سك العملة في عهد المهدي والخليفة (2-2) .. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




سك العملة في عهد المهدي والخليفة (2-2)
اتش. اس. جوب
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني والأخير لعرض وترجمة مختصرة لشذرات قليلة من مقال طويل من عشرين صفحة أو تزيد، نشر في العدد الثالث من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" (والمطبوعة هذه المرة ليس في المعهد الفرنسي لعلم الآثار الشرقية بالقاهرة، بل في مطبعة دار نشر السودان بالخرطوم) في عام 1920م، للكاتب اتش. اس. جوب، ولا علم لي الآن بوظيفة الرجل أو مؤهلاته أو أي معلومات أخرى عنه، رغم البحث الدؤوب في المواقع السودانية، وفي موقع جامعة درام البريطانية، وفيها أرشيف غني عن السودان وتاريخه. تعرض الكاتب في الجزء الأول لسك العملة في عهد المهدي، وهنا يكتب عن ذات الموضوع في عهد الخليفة عبد الله التعايشي. المترجم
بعد أن تولى الخليفة عبد الله زمام الحكم بعد وفاة المهدي (حوالي عام 1302 هـ) كان من أهم قراراته هو عزل أمين بيت المال أحمد ود سليمان (المحسي القبيلة. المترجم)، والذي كان يشك في ولائه له. قيل أن أحمد ود سليمان قتل ضربا بالعصي على يد الزاكي طمل بأمر مباشر من الخليفة (ورد في بعض المصادر أن الزاكي طمل نفسه مات عطشا في محبسه بعد سنوات من هذه الواقعة بأمر من الخليفة. المترجم). عين الخليفة في عام 1303 هـ إبراهيم ود عدلان (الكواهلي الذي كان يعمل تاجرا في كردفان) كأمين لبيت المال خلفا لأحمد ود سليمان.
لم يقم الخليفة بين عامي 1302 – 1304 هـ بسك أي عملة جديدة، بل تم في هذا الأثناء نقل ما نهبه (غنمه. المترجم) المهدويون من عملات الحكم التركي السابق من مخزنها في الخرطوم لبيت المال في أمدرمان. كتب سلاطين في "السيف والنار في السودان" أن كمية ضخمة من الحلي الفضية جمعت في بيت المال بأمدرمان، وبيع  سرا كثير منها بأقل من قيمته الحقيقية، وأن بعضها كان يؤخذ – من وقت لآخر-   ويباع للتجار ليبيعوه في مصر. لهذا السبب قرر الخليفة أن يبطل العملات السابقة، وأن يسك عملته الخاصة. سعى إبراهيم ود عدلان لإقامة دار لسك النقود في عام 1304 هـ، وكان ذلك العام هو العام الذي بدأ فيه إصدار عملات فضية جديدة. وبأمر من الخليفة لم تسك أبدا في عهده عملة ذهبية. كانت عملات الخليفة الفضية تتكون من عملات ذات فئات صغيرة (1 و5 و10 و20 قرشا)، واستبدلت عبارة "بأمر المهدي" بكلمة واحدة هي "مقبول" في جهة "الطرة" (للعملات المعدنية وجه يسميه العامة "طرة"، وآخر يسمونه "كتابة". المترجم). وكتب على جهة "الكتابة" عبارة "ضرب في أمدرمان 1304 هـ". كان مستوى "رهافة" العملة أقل مما كانت عليه في زمن المهدي.
ظل (الياس) أو من أسماه المهدي  (عبد الله الكردي)  هو المسئول (الفني) عن سك العملة في عهد الخليفة، وكان يساعده في ذلك العمل الحاج عبد الله غراندال (من بخارى)، وكان من تجار الذهب بالخرطوم، وخلفه فيما بعد عبد الله الكردي في ذلك العمل الفني. كان الحاج عبد الله أيضا مسئولا عن كتابة وسك كل ما يخص الخليفة من أمور. كان الكردي وغرندال من الرجال الأكفاء المهرة، وكان يساعدهما بلا ريب عدد من المساعدين المدربين. من هؤلاء عبد الله سليمان، وقد اشتهر أيضا بمهارة إصلاح البنادق.
ظل التاريخ المضروب على العملة (1304هجري) مثبتا على كل عملة أصدرت بعد ذلك التاريخ حتى عام 1309ه. وحدث – من كثرة تكرار سك العملة بنفس القالب- أن برز سطح العملة المعدنية إلى الأعلى في وسطها، فلم تعد عملة الريال مستوية السطح، ولذا أطلق عليها الأهالي "أبو سدر" (أي ذو الصدر). كانت تلك العملات ذات السطح غير المستوي شائعة جدا في الإصدارات اللاحقة.
