The Masalit Sultanate (1 – 2) آر. ديفيز R. Davis ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة وتلخيص لمقال عن المساليت نشر في العدد السابع من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" عام 1924م، بقلم آر. ديفيز، الذي لم تتوفر لي أي معلومات عنه، وربما يكون أحد الإداريين الذين عملوا بالمنطقة. وكنت قد ترجمت من قبل عددا من المقالات عن المساليت منها مقال بعنوان " حول التاريخ السياسي للمساليت"، وآخر عن حركة "أبو جميزة" بين عامي 1888 و1889م، ومقالين للمؤرخة الهولندية الأصل بروفيسورة ليدوين كابتجنز بعنوان “العقيدة المهدوية وإضفاء الشرعية على الثورة الشعبية في غرب السودان" و"ظهور دولة سودانوية: دار مساليت بين عامي 1874م – 1905م"، من رسالتها لنيل الدكتوراه المقدمة لجامعة أمستردام عن تاريخ المساليت بين عامي 1870 و1930م. وعلمت من صديق خبير أن مدير مديرية دار فور بين عامي 1955 و1959م وصاحب المذكرة الشهيرة عن تاريخ دارفور المحفوظة بدار الوثائق القومية قد اعتمد اعتمادا كبيرا فيما أورده عن تاريخ المساليت في مذكرته المشار إليها على مقال السيد ديفيز، بل نقل منه معظم ما أورده نقلا حرفيا ولم يشر إلى ذلك! المترجم ***** ***** ***** ينحصر تاريخ سلطنة المساليت، بحسبانها أحد الكيانات السياسية المستقلة، في الأربعين عاما التي سبقت عام 1922م. وتكون تاريخها من مراحل، تميزت أولا بصعود مفاجئ في تلك السنوات المضطربة التي أعقبت ظهور المهدية، ونشوب حرب ضد السلطان علي دينار من أجل الاستقلال، ثم بحرب مريرة دفاعا عن الأرض ضد الغزو الفرنسي، ثم قبول بالاستيعاب والحكم شبه - الذاتي ضمن الحكم الإنجليزي – المصري للسودان. وتوجد في وثائق أرشيف مديرية دارفور ومستعمرة تشاد معلومات عن المرحلتين الأخيرتين فحسب. غير أن هنالك العديد من الرجال الذين ما زالت ذواكرهم تحتفظ بقصة سلطنة المساليت كاملة. وسأعتمد في سردي لقصة "سلطنة المساليت" على رواية شفهية لأحد شهود العيان لتلك الفترة، ذكر لي فيها كل الأحداث المهمة في ذلك التاريخ في غضون سنوات القرن الحالي. وكان ذلك الرجل لصيقا بعدد من السلاطين الذين تتابعوا على حكم المساليت، ولكنه لم يكن في موقع المسؤولية عن أي من الأحداث التي سردها لي. وكان الرجل يحكي لي عن تلك الأحداث بحيادية باردة لا مبالية، لا تغتبط بالانتصارات، ولا تأسى على الهزائم. وأود هنا التأكيد على تصديقي لرواية الرجل، ولكني لا أستطيع أن أشكك في دقة رواية النسخة الفرنسية لذات الأحداث. ولا بد بالطبع من إدراك وتفهم الفروقات في وجهات نظر الطرفين، وسوء الفهم المتبادل لدوافع كل طرف بين الضابط الفرنسي والسلطان المسلاتي. ولذا نجد أن مقتل الضابط الفرنسي وجنوده يعد عند الفرنسيين خيانة شديدة القبح، وتلبس ثوبا مختلفا تماما عند المسلاتي. (المقصود هو الضابط الفرنسي النقيب فيلقنشو الذي قتله فرسان المساليت. المترجم). وكل الأغاني والأناشيد التي صاحبت رواية الرجل المسلاتي والتي سأوردها هنا هي من تأليف شعراء من قرجنق Gernyang (أحد أفرع قبيلة المساليت الذي تنتمي له أسرة السلطان). وربما يقلل القارئ لتلك الأغاني والأناشيد من قيمتها الشعرية، ولكنها على درجة كبيرة من الأهمية التاريخية، نسبة إلى أنه يمكن اعتبارها الوثيقة الوحيدة (والباقية) التي تملكها القبيلة عن تلك الأحداث. المساليت ودارهم تقع "دار مساليت" في منتصف الحدود الغربية لدارفور. وتشتمل على "دار مساليت" (المعروفة بهذا الاسم) إلى الجنوب، ودار إرينقا، الواقعة شمال "دار مساليت"، و"دار جبل" الواقعة شمال دار إرينقا. ويحيط بأصل المساليت بعض الغموض. فلغتهم تكاد تكون هي ذات لغة جارتهم وداي، رغم أن أي من سكان "وداي" أو "دار مساليت" الحاليين لا يفهمون كلام بعضهما البعض. واختلاف اللهجات بين القبائل المتجاورة، كما هو معلوم، ليس بالشيء الغريب. غير أن الغريب في حالة المساليت هو أن هنالك مساليت يجاورون وداي (على حدودهما الجنوبية الغربية)، ولكنهم يتكلمون بنفس اللغة التي يتحدث بها أقرباءهم في دارفور. ومن الشائع عند رجال القبيلتين محاولة ربط أصولهم بعرب الحجاز لتفسير أصل لغتهم التي وجد العرب القادمون للمنطقة السكان المحليين يتكلمون بها. (تطرق الكاتب بعد ذلك ببعض التفصيل لأصول المساليت وما يؤمنون به في شأن نسبهم وأن أصلهم من خُزام، وأورد أيضا ما يقول به جيرانهم بخلاف ذلك. المترجم). ولا بد من القول بأنه تمت في السنوات الأخيرة الكثير من المصاهرات بين المساليت وبين العرب. ولا يعرف على وجه الدقة تاريخ دخول المساليت (ولو اسميا) في الإسلام. غير أن بعض العادات الوثنية ما زالت موجودة في بعض مناطقهم البعيدة إلى وقت قريب. ويزعم البعض أنه لم يتم القضاء على بعض العادات الغذائية المستنكرة عند هؤلاء القوم إلا في عام 1890م. ويلاحظ أن الجزء الشمالي من "دار مساليت" يتحول بصورة متسارعة الآن (أي في عشرينيات القرن العشرين. المترجم) إلى الاستعراب. وتحتوي لغتهم المستخدمة اليوم على الكثير من الكلمات ذات الجذور العربية. ولم يكن لدار مساليت ودار إرينقا ودار جبل وجود مستقل قبل قيام سلطنة المساليت، فقد كانت كلها مقسمة على وحدات إدارية فوراوية إلى "مادي" و"فيا" و"كيرني". وكانت "دار مساليت" (صاحبة الاسم) مقسمة بين "فيا" و"كيرني". ويبدو أن الحكومة (التركية – المصرية) قبل نحو عامين أو ثلاثة من قيام المهدية قد فكرت في فصل المساليت عن الفور، لأن حاكم قسم "فيا" (الذي كان يتخذ من كُلكُلْ مركزا له) عين "هجام حسب الله " كبيه على المساليت. وكان هجام من فرع المسترنق (Mistereng)، ولكن القرجنق (Gernyang) احتجوا وقالوا بأنهم أولى بالزعامة، إذ أنهم كانوا يؤمنون، حتى في ذلك الوقت، بأنهم الفرع الأرفع مكانة في قبيلتهم، المساليت. وكان زعميهم في ذلك الوقت (الفكي إسماعيل عبد النبي) رجل متفقها في الدين، ولكن السلطات الحاكمة كانت تعتقد بأنه لا يصلح لإدارة المنطقة. وسمح إسماعيل عبد النبي ورجاله بتعيين هجام حاكما عليهم دون كبير احتجاج. قيام سلطنة المساليت استغل هجام حسب الله سانحة إزالة الثورة المهدية للسلطة المصرية – التركية وغدا حاكما ظالما مستبدا. لذا اضطر الفكي إسماعيل عبد النبي للسفر إلى الأبيض للمثول أمام المهدي، وتقديم شكوى له باسم سكان المنطقة من ظلم هجام حسب الله عليهم. وبايع إسماعيل عبد النبي المهدي فنصبه أميرا على المساليت. ثم قام عند عودته لدار المساليت بتكوين قوة طرد بها هجام وأسس عاصمة لسلطنته في ديرجيل (في عام 1880م)، وظلت ديرجيل عاصمةً للمساليت حتى عام 1914م. وفر هجام إلى دارفور، وقام من هناك (مستعينا بالفور) بثلاث محاولات لاستعادة حكمه لدار مساليت. ونجحت المحاولتان الأولى والثانية، إلى الحد الذي بلغت فيه حد إحراق ديرجيل بأكملها. غير أن الفكي إسماعيل عبد النبي أفلح في الفرار في المرتين من عاصمته على ظهر جواده. ولم ينجح الهجومان في السيطرة تماما على دار مساليت. وبعدها هُزم هجام في محاولته الثالثة هزيمة شنيعة، توقف بعدها عن محاولة استرداد حكمه السليب، وهاجر إلى أم درمان. وقد يستنتج من تلك الرواية أن السلطان إسماعيل عبد النبي كان هو الخيار الشعبي المفضل لحكم المساليت، إذ أن الطريقة المحلية في شن ذلك النوع من الحرب هو أن يقوم القادة بالطواف على مناطقهم المختلفة لتجنيد وحشد المقاتلين (يسمون ذلك "حربة"). غير أن هجام فشل في ذلك، حتى بعد أن سانده الفور. وبعد سنوات قليلة، ذهب (أو هُجر. المترجم) إسماعيل عبد النبي وكل أولاده مع التعايشة إلى أم درمان. وسمح لاحقا لكل أولاده (ما عدا ولدين منهما) بالأوبة إلى دار مساليت. وعين أكبر أولاد الفكي إسماعيل أبكر سلطانا على دار مساليت. وبقي إسماعيل بأم درمان، حيث وافته المنية بعد وقت قصير من عودة أبنائه لدار مساليت. حكم السلطان أبكر إسماعيل (حوالي 1889 – 1905م)
نعمت سلطنة المساليت في سنوات حكم السلطان أبكر إسماعيل الطويل باستقرار وازدهار نسبي. وقبل أن يتسنم علي دينار حكم السلطنة، نشبت بعض الحروب الصغيرة بين المساليت والفور. غير أنه لم يكن يحكم دار فور من هو بالقوة اللازمة لتحدي السلطان أبكر، الذي أفلح في تكوين جيش قوي مكنه من تعضيد مركزه كزعيم وحاكم لقومه في دار مساليت. وقام بتعيين نواب له لحكم دار جبل ودار إرينقا. وأقام نظاما إصلاحيا تضمن تكوين حكومة مركزية، عين لها قاضيا ووزيرا، وأنشأ نظاما لجمع الزكاة بحسب الشريعة الإسلامية. ومنع كذلك كل العادات الوثنية التي كانت تمارس في بعض المناطق مثل بعض العادات الغذائية المستنكرة). وأبطل السلطان أبكر عادة المغالاة في المهور، والتي أفضت لمشاكل جمة منها خطف الشباب الراغبين في الزواج للفتيات من بيوت أهلهن بسبب إصرار الآباء على دفع مهور عالية لبناتهم. فحدد السلطان مهر المرأة ببقرتين فقط. وأمر بمصادرة أملاك كل والد يطلب مهرا لبنته بأكثر مما حدده. وحافظ السلطان أبكر على علاقة جيدة بأخيه تاج الدين، وكان يعتمد كثيرا على نصحه. لقد كان عهد ذلك السلطان "عهدا ذهبيا" يتذكره المسنون من رجال المساليت بنوع من الأسى. ولما عاد علي دينار لدارفور وبسط سلطته عليها، كان يرغب بالطبع في توسيع مساحة الأراضي التي يحكمها لما هو أكثر من ديار حكم أسرته قديما. غير أن طماح سلطنة المساليت المستقلة كان يقف حجر عثرة أمام تطلعاته التوسعية. ولم يفكر السلطان علي دينار في الاستيلاء على سلطنة المساليت إلا في عام 1905م بعد أن أحس بأن له من القدرة ما يلزم لضم تلك السلطنة لدولته. في أبريل من ذلك العام أرسل علي دينار حملتين في وقت واحد ضد المساليت، إحداهما بقيادة آدم علي، جاءت من الشمال عبر "دار قمر"، والأخرى بقيادة محمود الديدنقاوى، أقبلت من الشرق عبر وادي بري. وقام الفكي سنين في كبكابية بتنبيه السلطان أبكر للخطر القادم، ونصحه بانتظار جيشي الفور في ديرجيل (يمكن الاطلاع على المقال المترجم بعنوان " الفكي سنين حسين وعلي دينار" لصمويل بيه عطية. المترجم). وكره السلطان أبكر فكرة الفكي سنين القاضية بهجر الأجزاء النائية من سلطنته وتركها أرضا مفتوحة للعدو، وقرر مواجهة جيش الفور القادم نحوه. وقدم تاج الدين اقتراحا سديدا بأن يحمل مقاتلو المساليت على قوات محمود الديدنقاوى أولا، ليفرغوا بعد ذلك ويميلوا ميلة واحدة على قوات آدم علي. غير أن وزيره حسن تونجي أقنع السلطان أبكر بتقسيم قواته لقسمين على رأسهما هو (لملاقاة جيش محمود الديدنقاوى)، وتاج الدين (لملاقاة آدم). وكانت قوات المساليت تتكون من "جهادية" (أو جنود نظاميين) مسلحين بالبنادق وهم على ظهور الخيل، مع عدد كبير من المشاة المسلحين بالحراب التي جُمعت من كل قرى المنطقة. وقبل السلطان أبكر بنصيحة وزيره حسن تونجي، رغم معارضة تاج الدين الشديدة لها. وكما توقع تاج الدين جاءت نتيجة المعركة بنتائج كارثية على جند المساليت. (أورد الكاتب بلغة المساليت بعد هذه الجملة بعض الأبيات التي خلدت تلك المعركة في تراث المساليت. المترجم). نصحكم سنين بألا تعبروا وادي باري ولكن الوزير أربككم بمشورته ذلك الوزير عديم الرجولة كم هو مؤلم رؤية رجالنا يقتلون هكذا! وكان مع السلطان أبكر من أولاده محمد بحر الدين (اندوكا) وبدوي، ولفيف من كبراء المساليت الذين تصدوا لمحمود الديدنقاوى في شاواي الواقعة في وادي باري، حيث أقام جند الفور لهم معسكرا (زريبة) وحفروا حوله خندقا غطوه بأغصان الشجر وأوراقها من باب التمويه. ولم يكن السلطان أبكر يظن أن الفور سيقاتلونهم في ذلك اليوم، فأمر جنوده بأخذ الخيول لتروي عطاشها، وأمر عددا كبيرا من مشاة جنده بجلب حطب الوقود من أماكن متفرقة وبتجهيز المعسكر. غير أن كل تحركات جنود السلطان أبكر كانت مرصودة من قبل حراس معسكر الفور الذين كانوا يراقبونهم وهم مختفين بين أوراق أعلى أشجار المنطقة. وعلى الفور باغت جنود محمود الديدنقاوى السلطان واندوكا وبدوي وبقية كبراء المساليت وهم بلا حراسة تذكر، فلاذوا بالفرار على ظهور خيولهم وتفرقوا في كل الاتجاهات. وكان من ضمن جنود محمود الديدنقاوى من يستطيع التعرف على السلطان أبكر إن رآه. لذا كون محمود فرقة من هؤلاء لتعقب السلطان أبكر وأسره. وقد تم له ما أراد، فلم تغرب شمس ذلك اليوم إلا والسلطان أبكر في قبضة جنود الفور. وأنتشر قواد جيش المساليت في مختلف المناطق وجنود محمود يتعقبونهم. وانسحب من بقي من جنود المساليت إلى غرب منطقة "مستري"، حيث انضموا لتاج الدين وجنده. وكانت أنباء معركة شاواي الكارثية قد بلغت تاج الدين وهو في طريقه لملاقاة جيش آدم علي. وكتب السلطان علي دينار خطابا طويلا لمدير مديرية كردفان يخبره فيه بانتصاره على السلطان أبكر، نقتطف منه التالي: "بعد تقديم السلام ووافر الاحترام ... أرجو تقبل خالص تحياتي وعظيم تقديري ... أكتب لسعادتكم لأخبركم بأن دار مساليت كانت منذ قديم الزمان من ضمن أجزاء سلطنتنا، وكان سلطانها هو السلطان أبكر المسلاتي. غير أنه أظهر لنا العصيان والكبرياء، وأرتكب من الجرائم الخطيرة والأعمال الشريرة ما يخالف شرعة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم). وإضافة لذلك، فقد قام بقتل المساكين الأبرياء ونهب وسلب ما عندهم. ولما كتبنا له ننصحه بالحسنى أن يكف أذاه عن الناس، لم يسمع لكلامنا ولم ينفذ أوامرنا، بل أظهر لنا العصيان والتمرد ... لذا قررنا أن نُسير ضده حملة عسكرية تقبض عليه إن لزم الأمر. ولكن قبل أن نشرع في ذلك توقفنا عن تسيير تلك الحملة لأن بعض المسلمين هنا (وهم من رعيتنا) عرضوا علينا أن يتولوا تلك المهمة بأنفسهم، معرضين أرواحهم للخطر عوضا عن قيامنا نحن بمجابهة ذلك الرجل. وإرضاءً لخاطرهم قبلت بالسماح لهم بالتصدي له، وأمددتهم بجنود وخيول وأسلحة وحراب وبكل ما يلزمهم للقتال ... كان في تلك الحملة من الفرسان 1,500 مع 4,000 من الجنود المسلحين بالبنادق، ساروا – برعاية الله – بقيادة ملوك وقادة سلطنتنا، منهم الملك محمد علي أبو دادينجا، والملك قمر الدين عبد الجبار، والملك علي النور داتيل ... وعند بلوغهم دار مساليت شيدوا الزريبة اللازمة لإقامة الجيش ... ....................................... وقاد (السلطان أبكر) جيشه مهاجما جندنا في زريبتهم، وبدأنا في مدافعته إلى حين، فتراجع، ولكنه عاد بكل أفراد جيشه، وأقام له معسكرا بالقرب من قواتنا حتى بزغ فجر اليوم التالي. حينها وقعت المعركة الكبرى التي سقط فيها كل رجاله صرعى بنيران بنادقنا. قُتل في المعركة من جنوده خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله. وفر السلطان أبكر من أرض المعركة باحثا له عن ملجأ من نيران جنودنا. غير أن جنودنا الأشاوس بذلوا غاية جهدهم في ملاحقته. ولم يتمكن من الفرار بعيدا قبل أن يأسروه ويبعثوا به للفاشر. ولم نفقد في محاولة أسره سوى ثلاثة خيول. ووصل السلطان مأسورا عندنا يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول عام 1323هـ (الموافق للتاسع عشر من مايو 1905م. وكما هي عادتنا، وعادة ملوكنا وسلاطيننا في الصفح والعفو، فقد عفوت عن السلطان أبكر، وشملته بالعطف والإحسان، وهو الآن بالفاشر ينعم بالحرية ويُعامل أحسن معاملة. لقد أسرناه من بين 1,800 فارس، وغنمنا أسلحته ودروعه وزينات جيشه. كانت لدي جنده بنادق قليلة العدد (لا تزيد على 500 بندقية فقط) قمنا باستلامها منه. وأكتسح جيشنا الظافر أراضيه وصادر كل ما فيها. أثق في أن سعادتكم سيكون سعيدا بسماع هذه الأخبار الطيبة عن انتصارات جيشنا، لذا رأيت أن أنقلها لكم في هذه الرسالة، ولأنه من الواجب علي أن أرفع لسعادتكم تقريرا عنها. وتقبلوا مني السلام". وعلى إثر الهزيمة، اجتمع قادة المساليت في "تيرميننق" للتشاور فيما سيفعلونه. وأعلن تاج الدين في ذلك الاجتماع أنه لا يسعى لتولي زعامة السلطنة، وأقترح أن يتولاها محمد بحر الدين (اندوكا)، ووعد الجميع بأنه سيعين ابن أخيه في أداء مهمته، كما أعان والده أبكر من قبل. وهنا تدخل الوزير حسن تنجي بمشورة شريرة ليوقع بين الإخوان حين أسر لاندوكا وبدوي بأن تاج الدين يخدعهما بكلماته المعسولة، وإنه ينوي "أكل ميراثهما) بعد وفاة أبيهما. وكانت النتيجة أن تخاصم الإخوة، وأعتزل كل واحد منهم أخويه، وأقام بجماعته منفردا عن الباقين. وبينما كان المساليت في تلك الحالة من الفرقة والخصام، كان الفور بقيادة محمود الديدنقاوى وآدم علي قد جمعا قواتهما معا وهجما على المساليت وأنزلا بهم هزيمة قاسية. وانسحب على إثر تلك الهزيمة اندوكا ومن بقي معه من أتباعه إلى أمبشي، بينما لجأ بدوي ومن معه إلى دار سيلا (حيث قام الداجو بسلبهم كل ما معهم). وانسحب تاج الدين إلى "تمتمة" في أقصى منطقة في شمال غرب دار مساليت. وألف المساليت أغنيتين تعبران عن استهجان سلوك ذلك الوزير جاء في إحداهما أن "جماعة الوزير في تيرميننق يجأرون كالبقرة"، وأشادت بموقف ابن الوزير (مهدي) الذي آثر الموت مع تاج الدين عوضا عن إتباع والده. أما معاني كلمات الأغنية الثانية فقد جاءت على النحو التالي: وزيركم قد صار غرابا كيف مال قلبه إلى دار سلا وقد تدفقت إليها جموع من أطفال قرجنق كاليتامى