سلمى المـُــذَكـَّــــرَة

 


 

 



أول ما سمعت خبرها كان همساً ، رأى صويحباته  أني بعيدٌ ولن أسمع الأخبار. ملخص القصة أن معركة نشبت بين  " سلمى" و " محاسن " بنت الجيران وانتهت بالضربة  القاضية!. بدأ الخبر حين  رأتها "محاسن" تتمشى في الطريق المجاور وكانت كالغريبة وحدها ، فطمِعت في استدراجها للحديث بالمشاغبة. وتخيرت الألفاظ الشائعة التي تستدرج الرد  .لامستْ السخرية كهرباء الغضب ،ولم تتصور " محاسن " أنها اقتربت من اللهب . لم تصبر " سلمى" على المنازعة الكلامية والجدال الدائري ، بل عالجتها بلكمة من قبضة يدها عند الفك ، وحسمت المعركة قبل أن تبدأ . كانت المفاجأة مذهلةً لمن حضرنّ ، فقد أُصبنَّ بالرعب وهربنَّ .
ليس لدى " سلمى" مصطلح لغوي ينتمي إلى الطفولة النسائية دون الرابعة عشر . كان صراعها مع " محاسن " صراع جسدين أو لغتين أو ثقافتين. هو صراع "جندري "ختمته النهاية المُحزنة . تفوهت " سلمى"عند نهاية المطاف بألفاظ  الغضب والاستهجان التي يلفظها الذكور عادة  ، شكلاً ومحتوى ، في النطق ومخارج الكلمات وفي النبر أيضاً .نهض التراث الثقافي للذكور في مواجهة ثقافة الإناث المميزة في مجتمعنا . صراع "جندري" دون شك ، الذكورة فيه هي الغائبة والحاضرة في هذا الصراع .
(2)
" سلمى" في الثالثة عشر ، طويلة القامة نسبياً ، مقارنة بمنْ هُنَّ في عمرها . جسدٌ أسمر ممتلئ ومصلوب ، قوي البنية. وإن تركَتكَ تتأمل ملامحها  لحظة ،لبَدتْ لك مظاهر جمال تتخفى ،تنتظر موعد النضج.
رأيتها للمرة الأولى عندما زرت  بيت خالي ، عند زوجته الثانية  ،ذات مساء . يقع البيت على طرفٍ من أطراف بيت الأسرة الكبير . مدتْ"سلمى" يدها للمصافحة . وتعرفتْ يدي على ملمس يدها متوسط الخشونة ، كأني أمام طفل ، يكبرني ثلاث  سنوات . ارتدت" سلمى " فستاناً مزخرفاً برسوم باهتة تشبه أوراق الشجر الخضراء الناعمة. فستان بتصميم  متكرر ومبسط بلا رتوش، يغطى بعض الجسد ، ويترك الذراعين والعضدين واليدين مكشوفين ، وينتهي في الأسفل عند أعلى الساقين وتنتعل قدماها حذاء من البلاستيك الرمادي. الشَّعر منسوج كله بلا عناية ، يرتمي على الكتف .ضفيرتان من الأمام تتراقصان عند أي انفعال .الصوت عميق من أثر الجينات المختبئة .تسمعها ، فتعتقد أن طفلاً يزحف إلى مرحلة البلوغ و بدأ صوته يخشوشن ،هو أقرب إلى " الألطو" النسائي. إن أغمضت عينيك وأنت تستمع لها ، فلن تحسب أنها امرأة تتشكل أو أنثى تتكون ، بل طفل يشتاق أن يكون رجلاً. وجدتني قريبٌ من هذا التكوين الغريب بمشاعر محتشدة لم استطع أن أتبين حقيقتها . تبدت الأُلفة بيننا منذ لقائنا الأول . ودٌ جاء من وقع النظرة الأولى ، من حيث لا يحتسب المرء.
غابت زوجة خالي دقائق ، لتُعد لنا أكواب الشاي الأحمر . برّاد نحاسي وأكواب زجاجية  شفافة صغيرة  تجلس جميعاً على إناء  مفلطح من الألمنيوم . صبّت لنا صاحبة البيت الشاي ، في زمان كانوا لا يسألونك عن مستوى الحلاوة التي ترغب  لطعم الشاي ، لأنك دون شك تحب الطعم حلواً  ، و ستحرق السُعرات ، لأن طبيعة الحياة نشاط مُفرِط ، يبذل  فيه  الجميع جهداً كبيراً خلال النهار وإلى الليل. " لطيفة " هي  زوجة خالي ، تعرف كيف تصنع  خميرة الأحاديث الجاذبة . تُلقي بالحديث على عواهنه  وتتبسم تنتظر رد الفعل . هي  سيدة تكبرني بست سنوات ، لم يكن بيننا فروق تُذكر إن قرنت ذلك  بتكويننا النفسي ، فكلنا شركاء مشاعر طفولة متقاربة . فهي سيدة دخلت حياة النساء عبر بوابة الزواج ، ولم تزل طفولتها ممتدة . ودودة ، تستأنس الأضياف بمحبة .
(3)
لرواية "سلمى" لقصة معركتها مع " محاسن " طعم آخر ، حين جلستُ مستمتعاً بطريقة سردها الأخاذ. ضمير الفاعل غير ضمير المشاهد  . هناك أكثر من زاوية لرؤية الموضوع . ذات الألفاظ التي يسرد بها الواحد منا فلماً أميركياً لرعاة البقر، تجدها تحفزكَ بأسلوب درامي جاذب . تنفصل برهة  عن شخصيتها وهي تحكي بلذة  حقيقية كيف نالت النصر أخيراً ، في الحادثة التي أتينا على ذكرها وسردت قصصاً أخرى، لم نكن نعرفها من قبل ، وهي ترتدي شخصية  البطولة التي لا تُقهر . تُرضي رغبة جامحة داخل نفسها الغامضة  لتلحق الهزيمة بالأنثى ، أياً كانت  !.
وجدت نفسي أحاول أن أتقبل هذا الكائن الجديد بلا تحفظ . من البعيد ، بدت " سلمى" أقرب للمرأة ، لو لا سيرتها الجسورة  عن قُرب. تدخل هي إلى الصالة الشعبية المخصصة للذكور في " سينما الجيش ببانت" ،  لوحدها أو مع شقيقاها الأصغرين" أحمد " و " محمد ". فهما يستظلان بها ويحتميان . تقضي مساء السينما  وسط الصخب والضجيج  . وتستريح أمام الصياح واللعنات المتلاحقة كلما عكر صفو التسلسل السينمائي طارئ .القاعة الشعبية المكشوفة على الهواء الطلق ،تحتمل الكثير من التناقضات ، فعلى طرفٍ  من أطراف القاعة الشعبية ، تجد موقداً هادئاً  ،عليه طاجن  فيه طبيخ اللّحم ، يغلي ببطء ، وعلى غطائه حجرٌ ، وشراب " العَرَق" البلدي تدور كؤوسه الصغيرة  بين الكبار .
لا أحد يستغرب أو يُدهش ، إلا الغرباء . يسألون بهمس عن قصة " سلمى المـُــذَكـَّــــرَة " .أما هي  فلها أذان  بحساسية لاقطة تميز الأحاديث عنها  من غيرها ، وتواجه بالعنف من يأتون بسيرتها خيراً أو شراً.حتى الذين  يفكرون بصوتٍ عالٍ  تجدها ترقبهم وتحمحم . فأي بادرة تعليق أو استغراب إلا ويجد صاحبها لكمة ترسلها موجعة . العنف جزء أصيل من حياتها اليومية ، ولكنها أمامي فهي  كائن هادئ مختَلِف . نبعٌ صافٍ ، تحاول هي قدر ما تستطيع أن تكسر هذا الكساء اللطيف من الضعف أمامي، وتختلق  موضوعات أخرى بلا سبب ، حتى لا تترك لنفسها أسئلة بلا إجابة :لِمَ ينتهِ هذا الصخب وهذا العنف  أمامي ؟!. لم أكن أعرف السبب .
(4)

شقيقها الأكبر" عصام " هو الذي استأجر لهم المنزل في أطراف حيِّنا  ، والدها قد توفى منذ سنوات حسبما ذكرتْ لي ، وتسكن في البيت مع أمها وإخوتها الذكور . أم درمان في ستينات القرن الماضي  كانت تستعص أن تكون شبه مدينة مثل الخرطوم . جرّدها المستعمرون من روح المدينة وأبقوها على ريفيتها ، وتبعهم الذين جاءوا بعدهم بذات النهج . أم درمان  قرية ريفية الشكل والمحتوى . البيوت عندنا في ذلك الزمان مساحات واسعة ، تحفظ في باطنها غرفاً متعددة ، وأسوار مبنية من اللّبِن  لا ترتفع أكثر من مترين ، تفصل المتزوجين عن غيرهم . على طرف قصي توجد في كل بيت " زريبة " للماعز  وأقفاص الصفيح متراصة أبراجها للحمام . والضجيج اليومي يحدثه الأطفال والدجاج والقطط والكلاب  . وهي صورة متماثلة للحياة في البيوت في تلك الأيام . تقوم سيارات البلدية كبيرة الحجم ،ملحق بها خزانات المياه برش الطرقات الترابية لتلطيف حرارة الطقس في موسم التهاب السحائي .تزرع  البلدية فسائل أشجار الظل أمام البيوت على الطريق العام . يطوقونها بسياج يمنع غزو الماعز ، فتنهض الأشجار ، وتحت ظل أحدها ، كنت أنتظر " سلمى " وإخوتها مساء كل يوم  .
في الجهة الغربية من الحي ، من بعد المقابر ، أرضٌ فسيحة  خضراء  ، تتناثر فيها على مد البصر غرباً  أشجار  السَلَم  والحناء والأراك و الكِتِر  . تشاهد من البعيد أسراب النسور واللقالق  والقمري أو الجراد في زمن البؤس . أرضٌ تفسح لمغطيات التربة العشوائية  الخضراء أن تكون غذاءً يصلح للأغنام في مسيرها الطبيعي  اليومي مع الرّاعي منذ الصباح وإلى الغروب . فالأسر السودانية كانت تعيش شبه اكتفاء اقتصادي . يوجد البيض و لحم الحمام عند الحاجة والحليب توفره الأغنام. هذا هو أنموذج حياة  كل البيوت أوائل ستينات القرن الماضي.
(5)
في أيام الجُمع نذهب جميعاً أنا و" سلمى " و شقيقاها " محمد " و " أحمد "  مع أربع من الماعز التي تملكها أسرتها ، إلى المراعي الطبيعية غرب أم درمان منذ الواحدة بعد الظهر إلى وقت غروب الشمس. نصطاد الخنافس الملونة من  على شجر الحناء  ونحفظها في عُلب لبيعها لأبناء الحي . ندلف في طريقنا إلى التلال الاصطناعية  المخصصة لتدريب العسكريين على إطلاق النار ،لنجمع  المتبقي من مادة الرصاص من حولها ، ونعود  آخر المطاف عند الغروب بكمية وفيرة ، تقوم " سلمى" بصهرها في قالب ، وتذهب عصر اليوم التالي  لبيعها في سوق "الموردة " مادة للحام الأواني .
علاقتي بسلمى غريبة و غامضة  . تنطفئ العواطف في قمة  وضوحها ورونقها ، وسط عقلانية كانت تميزها  في السلوك وفي الرؤى وفي التفكير وفي الحديث . نعيش حياة الجندر ، بكل التواءاتها والتفافها على القيم الاجتماعية . لم أختلف معها في قضية أبداً ، بل  نتفق دائماً . كانت " سلمى" تتطلع للقيادة . وكنتُ أُرضي كبرياءها عن طيب خاطر لأروي ظمأ لديها لا حدود له  ، وأقلل في ذات الوقت مخاطر مواجهتها . الأنثى في داخلها مسجونة ومكتومة الأنفاس ، فهي الوحيدة في أسرتها ، وسط عُصبة يحيا فيها الذكور ، يستمتعون بكل شيء وما يتبقى هو للإناث ، وهو ظلم اجتماعي غير مُبرر ،يعيشه الجميع دون استغراب!. حياة قد ترضاها الأنثى ذات النفس  السوية المتوازنة  ، وفق مفاهيم علم النفس في القبول بثقافة المجتمع والتعايش معها. وقد ترفضها منْ تتطلع للعدالة ، لتخرج من سجن الأنثى وتعيش كائناً في المقدمة كما هو حال "سلمى" التي اختارت الطريق الأصعب والأخطر ، أما بقية الإناث المقهورات ،فيعشنَّ عيشة الرضا النفسي الذي لا يرى غرابة  في القهر الاجتماعي ، ويستسلمنَّ للمصائر .
(6)
" سلمى" ذكرٌ كاذب ، أغْمضتُ عينيّ وذاكرتي وذهني عن هذه الحقيقة ، كأنني ارتضيتها أو ارتضيته صديقاً بلا تحفظ. فأنت قبل سن البلوغ ، لا تنتبه للمشاعر أو فتنة الهرمونات عندما تُحرك الماء الراكد . فجاذبية الجنسين المُدمجين في برنامج واحد يحفز في نفسي العوالم الغريبة التي كانت  تجتذبني أيام طفولتي ، وكانت  هي شغلي الشاغل .
في يوم عادي مثل سائر الأيام ، سمعت بأن أسرتها سترحل وتغادر الحي . لم أعرف الأسباب ، وأظنه محض قرار . لم أجد الوقت ولم تجد هي الوقت لتودعني كما يجب .
قالت فجأة : سنرحل غداً .
قلت : إلى أين ؟
قالت : إلى بانت شرق
قلت مكرراً : إلى أين ؟
قالت : لا أعراف.
كان الختام هادئاً . لم تكن هناك عواطف جامحة ولا تراجيديا للفراق  . نظرتني طويلاً ، كأنها تستعرض العُمر الذي قضيناه عاماً ونصف العام . حملتْ تلك النظرة المتفكرة الطويلة مشاعر تختلط بالأسى والحزن والرأفة والحسرة والغضب ، وكانت المحبة ضمن سلسلة هذه المشاعر ولكنها  أضعف الحلقات  جميعاً. قالت بهدوء وبمقلتين التمعتا :
" سوف أعود للحي وأخبركم ."
كان "الضمير الجمعي" يشملني ضمن منْ يشمل ، رغم أننا كنا وحدنا !.مضى اليوم الأول  والثاني والرابع  من بعد الرحيل ،ومضى شهرٌ ولم تعُد ، بل سنتان وبضع سنين ، وكدتُ أنساها ...
(7)
خلال سهرة مسائية  يقيمها " الختمية " في ذكرى مولد السيد " محمد عثمان الختم " في إحدى  الأيام الرمضانية في الحي المجاور، يجتمع الناس من كل صوب ليشاهدوا المسرح الارتجالي المفتوح . الإنشاد والمدائح والغناء والرقص وغرائب  عنفوان الراقصين على نغم الأذكار وقد أخذ بعضهم " الجذب " الصوفي ، بملابسهم الملونة والطبول والدفوف والإيقاعات المتنوعة بتنوع الطرق الصوفية المُشاركة، في مساء متلألئ بأنوار النيون ، وبائعي الحلوى التي تُصنَع للمناسبة . وسط هذا الزحام من الممثلين والمشاهدين والنسوة والأطفال وكبار السن ، لمحتُ منْ تشبه " سلمى" . أنثى مُكتملة الأنوثة ، تتوهج وتضيء منْ حولها ، تحمل طفلاً  نائماً على كتفها برضا وطمأنينة . لم أكن أصدق أنها هي ،إلا عندما نطقت اسمي . اقتربتُ ،وهالني ما رأيت : سمراء  رائعة الجمال ، دقيقة الملامح ، مُخضبة اليدين ، ملفوفة الجسد، تشهد التقاطيع  من تحت الثوب السوداني الشفاف وتلمح الجسد المفصص . في عينيها صفاء استرجع الأنثى المفقودة وقد تصالحت مع نفسها . وجدتُها واسطة عقد متراصٍ من النسوة ، ومن حولهُنّ الأطفال في شغبهم الدائم . حياة تتحدث  بصوت مسموع  . ها هي " سلمى " ، صارت الآن امرأة تحتفي بالدنيا  من حولها ، وتحتفي بها الدُنيا. مشرقة الابتسام . أول مرة أشهدها بتلك التقاطيع الأنثوية الوضاحة. قامتي قاربت قامتها في الطول . تبسمتْ وما كنت أعرف عنها ابتساماً من قبل . الآن ما عادت طفلة ،بل امرأة أخرى، يرِف لها القلب وتنحني لها الهامات .في تلك اللحظة ارتجت نفسي وشُلَّ تفكيري وأنا أصافحها وقد انفتح العُمر كله نحوي : الماضي كله والحاضر الماثل أمامي ،بعواطف  محمومة تركض متزاحمة و متلاحقة...
أمسكتْ يدي بملمس بض وخاطبتني بتلقائية الفرح :
" والله مُشتهياك " ....

عبد الله الشقليني
24/02/2014م

عبد الله الشقليني
abdallashiglini@hotmail.com
//////////

 

آراء