لا شك في أن العملات التي أصدرها الخليفة كانت متدنية المستوى مقارنة بما سبقها من إصدارات في العهد التركي أو عهد المهدي، ولذا قابل الناس – بحسب رواية الأب أور فالدر- عملات الخليفة تلك بكثير من الريبة وعدم الارتياح. كان التجار لا يقبلون الدولار (الريال) المسمى"مقبول" إلا بقيمة عشرين قرشا فقط. وكان التجار وغيرهم من المتعاملين بالعملة يتحاشون استخدام عملة الخليفة "ريال مقبول" ما وسعتهم الحيلة، رغما عن التهديد بالحبس ومصادرة الممتلكات. لا شك أن مثل تلك الظروف كانت مدعاة لرفع أسعار السلع المعروضة. تزامن كل ذلك مع ظهور موجة من تزوير العملة ، وبدأ الخليفة – ربما محقا هذه المرة- يشك في أن عامله عبد الله الكردي يسك النقود لصالحه، وليس لبيت المال. نال الرجل – كما هو متوقع- عقابا قاسيا تمثل في قطع يده ورجله (من خلاف؟ المترجم) وذلك في عام 1306ه. علق نيوفيلد (سجين الخليفة) على ذلك الحكم القاسي بأنه كان رادعا لكثير من الناس – على الأقل لفترة من الزمن- وجعل كل ما يسك من عملة يذهب لبيت المال فقط، وليس لغيره. رغم ذلك كانت هنالك سوق رائجة لتزييف العملة خلال عهد الخليفة، وساهم العاملون في مصنع سك العملة في ذلك بتوفير "قوالب السك" والأدوات المطلوبة الأخرى للآخرين للقيام بضرب النقود. جعل ذلك التفريق بين العملة الحقيقية (المعتمدة من الدولة) والعملة المزيفة أمرا عسيرا.
خلف حاج عبد الله غرندال الياس عبد الله في الإشراف على مصنع سك العملة، وتم كذلك تعيين ابنه عبد الله الياس معه في ذات المصنع في حوالي عام 1306 هجرية، بينما نقل رئيس الورشة عبد الله سليمان إلى مستودع الأسلحة، وسرعان ما خلفه فيها ابنه أحمد عبد الله سليمان، ومساعداه وقيع الله وعبد الماجد. ظل إبراهيم ود عدلان في منصبه كأمين لبيت المال حينا من الزمان، وغدا مشهورا ومحبوبا من الكثيرين، فأدركته غيره الخليفة وحسده فلم يعدم سببا للتخلص منه، فتم شنقه في عام 1307ه. بعد ذلك عين الخليفة الزاكي كأمين لبيت المال (وصار أميرا لبربر فيما بعد، بيد أنه ترك الوظيفة بسبب المرض). عين الخليفة من بعد ذلك الرجل التكروري نور ود إبراهيم (المعروف بنور الجريفاوي) كأمين لبيت المال. حافظ نور الجريفاوي على ذات قوالب السك التي كان يستخدمها إبراهيم ود عدلان حتى عام 1309 ه، حين أدخلت قوالب جديدة، كانت أصغر حجما وأقل جودة مما سبقها، وضرب عليها التاريخ الجديد (1309هجري). كانت كمية الفضة في العملة الجديدة أقل من سابقتها.
نشر صامويل اسمث في عام 1902م مقالة في "دورية النقود" عن قطعة نقود نحاسية تم العثور عليها في سواكن، تعد العملة الوحيدة من عهد الخليفة التي تقل عن قرش واحد، وليس هنالك من دليل على أن مثل هذه العملة موجود اليوم.
قام الخليفة في عام 1310ه (1892م) بتغيير قوالب سك العملة مرة أخري، وأصدر دفعة جديدة من العملات من مختلف الفئات. سميت هذه الإصدارة "أبو كبس" (تشبيها لها بحربة عريضة كانت تستخدم في تلك الأيام)، وأصدرت بعهدها عملة أقل جودة منها، عرفت بالـ "عملة جديدة". كانت كلتا الإصدارتين أقل جودة من تلك التي سكها إبراهيم ود عدلان. كانت عملة "أبو كبس" تشبه في التصميم عملة الخديوي محمد توفيق الصادرة في 1303 – 1304 ه. رغم أن تلك الإصدارة من العملات (والتي سكها عبد الله غرندال وأحمد عبد الله سليمان) لم تلق قبولا واسعا في باديء الأمر، إلا أن استعمالها انتشر بعد فترة من إصدارها، ولعلها كانت أكثر الإصدارات استخداما، وأكثر عملات الخليفة انتشارا. تم بعد ذلك في أعوام 1310 و1311 و1312 و1315 ه إصدار نسخ جديدة من ذات الفئات. اختفت تدريجيا العملة الفضية، وحلت محلها العملات النحاسية، مخلوطة بقليل من الفضة، ثم اختفت الفضة نهائيا من العملات وغدت مصنوعة من النحاس بالكامل. ورغم صعوبة (بل ربما استحالة) الحصول على آخر عملة من فئة نصف الدولار (الريال)، إلا أن هنالك عينة واحدة لدي السيد ماكمايكل، أعارني إياها مشكورا للتصوير.
كتب أسير الخليفة نيوفلد أن أمين بيت المال نور ود إبراهيم الجريفاوي (والذي خلف إبراهيم ود عدلان) توصل لقناعة مفادها أن العملة المعدنية إنما هي "أرموزة" (ماركة)، وليس مهما البتة من أي مادة تصنع طالما طبع عليها شيء ما! لا عجب إذن إن تناقصت كمية الفضة في عملته شيئا فشيئا، حتى صارت في نهاية المطاف مصنوعة من النحاس (الخالص) رغم احتجاج المتعاملين على إصدار ريال نحاسي يجبر الناس على اعتبار قيمته تعادل الريال الفضي. كان كل من يعلن سخطه على ذلك الوضع يعاقب بمصادرة ممتلكاته أو بفقدان يده أو رجله. بيد أن التجار دوما يفوقون زبائنهم ذكاء، فكانوا يسألون المشتري عن عملته التي يود دفع قيمة السلعة بها، ويحددون السعر حسب نوع العملة! مع تناقص أعداد الريالات الفضية في السوق ارتفعت قيمتها حتى صار الريال الفضي يعادل في السعر خمسين أو ستين ريالا نحاسيا، مما يعني أنه لشراء سلعة سعرها ريال واحد يجب أن يدفع المشتري ستين ريالا من الإصدارات (النحاسية) الجديدة. حاول أمين بيت المال أن يعالج هذا الوضع فمنع تبادل الريال الفضي والنحاسي على ذلك النحو، وصار يشتري الريالات النحاسية من السوق، ويذيبها مرة أخري، ويصدرها في شكل عملة ذات شكل مختلف، وقرر أنها تعادل الريال الفضي القديم، وقرر أن أيضا أن لا يقبل بيت المال التعامل بالريال النحاسي القديم! سئم الناس من استخدام الريال النحاسي، فأطلقوا عليه من باب التهكم كلمة "بازوغري"، ويظن أن هذه كلمة كردفانية تعني "عديم القيمة"!
أصدر الخليفة في عام 1310ه أيضا "عملة جديدة" ضرب عليها عبارة "عز نصره" ، وهي عبارة ظلت تكتب في العملة التركية منذ القرن السابع عشر. كتب أيضا كلمة "جيد" على الجانب المقابل لتك الإصدارة من العملة. (سنك ريال جيد ودقاقه مو بليد.. أني ماشة بنعيد في سوق الأبيض..!! ذكرني هنا صديق بهذه الأغنية الكردفانية. المترجم).
في عام 1311ه (1893م) سقط نور الجريفاوي من جواده فأصيب إصابة معيقة، فخلفه على أمانة بيت المال عوض المرضي (والذي أقيل في عام 1315ه)، بينما ظل عبد الله غرندال وعبد الله الياس ومساعدوهم في مناصبهم. ظهر في تلك السنة ريال أسماه بعض الناس "أبو هلال" وذلك لوجود رسم أهلة على حوافه، وأسماه آخرون "عبد الماجد" نسبة للرجل الذي سكه. وفي العام التالي (1312ه) ظهر ريال آخر اسماه الناس "وقيع الله" نسبة أيضا لمن ضربه. وفي هذه الإصدارة بالذات اختفت كلمتا "عملة جديدة" وحلت محلهما كلمة "مقبول" في جهة "الطرة"، واختفت من جهة "الكتابة" كلمتا "عز نصره". ظهرت في السنوات التي تلت ذلك عدة إصدارات متتالية من العملات أحدثت فوضى وارتباكا عظيمين. فكانت هنالك في عام 1312ه 6 أنواع من الريالات، كانت جمعيها مصدر تهكم وسخرية لتدني قيمتها بصورة مستمرة. 
نقلا عن "الأحداث"

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء