ستة عشر يوما في معسكر عثمان دقنة .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 


ستة عشر يوما في معسكر عثمان دقنة
 Sixteen Days in Osman Digna’s Camp
جودو ليفي Guido Levi   
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشميمقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الصحيفة الأسترالية The Brisbane Courier في عددها الصادر يوم الجمعة 18/ 4/ 1884م من تقرير بعث به التاجر النمساوي جودو ليفي عن زيارته لمعسكر الأمير المهدوي عثمان دقنة (1840م بالدقيناب – 1926م بوادي حلفا). والمقال مليء – كما سيلاحظ القارئ-  بخليط من الوقائع المحددة والخيال الشاطح، مثل كثير من كتابات الغربيين في تلك الأيام.
الشكر موصول للدكتور أبو محمد أبو آمنة هنيس لتكرمه بإرسال المقال بلغته الأصلية، ولاقتراحه لي بترجمته للعربية.  
المترجم
******       ***********        ***************
أرسل إلينا مراسلنا الخاص في سواكن هذا التقرير الذي أعده التاجر النمساوي السيد ليفي عن زيارته لمعسكر عثمان دقنة. ويؤكد مراسلنا أن السيد ليفي، وهو رجل جدير بالثقة، حل بسواكن قادما من معسكر عثمان دقنة في أثناء غياب مراسلنا في ترنكتات Trinkitat.  والنص التالي هو ما ذكره السيد ليفي عن زيارته تلك:
"أعددت لزيارتي لعثمان دقنة عدتها، فقمت بتحميل جملي بزاد للطريق، وببعض الهدايا للرجل. وأخذت معي مسدسي وقليل من الملابس. وبدأت رحلتي من سواكن عند السادسة ونصف من صباح يوم 24 يناير متجها إلى تلال تقع شمال تماند Tamanid، والتي كنت على علم بمعسكر للثوار بها (وهي نفس الموقع المشهور باسم تأماي، والذي عسكر فيه جيش الأمير عثمان دقنة لمحاصرة سواكن، وبها توجد آبار شرب. المترجم) وحيث كان علي أن أنتظر مجموعة من هؤلاء الثوار لينقلوا لعثمان دقنة نبأ مقدمي إلى معسكره، وهذا مما من شأنه أن يضمن سلامتي عند دخولي لذلك المعسكر.  وكنت قد حملت معي أيضا علما أبيضا صغيرا وخطابا مكتوبا باللغة العربية يفيد بأني ما قدمت لمعسكر زعيم الثوار إلا للقيام بزيارة ودية للزعيم، وأن أطلب منه السماح لي بالإقامة معه. ووصلت للتلال التي كان من المفترض أن أقابل فيها من يأخذني للمعسكر، غير أني لم أجد أحد في انتظاري. فواصلت في سيري حتى وصلت لسهول منبسطة كانت ترعى فيها بعض الجمال. وكانت الساعة حينها قد بلغت الحادية عشر صباحا، وكان جملي متعبا وجوعانا فقررت أن أريحه وأن أستريح أنا أيضا، وأن أتناول غدائي ثم أبقى في انتظار حضور أصحاب الإبل. وما هي دقائق قليلة حتى لمحت في تل قريب رجلا يسير وحيدا. حاولت أن الفت انتباهه لوجودي، إلا أنه ما أن رآني حتى لاذ بالفرار. ثم عاد بعد دقائق قليلة ذات الرجل ولكن مع ثلة من رفاقه، فتقدمت نحوهم رافعا علمي الأبيض الصغير وأنا أصيح بأني رسول مسالم وصديق لعثمان.  وتبين لي أن أحد الرجل كان شيخ الأمرار وكان مؤيدا للثوار، فأريته رسالتي فقرأها وطمأنني بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنه سيضمن شخصيا وصولي لعثمان دقنة. ومضيت معهم نحو معسكر الثوار، إلا أننا قابلنا معارضة شديدة في الطريق، حيث أصر بعض من لقينا من الثوار على عدم السماح لـ "كافر" مثلي بالدخول للمعسكر حيا ومقابلة الزعيم. وبعد مشادة فقدت فيها قبعتي الهندية، والتي تمزقت تماما بحراب الثوار الرافضين لدخولي مسالما لمعسكرهم.  وأخذني شيخ الأمرار إلى قطيته الصغيرة وأمرني بالبقاء فيها حتى يضمن لي مقابلة الزعيم عندما تحين الفرصة.
وزارني قاضي سواكن (والذي كان قد فر من المدينة في اليوم السابق للقائي به في معسكر عثمان دقنة) وكان صديقا لي. عبر لي الرجل عن أسفه لرؤيتي هنا، وأسر إلى محذرا بأني سأقتل لا محالة إن لم أعلن إسلامي. فوافقت على الفور على إعلان دخولي للإسلام. حينها أجبرت على تبديل ملابسي وارتداء زي الأهالي المعتاد، والمكون من جلباب وسروال ومركوب. وسحب مني سلاحي الناري قبيل عرضي على عثمان دقنة. وكان الزعيم يتوسط مجلسا لرجال عرب جالسين على الأرض. ولم يكن يرتدي غير ثوب من القماش شديد الإتساخ وقبعة من السعف. بدا لي كرجل من عوام الناس، بل كان أقل الحاضرين تميزا.  ألقيت إليه بالتحية والسلام المعهودين، ثم طلبت منه السماح لي بالبقاء في معسكره والعيش في وسط رجاله، مثلما فعل قاضي سواكن. أجابني بأن ذلك يسعده، وطمأنني علي حياتي، خاصة بعد دخولي في دين الإسلام. وتحدثت قليلا عقب تلك المقابلة الوجيزة مع اثنين من رجال سواكن كانت لي بهما سابق معرفة عن سبب مجيئي لمعسكر عثمان دقنة.  وأفهمتهما بأني إنما أقبلت على معسكر القائد المهدوي لأثبت لرجال القبائل بأني أعلم أن سبب الثورة هو سخط الأهالي من فساد الحكومة المصرية. ونصحتهما بالتظلم مباشرة عند السير بيكر باشا، وهو رجل إنجليزي لا يُظلم عنده أحداً، والكتابة له عما يريدون تحقيقه من إصلاح. وأسررت لهما بأن سيكون أمرا كارثيا إن ظلا يرددان بأنهما يقاتلان من أجل المهدي، إذ أن ذلك لن يغضب الحكومة المصرية فحسب، بل سيغضب أيضا الإنجليز والأتراك وشعوبا أخرى كثيرة. وقلت لهما أيضا أن كل هؤلاء لن يدعوكم وشأنكم، ولن تنعموا بالسلام أبدا.  ورد الرجلان على نصيحتي لهما بالقول بأنهما لا يفكران حاليا في ما حاق بالبلاد والعباد من مظالم، بل هما يؤمنان إيمانا لا يتطرق إليه أدنى شك بأن المهدي قد ظهر بالفعل (في بلاد السودان) وأنه هو المهدي المنتظر الذي سيهزم سائر حكام العالم، وسيقضي على أعدائه، ثم يحكم كل الدنيا بحسب مبادئه ومقتضى أفكاره. وكيف لا، وهو ذلك الرجل المغمور الذي غدا فجأة قائدا منصورا، هزم كل حملة جَرَدَتها الحكومة للقضاء عليه، ولا توجد أي قوة في الأرض يمكنها أن توقف مد انتصاراته. وأخبراني بأنهما تلقيا رسائل من المهدي تدعوهما للثورة والانضمام لقواته المحاربة، والتي سيكتب لمجاهديها النعيم المقيم في أعالي الجنان. وذكرا لي بأن المهدي كان قد توعد في رسائله لهما بأن كل من يرفض دعوته ويأبى الانضمام إليه والقتال في صفه سيدمر في الدنيا، ثم يتبوأ مقعده في النار في الدار الآخرة.  وأكدا لي بأن الرجال الذين يحاربون مع عثمان دقنة لا يخشون بنادق الكفار ولا مدافعهم، ولا أي سلاح قد يستخدم ضدهم، فكل تلك الأسلحة ستغدو في نهاية المطاف غنائم لهم، وأنهم يؤمنون أيضا بأنهم إن قتلوا في حروبهم ضد الكفار فسوف يلقون خير الجزاء في جنات الخلد. وأكدا بأن رجال المهدي سيستولون على سنكات وطوكر بسيوفهم وحرابهم، وبعد ذلك سيسيطرون على سواكن، وسيدمرونها تدميرا ولن يتركوا فيها حجرا في مكانه، ومن ثم ينتقلون لجدة ومكة، وبعدهما يسيطرون على مصر بأكملها، ويقتلون السلطان في إسطنبول، وكل الإنجليز وغيرهم من المسيحيين، ثم يفرغوا من بعد كل ذلك للأحباش. وأكد الرجلان السواكنيان لي بأنهما وجدا أمر هذا المهدي (الحقيقي) في كتبهما، وتحققا من صدق دعوته التي ذكرها النبي، إذ أن صفات هذا المهدي تطابق تماما تلك الأوصاف التي ذكرت في حديث النبي.  وإن لم يكن هذا الرجل هو بالفعل المهدي الحقيقي، فكيف تأتى له هزيمة الحكومة وجنودها في كل معركة يخوضها ضدهم؟ وقالا أيضا بأنهما لم يعودا يأبهان بالمال ولا بالمكانة الاجتماعية أو أي أمر دنيوي آخر بعد أن ذاقا حلاوة الانضمام للمهدي وجيشه المجاهد، إذ أنهما يثقان في أن الجنة ستكتب لهما في الحياة الآخرة، وإن لم يفعلا فسيلقان سوء المصير في النار.  وكان من ضمن ما ذكراه لي أن لن يسمح لأحد بملكية خاصة، إذ أن الكل سيتساوى في الفقر، ولن يأكل أحدا غير الذرة، تماما كما يفعل عثمان دقنة. وعندما تبلى الملابس التي يرتدونها فإنهم سيلبسون مما سيغنمونه من ملابس النصارى، وسيتخذون من حُصُرٌ الأرض ملابسا. وقالا بأن من انضم للمهدي من الأغنياء تصدق بغالب ماله وبهائمه ومحاصيله طوعا لعثمان دقنة، ليوزعها على فقراء جيشه. وأشادا بعثمان دقنة، وقالا بأنه كان بإمكانه اكتناز الأموال والعقارات إن أراد، إلا أنه لم يرغب في متاع العالم الزائل، وكذلك ينبغي لمن يرغب في الانضمام إليه أن يحذو حذوه. حينها سيجد كل الترحيب، وسيردد الجميع الشهادتين: "لا إله إلا الله ... محمد رسول الله". وهنا قاطعت حديثهما قائلا بأن كل من أعرف من المسلمين في سواكن وغيرها يرددون ذات الكلمات. أجاباني بأن هؤلاء يكذبون على أنفسهم وعلى الناس. ورأيت، بعد كل ما سمعت، أن لا فائدة من مواصلة الحديث مع الرجلين فودعتهما لحين لقاء آخر.
وعند الثامنة من صباح اليوم التالي أخذت إلى ميدان فسيح كان عثمان دقنة يجمع فيه كل جنوده ويتوسطهم ويتلو على مسامعهم شيئا مما كتب عن المهدي، ويقرأ عليهم رسائل يزعم أنها وصلته من المهدي شخصيا. وحوت تلك الرسائل المزعومة أخبارا مذهلة لا أشك في أن غرضه منها كان إثارة مشاعر أتباعه الدينية. وانصرف عثمان دقنة بعد انتهاء ما كان يود نقله لأتباعه. وهنا بدأ بعض الحاضرين في توجيه مختلف أنواع الاساءات والشتائم والأذى الجسدي لي لنحو ربع ساعة، فأخذني شيخ الأمرار، وبصعوبة بالغة جدا، إلى مسكني تحت حمايته الشخصية.
وفي صباح يوم 26 وجدت نفسي مجبرا على تسليم كل ما أحضرت من أغراض وهدايا إلى الشيخ، إذ لم يكن قد سمح لي بحمل تلك الهدايا لعثمان دقنة في أول مقابلة لي معه. وسبق أن حذرني بعض من كانوا حولي بأن الزعيم يمج الهدايا، ويكتفي بملابسه المتسخة التي رأيته عليها ولا يأكل غير بَليلة الذرة.
وسمعت بأمر أصابني بالحزن والألم الشديد، ألا وهو ما تناقله بعض أتباع عثمان دقنة من أنني ما أتيت لمعسكر عثمان دقنة إلا لأغتاله. ولعل السبب في ذلك هو أنهم سألوني عند دخولي للمعسكر إن كنت أحمل سلاحا ناريا، فأجبت بالنفي. غير أنهم وبعد تفتيشي عثروا على مسدس مخبوءاً في طيات ملابسي. غير أنه، ولحسن الحظ، لم يكن لديهم من سبب للشك في غير ذلك، ولذا سلمت منهم، ولو إلى حين.
وبقيت في معسكر عثمان دقنة لستة عشر يوما، ولم يسمح لي بمقابلته مرة أخرى غير تلك المرة الأولى.  ولاحظت في أيامي في المعسكر أن العرب (وغالبهم من الهدندوة مع قلة من القبائل الأخرى) في ذلك المعسكر كانوا تحت تأثير إثارة دينية دفاقة. ولاحظت أن أولئك كانوا يخيطون أي رقعة ملونة يجدونها على ملابسهم ويصنعون منها تصاميم متعددة الألوان. ولاحظت أن كل قادتهم في المعسكر جاءوا أصلا من سواكن. ولزيادة تهييج مشاعرهم الدينية وتأجيجها، كان عثمان دقنة يقرأ يوميا على جنده في فترات مختلفة في اليوم مقتطفات من كتب المهدي، وذلك بالطبع إضافة إلى جانب ما يقرأه عليهم كل صباح من كتابات المهدي ورسائله المزعومة له.
وزارني في قطية الشيخ عدد من رجال سواكن، غير أني لم أعد أذكر اسمائهم الآن. ولم يفتني أن ألاحظ أنهم كانوا ذات الأفكار التي كان يحملها الرجلان المشار إليهما آنفا. وكانوا جميعا يعدون بمعاودة زيارتي، إلا أن أحدا منهم لم يف بما وعد. وافترضت أن عثمان دقنة منعهم من معاودة زيارتي. وكنت قد ذكرت لكل من زارني أني أرغب في مقابلة أخرى مع عثمان دقنة، إذ أن لدي الكثير من الأمور المهمة التي أو التحدث معه بشأنها. غير أنني فشلت تماما في الحصول على فرصة لمقابلة الزعيم. وسمح لي في اليوم العاشر لاعتقالي في معسكر عثمان دقنة بمقابلة علي طاهر. وشكوت للرجل من سوء معاملتي بالمعسكر، وذكرته بأنني قدمت للمعسكر بمحض إرادتي، ولا ينبغي أن أعد سجينا معزولا، وأني أرغب في السماح لي بالسكن مع أصدقائي القادمين من سواكن الذين يتحدثون اللغة العربية، وليس مع الهدندوة، والذين أجهل لغتهم. وإن لم يكن ذلك مسموحا بي فينبغي أن يسمح بالعودة لأهلي من حيث أتيت. وطلبت منه أن يعطيني بملابس أخرى لأغير ملابسي التي صارت متسخة جدا. طمأنني شيخ طاهر بأنه سينقل رغباتي لعثمان دقنة، وستجاب كل طلباتي. ولا شك أنه قام بنقل مطالبي لعثمان دقنة، غير أن شيئا منها لم يتحقق.  واقتنعت في نهاية المطاف بأن ما سبيل أمامي غير مقابلة عثمان دقنة شخصيا.
لعلي ذكرت أن عرب الهدندوة هم رجال في توحش الحيوانات المفترسة. لقد سمعت من قبل عن قصص قسوتهم المفرطة مع أعدائهم من الأحياء، والأموات أيضا. فقد شق بعض هؤلاء بطون واحد وعشرين من جنود الحكومة في سنكات، فقط للتأكد مما في بطونهم من طعام! وحدث ذات مرة أن أروني يد بشرية مقطوعة وطلبوا أن أخبرهم إن كانت تلك اليد لرجل تركي أم لإنجليزي. وذكروا لي عرضا أن جيوب الرجل كانت محشوة بالجنيهات.
وفي معركة خاضوها ضد قاسم أفندي وجندوه ترك عرب الهدندوة جثث من قتلوهم من أعدائهم في العراء دون أن يقوموا بدفنها. وعندما أقبلت الفرقة 27 مشاة نحو معسكر المهدويين دقت الطبول فرأيت رجال الهدندوة يهبون لحرابهم وسيوفهم وهو يصيحون بأعلى أصواتهم في نشوة عارمة للقاء الأعداء القادمين. ولما عادوا للمعسكر بعد انقضاء المعركة أخبروني بأنهم غنموا 200 من الماشية، ولم يبدوا أي مشاعر للأسف على فقدان بعض رفاقهم في تلك المعركة. وكانوا قد قتلوا نحو عشرين من جنود العدو وطاردوا من بقي حيا من جنود المشاة حتى أبوب سواكن. وبعد يومين من تلك المعركة تلقى جنود عثمان دقنة نبأ قدم به واحد من عيونهم بالمدينة بأن جنود الحكومة سيقومون في ذلك الصباح بهجوم على معسكرهم، وأن عليهم اليقظة والحذر والاستعداد. ومرة أخرى بدأوا الاستعداد للمعركة بصيحات عالية وجلجلة رهيبة ومضوا في طريقهم للقاء العدو. ثم عادوا عند العصر ليخبروني بأن جنود العدو أقاموا زريبة ثم رحلوا عنها. وكان من عادتهم أن يخبروني بالأنباء السارة لهم فحسب ويبالغون فيها، ويكتمون عني ما يسؤهم.
ويقع معسكر عثمان دقنة خلف التلال التي يوجد عند سفحها ماء الـ Tamanid (أو تأماي). وتعيش بالمنطقة قبائل مختلفة لكل منها مساكنها الخاصة، إلا أنهم يتركون مساحة خالية، ويعدونها مكانا مقدسا لأنهم يؤدون فيها الصلوات الخمس جماعة كل يوم.  ومنازلهم مبنية من القش، والذي لا يحميهم إلا قليلا من البرد والرياح. وغالب السكان لا يضعون على أجسادهم إلا قليلا من الملابس، وهم في حالة صحية سيئة، فهم دائمي السعال. لقد رأيت صبية بالغي الهُزَالُ وعواجيز لا يكادون يقدرون على المشي يحملون الحراب والرماح وهم في طريقهم لقتال الأعداء. وكان معظم رجال المعسكر قد تركوا زوجاتهم وأطفالهم في مناطق بعيدة، وليس بالمعسكر غير قليل من النساء – معظمهن من الإماء المسترقات - يعملن في طحن الذرة.
ومن القصص التي أذكرها أنه في ذلك اليوم الذي هاجم فيه جند مشاة الحكومة جنود عثمان دقنة عاد للمعسكر رجل كبير ومعه ابنه الشاب الصغير وهما يرتدفان جملا. كان الشاب مصابا بجرح عميق وينزف بغزارة. وما أن رأيت ذلك حتى اندفعت نحو الشاب الجريح، وحملته لقطيتي حيث قمت بفحص جرحه وغسل موضعه، وقطعت قطعة من ملابسي لأضمد بها جحه، وبقيت بجانبه لعدة أيام أرعاه حتى برأ جرحه. وعجبت جدا لعدم سماعي كلمة شكر يتيمة أو إيماءة تقدير واحدة من الشاب أو من والده. لقد كان الشاب في حالة ضيق شديد ولم أفعل إلا ما رأيت أنه العمل الصائب. وأسوق هذا المثال لأدلل على قسوتهم الشديدة.
لم يكن معسكر عثمان دقنة يخلو أبدا من الذرة. وكنت أرى بين الحين والآخر جمال محملة بها قادمة من طوكر. والذرة واللبن هي طعام الناس الأساس هنا. وكان اللبن يأتينا طازجا في سُعون يبعث بها أهالي جنود المعسكر كل يومين أو ثلاثة. وكنت أشربه دائما حامضا جريا على عادة العرب هنا. وكنت أراهم أحيانا يصبون اللبن الطازج في سعن به حليب مضى عليه ثلاثة أيام. ولا يفكر هؤلاء الناس في نظافة سعونهم أبدا. وكان طعامنا الأوحد تقريبا هو عصيدة الذرة باللبن. غير أنه في حالة عدم توفر دقيق الذرة، فقد كنا تناول الذرة المغلية في الماء (البليلة),  ولم أذق اللحم في أيامي الستة عشر بالمعسكر سوى مرة أو مرتين، تناولت فيها لحم ضأن شهي. وكانوا أحيانا يجودون علي ببعض قطع من الجلد لا تصلح للأكل.  وكان ذلك الشح في تناول اللحم لا يناسب طبع القادمين من سواكن بالمعسكر، والذين أكدوا لي أن عشرين ثورا وعشرين جملا تذبح كل يوم لإطعام فقراء المعسكر. ولا عجب فأسعار البهائم هنا رخيصة جدا، ولا يكلف شراء خروف يزن 25 رطلا هنا غير نصف دولار، بينما يبلغ سعره في سواكن خمسة أمثال ذلك.
لاحظت أيضا أن الثوار لا تنقصهم الحراب والرماح، ولدى بعضهم سيوفا ايضا. غير أن أقل من 10% منهم يمتلكون بنادق ريمنقتون، والتي قدرت أنهم لا يجيدون استخدامها.  ولما سألتهم عن عدم قيامهم بالتدريب على الرماية أجابوني بأن ما لديهم من ذخيرة لا يكفي للتدريب والقتال معا. وسألتهم أيضا عن فائدة تسللهم ليلا لمداخل لسواكن والقيام بإطلاق رصاصات قليلة في الهاء ثم الاسراع بالعودة للمعسكر أجابوني بأن غرضهم هو إزعاج منام حراس أسوار المدينة. واضافوا بأنهم تعلموا بأن الانبطاح أرضا هو أفضل طريقة لتحاشي الإصابة برصاص العدو.
وفي اليوم الثالث عشر في معتقلي بالمعسكر سمعت بأن العرب قاموا بعمليات استكشافية في سهول اتباي Etbai  والتي يسكنها عرب محمود علي، والذي كان حليفا وصديقا للحكومة، وأسروا عشرين من رجال محمود علي وأحضروهم للمعسكر. وتمكن أحد هؤلاء المعتقلين من الهرب من المعسكر ليلا. وهنا خطرت لي فكرة الهرب أنا أيضا من قبضة هؤلاء الناس.
وفي ليلتي الأخيرة التي قررت أن أفر فيها من المعسكر تسللت حبوا وبهدوء شديد من قطيتي عند منتصف الليل والناس نيام، ومضيت هكذا لنحو نصف ساعة حتى بعدت عن المعسكر دون أن يلاحظ أحد منهم شيئا. وعدوت بعد ذلك بأسرع ما يمكنني في اتجاه الشرق نحو ساحل البحر لأربعة ساعات كاملة. ثم استرحت بعد ذلك لنصف ساعة أو نحوها، ثم واصلت العدو مجددا.  وعند بزوغ الفجر وجدت أنني قد بعدت جدا عن سواكن التي كنت أقصدها، وقريبا من طوكر. ورغم ذلك ظللت أعدو وأعدو حتى لاحت لي من بعيد، وفي نحو التاسعة والنصف صباحا، قلاع المدينة القديمة.  كنت في غاية النصب والإعياء والعطش، غير أني كنت سعيدا لأني لم أصادف في رحلة هروبي أحدا من البشر.
التوقيع
جودو ليفي
مواطن نمساوي وقبطان سابق لسفينة تجارية
        


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء