمام أعتراف بقية القوى السياسية بالدستور وقانون الانتخابات بل واستعدادها للمشاركة في انتخابات 2010 التي نكصت عنها في اللحظة الاخيرة بسبب عمليات التزوير التي صحبتها، كما قالت. وأستمر موقف المقاطعة منذ ذلك الوقت بحجة عدم وجود هامش لحرية الحركة والعمل السياسي بما يسمح بالمنافسة الشريفة. وهذا موقف يحتاج الى مراجعة خاصة مع السعي الى انفاذ التغيير بصورة سلمية. بداية يمكن القول انه بالقبول بالدستور وقانون الانتخاب فأن المقاطعة لا تعني شيئا و لا تنقص من شرعية المؤسسات المنتخبة التي يمكنها في نهاية الامر العمل وفق قانون الامر الواقع المقبول داخليا وخارجيا. ثم ما الذي حققته المقاطعة وعدم المشاركة طوال سنوات حكم الانقاذ لا على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية فقط أو حتى البرلمانات القومية والولائية وانما حتى على مستوى المحليات. فالديمقراطية لا تبنى بالقوانين فقط وأنما بالممارسة حتى وان شابت العملية الانتخابية تدخلات تقدح في نتائجها. كثيرون يشيرون الى ان التجارب البرلمانية الثلاثة التي عاشها السودان من قبل كانت محكومة باطار أقليمي خانق لا يرحب بمثل هذا النوع من الممارسات السياسية. ويشير هؤلاء الى ما جرى في غامبيا مؤخرا عندما تحركت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا في جهد جماعي منسق ومدعوما بالقوة العسكرية وأرغام الرئيس المنتهية ولايته يحى جامع على تسليم السلطة الى غريمه الذي فاز عليه أداما بارو، على ان النقطة المهمة هنا ان تدخل مجموعة غرب أفريقيا استند الى أساس قوي وهو توحد المعارضة القامبية المكونة من سبعة أحزاب على برنامج ومرشح واحد خاضت به الانتخابات ضد جامع وفازت فيها. وفي واقع الامر فأن هذه تكاد تكون الصيغة المجربة للأنتقال السلمي للسلطة في مواجهة الانظمة الشمولية أو شبيهتها. فقد حدث هذا في كينيا لأول مرة في العام 2002 عندما نجح مواي كيباكي زعيم تحالف قوس قزح الوطني الذي ضم 15 حزبا ومجموعة مختلفة في انزال الهزيمة بالرئيس وقتها دانييل أراب موي الذي ظل في السلطة لنحو ربع قرن من الزمان. واذا كان توحد المعارضة على برنامج واحد ومرشح واحد يعتبر الشرط الاول لتحقيق انتقال السلطة من نظام مكث فيها سنين عددا، فأن الصبر على أليات التجربة ومؤسساتها يعتبر شرطا ثانيا وضروريا مثلما حدث في غانا التي حققت أنتقالا سلميا للسلطة من حكم عسكري لآول مرة في العام 1992 وتبلور التنافس بين حزبي الوطني التقدمي الجديد والمؤتمر الوطني الديمقراطي الذي تمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية لدورتين. وفي الاخيرة التي جرت في العام 2012 أعترض حزب المعارضة الوطني التقدمي على النتائج لان الانتخابات شابتها تدخلات ورفع قضية الى المحكمة الدستورية العليا التي أفتت بصحة نتائج الانتخابات. المعارضة عبر حزب الوطني الجديد لم تلجأ الى حمل السلاح أو المقاطعة وأنما قبلت قرار المحكمة وركزت جهدها للفوز بالانتخابات التالية التي جرت العام الماضي وهو ما حدث فعلا عندما فاز مرشح الحزب نانا أكوفو-أدو. عند تفجر أعمال العنف التي صاحبت الانتخابات التكميلية في ولاية جنوب كردفان في العام 2011 التي فاز فيها الوالي أحمد هارون نصح المبعوث الامريكي للسلام وقتها برنستون ليمان قيادة الحركة الشعبية أن تلجأ للخيار القانوني بدلا من العنف، وهو الاقتراح الذي لم تقبل به. ولو تم القبول بذلك الاقتراح وقتها لأنفتحت نافذة للتغيير خاصة مع أمكانية التوصل الى ترتيبات سياسية كانت مطروحة بصورة أو أخرى لاستمرار الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في جنوب كردفان خاصة اذا أضيف اليها تولي الحركة مقاليد الامور في ولاية النيل الازرق اثر الانتخابات التي فاز فيها مالك عقار. من ناحية أخرى فأن ترجيح لجوء الحركة للخيار العسكري أسهم فيه ضعف وتشرذم الوضع السياسي للمعارضة التي دخلت بداية انتخابات 2010 بأثني عشر مرشحا مختلفا لمنافسة المؤتمر الوطني ومرشحه عمر البشير، الامر الذي يشير الى ضعف في الايمان بقدرة العمل السياسي الجماعي والصبر عليه لانفاذ التغيير. أحد الخيارات في مواجهة هذا الوضع تغيير اسلوب العمل الفوقي وتقليل التركيز على أساسيات الحكم في الخرطوم وعواصم الولايات مع استكشاف أمكانيات العمل القاعدي الذي يمكن أن يفتح الباب أمام تطورات عديدة. فهناك حاليا 189 محلية على مستوى السودان وبلجانها الشعبية فأنها تمثل أفضل مستوى اداري وسياسي للتواصل مع القواعد في اطار القضايا التي تهمها. وبتحقيق قدر من الوجود الفاعل قاعديا يمكن البناء عليه سياسيا والتقدم خطوة خطوة لمنازلة النظام في الساحة الانتخابية الولائية والقومية. هذه المحليات التي تحتوي على المئات من المدن والالاف من القرى يمكن أن تتيح الفرصة لحدوث تطورات في عدة جوانب من التركيز على استكشاف الموارد الذاتية وتطويرها لتقديم بعض الخدمات واقامة بعض المشروعات. لقد كتبت من قبل قرية ودبلال شمال مدني التي تقدم نموذجا لتوليد الثروة قبل توزيعها وذلك عكسا للتقليد السياسي السائد لدى النخب رافعة شعار قسمة الثروة الذي ينتهي في الغالب في شكل محاصصة ومكاسب ذاتية. مؤخرا نجحت ودبلال في أن تصبح أول قرية في السودان توفر تغطية صحية شاملة لكل الاسر الموجودة فيها وعددها 270 اضافة الى 15 أسرة من النازحين وتحمل كلفة التأمين وهي 360 جنيها لكل أسرة اضافة الى تقديم دعم نقدي بمبلغ 500 جنيه لأفقر الاسر. وتمكنت القرية من القيام بهذه المهمة من خلال الدخل الذي تحصل عليه من مشروعاتها الاستثمارية من حظائر الدجاج وتسمين العجول، وهي تطمح عبر التخطيط أن تحقق قيمة مضافة بتصدير اللحوم جاهزة للاستهلاك. أهمية تجربة ودبلال انها تمت في نفس الظروف السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد وسوء نظام الحكم الذي يشكو منه الجميع، وانه ليس شرطا تغيير نظام الحكم لأحداث تغيير ايجابي في بعض المجالات التي تمس حياة الناس. ولهذا يمكن لتجربة ود بلال أن تصبح نموذجا تحتذيه مدن وقرى أخرى، كما انها توفر فرصة لبناء الممارسة الديمقراطية من القواعد. فمثل هذا النشاط الذي يجري يتيح الفرصة للمسائلة كما انه يتطلب الشفافية ويسهم في توليد قيادات مجتمعية عينها على مواطنيها حيث تكتسب مشروعيتها مما يعطي دفعة لفكرة السلطة القائمة على التفويض الشعبي النابع من صندوق الانتخابات. لكن هذا يتطلب أهتمام القوى السياسية بمثل هذه التجربة والعمل على ترقيتها والاستفادة من بعض التطورات الايجابية كما في بعض الولايات مثلما حدث في شمال كردفان حيث يبدو الخيار متاحا لتأسيس اللجان الشعبية على أسس من التمثيل النسبي مع حضور للشباب والنساء وتحجيم للبعد السياسي. هناك أنتخابات يخطط لها أن تجري في العام 2020 وبغض النظر عما اذا كان البشير سيشارك فيها أو لا فهذا خياره وخيار حزبه، الا ان السؤال الاكثر أهمية ماذا ستفعل المعارضة وهل تتجه الى تحدي النظام في الملعب الذي أختاره وهو الانتخابات والاستفادة من طول مكوثه في السلطة وما يحيط به اتهامات ورغبة الناس في التغيير؟ لكن في المقابل هناك التحدي الاعظم الذي يواجه المعارضين المتمثل في الخروج ببرنامج موحد ومرشح واحد لمنازلة المؤتمر الوطني وكيفية استغلال فترة السنوات الثلاثة لأنجاز هذه المهمة، وهي بالقطع ليست مهمة يسيرة. (غدا: الفرصة الرابعة)