Slavery Policy and Practice in the Anglo –Egyptian Sudan
Tag Hargey تاج هارقي
**** **** **** تقديم: هذه ترجمة مختصرة لمقتطفات من مقال نشره دكتور تاج هارقي في عام 1998م بالعدد التاسع عشر من مجلة " الرِّقُّ وإلغاؤه Slavery and Abolition ". حصل الكاتب على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1981م بأطروحة عنوانها: "كبح تجارة الرقيق في السودان بين عامي 1898 – 1939م" The Suppression of Slavery in the Sudan, 1898 - 1939". لمشاهدة مقابلة للكاتب في أمر آخر على قناتي بي بي سي والجزيرة يمكن مشاهدة: https://www.youtube.com/watch?v=HinjxXa7C4s https://www.youtube.com/watch?v=7HBknbHp3R4 المترجم ********* ********* *********** إنفاذ ملتبس للعبودية (1898 – 1918م) رغب حكام السودان الجدد بعد "اِستِعادتهم" للسودان في الثاني من سبتمبر 1898م في إعادة التوازن السياسي والاجتماعي – الاقتصادي للبلاد عقب الدمار الذي أحدثه الحكمان التركي – المصري والمهدوي في القرن التاسع عشر، والذي أفضى في سنوات المهدية إلى إنقاص عدد سكان البلاد بدرجة كبيرة. وكان حكم البلاد، على الرغم من تسميته بـ "الحكم الثنائي"، فعليا في يد البريطانيين حتى يوم الاستقلال في 1956م. ومضت بريطانيا، بخبرتها الواسعة في البلدان الإفريقية، في التعامل مع السكان الذين هزمتهم بحكمة ورَّوِيَّة، وفي ذات الوقت سعت لإدخال بعض القيم الإنسانية المعاصرة. ووضح ذلك التوازن في سياسات الرق التي اختطتها الحكومة الجديدة باكرا. وبالنظر إلى واقع الأحوال البائسة التي خلفها العهد المهدوي، كان على النظام الوليد أن يقبل بدور حيوي لعمالة المسترقين في مجال الزراعة والمجال الاقتصادي على نطاق أوسع. فقد كان الاعتماد على الذكور والإناث من المسترقين في الأعمال المنزلية والزراعية والعسكرية (وكخليلات أيضا)، وتلك التي تتطلب مهارات متميزة، خاصِّيَّة متأصلة في المجتمع السوداني، بل ولها أساس ديني. وواجه البريطانيون، وهم يرون حالة البؤس التي تكابدها البلاد، أمرين أحلاهما مر: عدم إلغاء العبودية، وبالتالي تخلي بريطانيا عن التزامها بمنعه، أو تحريم الرق فورا، ونقل النظام الاجتماعي من نظام يعتمد على عمالة الرقيق إلى نظام اقتصادي (مفروض من الخارج) يعتمد على العمل بأجر، وسيفضي لا محالة إلى تَنْفِير الرأي العام عند الفئات المؤثرة في أوساط السودانيين، ويقلل من الإنتاج الزراعي، ويخلق خُصُومَة اجتماعية، ويفاقم من التوترات المتزايدة في المناطق الحضرية. وإزاء تلك المعضلة قبلت الإدارة البريطانية بما يعرف بـ "العبودية العرفية customary slavery"، غير أنها عملت على قطع الطريق على ورود المزيد من المسترقين. وغدا مسموحا للمسترقين – نظريا - أن يفارقوا "مُلاَّكهم" (دون أن تقع عليهم أي أعباء مالية أو قانونية)، ولكنهم كانوا مجبرين عمليا على البقاء معهم كمسترقين، إلا إذا أفرط " مُلاَّكهم" في إساءة معاملتهم. وأصدرت الحكومة في عام 1901م مرسوما محددا يمنع الرق، ثم صدر "قانون العقوبات العام" السوداني الذي حرم الرق أيضا، دون أن يذكر كلمتي "الرق" أو "الرقيق" تحديدا، ولكنه حرم "كل أنواع الاختطاف والدعارة والسخرة". ثم اُفْتُتِحَ في عام 1904م فرعُ بالسودان لمصلحة مصرية تعنى بشؤون الرقيق وإلغاء الرق (مهمتها البحث في شأن المسترقين وتحريرهم ومنحهم ما يعرف بـ "تذكرة الحرية". المترجم). وفي تلك السنوات كان الاهتمام الأكبر موجها لمنع تجارة الرقيق أكثر منه موجها نحو منع الرق الموجود أصلا. وظل أطفال المسترقين الذين ولدوا في العهد الثنائي مسترقين فعليا (رغم أنه كان يجب تحريرهم)، وذلك بحسب السياسة البريطانية البراغماتية / العملية التي هدفت للتخلص من الرق عبر انقراض تدرجي، وليس عبر منع مفاجئ ومُعَجّل. وبعد مضي نصف عام من احتلال السودان، أصدر كتشنر قواعد أساسية لتلك الإزالة التدريجية للرق. وتمت إعادة تسمية الأرقاء في المكاتبات الرسمية بـ "الأرقاء المتطوعين" أو "السودانيين" أو "الخدم" أو "العاملين بدون أجر"، وذلك حتى تتوافق تسميتهم مع عدم اعتراف الحكومة رسميا بوجود رق أو أرقاء في البلاد. أما في المكاتبات الخاصة فكان يشار إليهم بـ "الخدم السريين / المستترين" أو "عمال السخرة". وأتت كل تلك التسميات المفتقرة للدقة، جزئيا على الأقل، بسبب النداءات التي أرسلها وجهاء أم درمان لكتشنر من أجل إيقاف ما كان يقوم به الجنود (المسترقون) من تعدٍ على منازل سكان المدينة وإخراج المسترقين منها عنوةً بذريعة لم شملهم بأسرهم الأصلية (تناول المقال المترجم بعنوان "استسلام وجهاء أم درمان" ذلك الموضوع. المترجم). ولم تستطع الحكومة تجاهل غضب "مُلاَّك" الرقيق الذين كانوا يطالبون إما بالاحتفاظ بمن تحتهم من مسترقين، أو بتعويضهم عن خسائرهم في حالة تحريرهم. وصرح لورد كرومر في يناير من عام 1899م لمجموعة من وجهاء أم درمان بأن الحكومة تتبنى حيال مسألة الرق سياسة تتلخص في أن: "الفتنة نائمة ... لعن الله من أيقظها" (في الأصل: لنترك الكلاب النائمة راقدة Let’s sleeping dogs lie . المترجم)، ووعد بقبول أحكام الشريعة فيما يتعلق بالرق المنزلي. ورغم أن هذا قد أرضى وجهاء أم درمان، إلا أنه أثار حيرة وذعرا في بريطانيا. ودعا نواب مجلس العموم البريطاني من ذوي الصلة بجمعيات محاربة الرق وزير الخارجية للتأكيد على أن الرق سيُمنع في السودان. وكان حكام السودان يتخوفون من تلك الجمعيات ويعدونها محض جماعات من المبشرين المتعصبين والمحرضين الجهلاء. وكان مهندس السياسة الحكومية حيال الرق ومن أكبر مؤيدي التدرج في تحريمه هو رودولف سلاطين (باشا). وكان ذلك الرجل النمساوي خبيرا بالأحوال في السودان منذ أن عمل به في غضون سنوات الحكم التركي – المصري، وخبره أيضا كسجين عند المهدي والخليفة، ثم مفتشا عاما بعد فتح (غزو) السودان، وكان يُعد "أذن وعين" ونجت باشا الحاكم العام حتى عام 1914م حين آب لبلاده. وكانت هنالك أدلة كثيرة على أن سلاطين كان رجلا عنصريا ومتقبلا لفكرة العبودية حتى أيام ذلك الغزو الثنائي. ففي أثناء زحف الجيش الإنجليزي – المصري نحو أم درمان انضم إلى ركابه الكثير من مسترقي شمال السودان الفارين. ولكن ورد في مذكرة حكومية أن سلاطين قال عنهم في محادثة خاصة مع السير أ. بيقي Sir A. Bigge في مروي: (إن هؤلاء الحقراء الخنازير لا ينبغي أن يعاملوا كرجال مستقلين أحرار ... السود يجب أن يبقون تحت حماية "مُلاَّكهم" السابقين الذين أجبروا على إحسان معاملتهم على وجه العموم". وسخر سلاطين من أصحاب الجمعيات المعارضة للرق. ولم تجد سياسته حيال الرق (التي غدت هي سياسة المؤسسة الحاكمة في غضون سنوات سلطته) من يعارضها. وشملت سياسته السماح بالتعامل العام في (أمور بيع وشراء) الرقيق بأم درمان، وإعادة الآبقين منهم لـ "أسيادهم" والاستجابة لمطالبهم. وكان سلاطين يؤمن بأن المسترقين المحررين والهاربين من "مُلاَّكهم" السابقين ما هم إلا مجموعة من الكسالى الطفيليين الذي كونوا لهم بؤرا إجرامية في "غيتوهات ghettos" بالمدن السودانية، ويؤمن أيضا بأن "منع الرق" هو في واقع الأمر "منع للعمل"، وأن غالب مصاعب السودان في العقد الأول من القرن العشرين (من إفقار اقتصادي، وسخط متزايد من السكان، وعدم استقرار اجتماعي) كانت كلها نتيجةً لتحرير الرقيق دون تمييز. لذا خلص سلاطين إلى ضرورة الحفاظ على الأوضاع كما هي. فملكت الحكومة المسترقين العسكريين أرضٍ صالحة للزراعة ليفلحوها، وأرسلت غيرهم من المسترقين إلى المزارع أو الورش الحكومية، أو أعادتهم إلى "مُلاَّكهم" السابقين. وبسبب النفوذ الكبير الذي كان يتمتع به سلاطين، تبنت حكومة السودان كل مقترحاته المذكورة. غير أن سلاطين كان أيضا يخشى من ردة فعل الرأي العام البريطاني إزاء سياسته، فأمر صغار الموظفين البريطانيين بتحاشي استخدام كلمة "أرقاء" لمن يعملون تحتهم من الخدم، بل وهدد بقطع اليد اليمنى لأي موظف يقدم على ذلك. ورغم كل تلك السياسات والممارسات الحكومية المؤيدة لبقاء الرقيق، فقد كانت كل التقارير السنوية للحكومة فيما قبل قيام الحرب العالمية الأولى ترسم صورة زاهية (وغير حقيقية) عن مجهوداتها في محاربة الرق. إنفاذ فعال لسياسة محاربة الرق (1919 – 1939م) توسع اقتصاد البلاد عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى بإنتاج القطن في مشروع الجزيرة، الذي وفر فرص عمل كثيرة لغير المسترقين (الأحرار) وللمسترقين أيضا. وجذب ذلك المشروع، حتى قبل اكتماله في منتصف عشرينيات القرن العشرين الكثير من المسترقين المحررين والهاربين من "مُلاَّكهم" السابقين من كل أنحاء السودان المختلفة. وغدا هؤلاء مثالا يحتذى لغيرهم من المسترقين كي يتحولوا للتحرر من إسار العبودية ويَبْدَأُوا حياة مستقلة. وشرعت حكومة الخرطوم، بضغوط من جمعية مكافحة الرق البريطانية ومن المبشرين والعاملين السابقين في السودان، في وضع أطر قانونية لإنهاء الرق بالبلاد. وفي بدايات عشرينيات القرن العشرين أصدرت الحكومة السودانية أوامرها بمنع ممارسة قديمة للشماليين (العرب) في جنوب السودان، كانوا يقومون فيها بجلب النساء المحليات والأطفال إلى الشمال كزوجات وخدم. وفي عام 1922م أصدرت الحكومة قانوناً يمنع دخول هؤلاء الشماليين للجنوب ومناطق الحدود الشرقية مع إثيوبيا. وكان الغرض من إصدار ذلك القانون هو صد ومحاربة النفوذ المتزايد للمسلمين في الجنوب، ولتعزيز سيطرة وتفوق البريطانيين في منطقة حوض أعالي النيل. (عُرف ذلك القانون بـ "قانون المناطق المقفولة". وجاء في موسوعة الويكيبيديا عنه التالي: "عمدت إدارة الحكم الثنائي إلى إصدار ما عرف بقانون المناطق المقفولة والذي حددت بمقتضاه مناطق في السودان يحرم على الأجانب والسودانيين دخولها أو الإقامة فيها دون تصريح رسمي. وشمل القانون سبع مناطق متفرقة من السودان هي دارفور وبحر الغزال ومنقلا والسوباط ومركز بيبور- وهي مناطق تقع في جنوب السودان ـ بالإضافة إلى مناطق أخرى في كردفان وجبال النوبة وشمال السودان. ومن مظاهر ذلك القانون حرمان السوداني الشمالي من إنشاء المدارس في الجنوب إذا سمح له بالإقامة فيها. وإذا تزوج بامرأة جنوبية فلا يستطيع أخذ أطفاله عند عودته إلى شمال السودان. وفي عام 1922م انحصر قانون المناطق المقفولة على جنوب السودان، وصدرت في عام 1930م توجيهات وأحكام هدفها منع التجار الشماليين من الاستيطان في الجنوب ووقف المد الثقافي العربي والدين الإسلامي من الانتشار في جنوب السودان، بل أن ارتداء الأزياء العربية التقليدية كالجلباب والعمامة كان محظورا على الجنوبيين. هذه السياسة التي وصفها أنتوني سيلفستر بالابارتايد الجنوبي تم التخلي عنها فجأة بعد الحرب العالمية الثانية، أي بنهاية عام 1946م. المترجم). وفي عام 1922م تم حل "مصلحة شؤون الرق" التي كانت مصر تتولى تمويلها. ورغم أن الاحصائيات كانت تشير إلى انخفاض أعداد معاملات الرق في مناطق السودان المختلفة، إلا أن القصد الأساس من قرار إلغاء تلك المصلحة كان هو إنهاء ثنائية السيادة المصرية في السودان. غير أنه ثبت أن ذلك القرار كان سابقا لأوانه، إذ سرعان ما عادت ممارسة تهريب المسترقين في مناطق كثيرة في وسط السودان وغيرها. وساهم وجود عدد من الموظفين البريطانيين الجدد من ذوي التفكير الليبرالي في السودان في إنهاء تقاعس الحكم الثنائي عن القيام بإجراءات جادة لمنع الرق وتجارته. غير أن وقوع سلسلة من الأحداث أجبر حكومة السودان على القيام بتلك الإجراءات، التي جاءت متأخرة على كل حال. وكان العامل المساعد في ذلك هو النقيب (الرائد لاحقا) بي. جي. دبليو. ديقيل، والذي كان يعمل مفتشا زراعيا صغيرا في منطقة الباوقة بمديرية بربر. وكان ذلك المفتش قد اشتهر بتوزيعه لشهادات الحرية للمسترقين دون تمييز. وكان ذلك مما أثار حفيظة مالكي المسترقين في المنطقة، فطالبوا بإيقاف ذلك التحرير الواسع فورا. ورد ديقيل بما يفيد أن "تحرير الأرقاء من الأمور التي لا تجد التشجيع من قبل سلطات هذا البلد، وذلك بسبب التعميمات الحكومية السرية، وكذلك لشيوع آراء كبار الإداريين البريطانيين (المؤيدة لاستمرار الرق) ...". وأيد البريطاني تي. بي. كريد مفتش بربر ما كان يفعله المفتش الزراعي ديقيل، وكتب لمدير مديرية بربر خطابا في الثلاثين من يناير 1924م جاء فيه أن "وضع الرق في البلاد هو عار مستمر لأي إدارة بريطانية". وقام مدير المديرية بالدفاع عن السياسة الحكومية الرسمية، وقَرَّعَ مرؤوسيه ولامهم على انتقاد السياسة الرسمية للحكومة. ورفض ديقيل (بتشجيع من كريد) التوقف عن توزيع شهادات الحرية للمسترقين رغم احتجاجات "مُلاَّكهم"، وأرسل في يوليو من عام 1924م تقريرا انتقد فيه بشدة سياسة الحكومة الملتبسة تجاه إنفاذ منع الرق. ونتيجة لذلك نفت الحكومة كريد إلى منطقة قصية في دارفور، وأكدت مجددا بأنه "ليس هناك بالسودان رق أصلا ليتم منعه بسرعة أو بتدرج". غير أن الحكومة لم تجد بُدا من أن تعدل سياستها نحو تحرير المسترقين، فأصدرت مزيدا من الأوامر لإنفاذ قوانين منع الرق، وأكدت أن كل المواليد بعد عام 1898م يعدون أحرارا. غير أن ذلك كان مدعاةً لغضب واحتجاج "مُلاَّك" المسترقين في مديرية بربر، فقامت ثلة منهم في منطقة "أبو حمد" بالهجوم على مكتب المفتش وحاولوا استرداد مسترقيهم الهاربين. ثم قدموا عرائض تلتمس إيقاف عمليات التحرير أو تعويضهم بالإعفاء من الضرائب. وهنا أضطر مدير المديرية لأن يطمئن المزارعين في كل شمال السودان النيلي (الذي كان يعاني اقتصاديا بسبب نقص عمالة المسترقين) بأن مسترقيهم العاملين في الزراعة لن يحرروا "دون أسباب قانونية". وكان ذلك الوعد يخالف ما التزمت به الحكومة للمفتش الزرعي ديقيل بمنح كل فرد حق الحرية، وأن ذلك الحق حق ثابت وأصيل لا يمكن النكوص عنه. ثم أتت حادثة اغتيال حاكم عام السودان السير لي استاك في القاهرة (في 24 نوفمبر من عام 1924م)، وقام تمرد (فاشل) للجيش المصري بالسودان، أعقبه طرد القوات المصرية من البلاد. وأدت تلك الأحداث لتشديد إنفاذ قوانين منع الرق وتجارته والتي "لن تحظى بشعبية كبيرة في أوساط العرب من سكان البلاد، الذين أظهروا (للحكومة) الولاء في الأحداث الأخيرة"، كما جاء في رسالة هيدليستون (مدير مديرية النيل الأزرق بين عامي 1922 - 1924م. المترجم) للسكرتير الإداري في 22 ديسمبر من عام 1924م. ثم أصدرت الحكومة تشريعات في 1925م كان القصد منها عدم استغلال قوانين الشريعة في حالات الوصاية على الأطفال المولودين من سريات (خليلات). وفي السادس من مارس من عام 1925م أرسل السادة/ على الميرغني وعبد الرحمن المهدي والشريف الهندي رسالة سرية لمدير المخابرات (سي. أي. ويليس) هدفت للتخفيف من حدة إنفاذ قوانين محاربة الرق. وعبر الزعماء الثلاث في رسالتهم عن أن التحرير العشوائي للأرقاء قد أفضى لزيادة الدعارة ومعدلات الجريمة وإدمان الخمور والكسل، إضافة لتدني الإنتاج الزراعي (يمكن قراءة نص الرسالة في هذا الرابط https://sudaneseonline.com/board/200/msg/1242734224.html . المترجم). وقوى من حجة الزعماء الثلاثة احتجاج قاضي القضاة على إقدام السلطات على "الافراط في تخفيف قوانين الشريعة". ولم تكن الإدارة البريطانية على اتفاق تام في شأن منع الرق، فقد كان السكرتير القضائي ينادي بالتحرير الكامل الشامل للمسترقين، بينما كان السكرتير الإداري يميل للتدرج في ذلك. وبعد مداولات واسعة في أوساط تلك الإدارة أصدرت حكومة السودان قانونا جديدا للرق (صدر باللغة الإنجليزية فقط) بدأ العمل به في مايو من عام 1925م، تقرر بموجبه منح الأرقاء (الساخطين / المتظلمين) عونا محايدا وعتقا تلقائيا. ولم تتوقف جهود جمعية مكافحة الرق البريطانية بعد إصدار ذلك القانون، بل ضاعفت تلك الجمعية من حملتها ضد الرق في السودان محليا في بريطانيا، وعالميا أمام عصبة الأمم. ورد وزير الخارجية البريطانية على ذلك الهجوم بإلقاء اللوم في استمرار الرق في السودان (رغم إصدار البريطانيين لقوانين تحرمه) على قانون الشريعة الإسلامية وعلى التقاليد والأعراف المحلية، وليس لإخفاق أو عدم اكتراث من جانب الحكومة. وعقب إصدار عصبة الأمم في عام 1926م لمعاهدة جديدة لكبح تجارة الرقيق حول العالم، أوصت الحكومة البريطانية حكومة السودان بالموافقة على تلك المعاهدة دون أي اعتبار لاحتجاجات متوقعة من الجانب المصري. وجاء في مذكرة سرية لمدير المخابرات (سي. أي. ويليس) أن موافقة حكومة السودان على تلك المعاهدة الدولية فيه تأكيد على حرمان مصر من أي سيادة على السودان، و"منع للمسلمين في مصر والسودان من إيجاد قضية مشتركة تجمعهما معا ضد بريطانيا العظمى". وكانت مصر، والصحافة فيها بصورة خاصة، قد استغلت في تلك الأيام سخط طبقة "مُلاَّك" المسترقين في السودان من أجل تمرير أجندتها في "وحدة وادي النيل". وأتبعت الحكومة السودانية موافقتها على معاهدة "عصبة الأمم" لكبح تجارة الرقيق بتشديد إجراءات مكافحة الرق، فتعاونت مع القنصل البريطاني بجدة في مسألة إطلاق سراح المسترقين السودانيين في الجزيرة العربية وتسهيل عودتهم لبلادهم، ونسقت مع البحرية البريطانية لمراقبة حركة البواخر التي تنقل المسترقين عبر البحر الأحمر، وكونت لجنة تحقيق في شأن العبودية بالبلاد. غير أن كل تلك الإجراءات لم ترض جمعية مكافحة الرق البريطانية ولا بعض أعضاء البرلمان الذين كانوا غاضبين من التقارير التي وردت إليهم عن وجود تجارة سرية للرقيق بين السودان وإثيوبيا. وغضبوا أكثر لما رفضت الحكومة ما قُدم لها من عروض من جمعيات خيرية بريطانية لدفع أموال لـ "مُلاَّك" الرقيق لعتق مسترقيهم. وفي عام 1926م نشرت الحكومة "ورقة بيضاء" حول الرق بالسودان (لشرح وتوضيح موقفها منه)، وبذا صارت مواقف الحكومة وممارستها إزاء إلغاء الرق وتجارته معلومة للجميع، وغدت عرضة للتدقيق من عامة الناس وخاصتهم. وكونت الحكومة في نوفمبر من عام 1925م لجنةً لتقصي الحقائق والإسراع بالقضاء على الرق بالبلاد ولدراسة إنشاء "مركز إعداد" للمسترقين المحررين العائدين من الحجاز، وعينت كذلك مدير المخابرات (ويليس) مفوضا لتلك اللجنة. وعمل ويليس بالتنسيق مع القنصل البريطاني في جدة لإيقاف بيع الأطفال سرا، وتحسين الأمن والحجر الصحي ووسائل نقل الحجاج في تلك السنوات التي اتسمت بالاضطراب والنزاعات الداخلية في الجزيرة العربية. وفي السودان قام ويليس بنشر وتعميم القوانين المتعلقة بالرق، ومؤامة الاحكام القضائية التي تصدرها المحاكم المدنية والمحاكم الشرعية في حالات التسري وحق حضانة الأطفال المسترقين، ومنع تأجير المسترقين لأداء الأعمال المنزلية وقيام المسترقين بشراء حرياتهم بدفع فِدْيات لـ "مالكيهم". وقامت الحكومة، بعد مداولات ونقاشات مستفيضة، بتصنيف كل من أسترق بالسودان رسميا إلى ثلاثة أصناف مختلفة هي (1) العَبْد (المَمْلُوك / المُستَعْبَد / المستَرَقّ) وهو من أخذ عنوةً من دياره وحجز بصورة غير قانونية وأُجبر على العمل بالقوة، و/ أو صار سلعة للبيع والشراء بصورة غير قانونية. (2) المولد، وهو الشخص ذو الأصل الزنجي الذي يعيش كأحد رعايا "سيد" عربي في حالة من الدونية الاجتماعية، ولكنه يُعامل أحيانا كفرد من العائلة (تعرف بعض القواميس المُوَلَّدُ من الرجال بأنه العَربيُّ غيرُ المحْض، أو من وُلِدَ عند العرب ونشأَ مع أَولادهم وتأَدَّب بآدابهم. المترجم). (3) المولد السابق، وهو الشخص صاحب الأصل الزنجي الذي حصل على حريته. وكان القصد من ذلك التصنيف هو الإسراع بالعمليات (الآلية) للتحرير والتحول لحياة مستقلة. وعلى الرغم من أنه كان لكل مسترق الحق في التحرر، إلا أن المسؤولين المحليين (خاصة في غرب السودان) واصلوا في إعادة المسترقين الهاربين بصورة عشوائية إلى "مُلاَّكهم" السابقين تحت ذريعة "الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي". وبينما كانت الحكومة تعلن رسميا بأنها أفلحت في القضاء على الرق، تسبب ترددها السياسي في تعطيل تحرير المسترقين في المناطق النائية مثل كردفان ودارفور حتى ثلاثينات القرن العشرين. ونتيجة لضُغُوط من جهات محلية ودولية عديدة قررت حكومة السودان مضاعفة جهودها في محاربة الرق بالبلاد، فأمرت مديري المديريات في مارس من عام 1931م بدراسة قضايا المسترقين والبقاء على الحياد عند الفصل في قضاياهم أمام المحاكم. وبعد خمس سنوات على ذلك أصدرت الحكومة قانونا وزع على جميع مديريات السودان يفيد بأن "الرق محرم في السودان، وكان كذلك منذ أن تمت استعادته". وحسم ذلك القانون كل لَبْس كان يحيط بما صدر من الحكومة من قوانين سابقة تمنع الرق. وأمرت الحكومة كل المحاكم المدنية والشرعية والأهلية بمعاملة كل الناس بصورة متساوية قانونا بحسبانهم من الأحرار. ورغم ذلك القانون الصريح، إلا أن الصحافة والاعلام الأوربي والدول الإمبريالية المنافسة لبريطانيا (خاصة فرنسا) ظلوا يتهمون الحكومة السودانية بغض بصرها عن حالات استرقاق وتهريب للمسترقين عبر الحدود. ونفت الحكومة السودانية ذلك بالطبع، وظلت تقاريرها السنوية في الثلاثينيات من القرن العشرين تشير إلى نجاح سياستها في القضاء على الرق وتجارته في البلاد رغم استمرار بعض العصابات الاثيوبية المسلحة في القيام بحملات لاسترقاق السودانيين القاطنين في المناطق الحدودية، وهروب بعض المسترقين الاثيوبيين الفارين إلى داخل السودان. وكان من نتائج سياسة القضاء على الرق بالبلاد في تلك السنوات تناقص أعداد الذين يستغلون موسم الحج لنقل مسترقين سودانيين للجزيرة العربية. وظلت حالات اختطاف الأطفال والنساء في غرب السودان تذكر الحكومة بأن "مؤسسة الرق" لم يتم القضاء عليها كليا بعد. غير أن التقرير السنوي للحكومة في عام 1934م أشار إلى أن قوانين المواريث الشرعية صارت تنطبق على أبناء وبنات "المالك" السابق من سراريه، فصاروا يمنحون أنصبةً مما ترك. وعند نهاية ثلاثينيات القرن العشرين بدا أن التحول إلى اقتصاد العمل والأجور قد حل محل عمالة المسترقين. واستغرق ذلك التحول جيلين كاملين قبل أن يتحقق تماما. وتحول السودان بعد تلك السنوات من مجتمع يعتمد على عمالة الرقيق إلى نظام دولة عمل تعاقدي حديثة، دون أن يصاحب ذلك التحول هزات سياسية كبيرة، ودون أن يتعرض سكان البلاد لثورات اجتماعية – اقتصادية مدمرة. وبالنظر إلى إمكانات نظام الرق بالبلاد، وتجذره فيها من قديم، فقد عدت الحكومة ذلك إنجازا ضخما. ***** ***** حاشية: الأوضاع المعاصرة توقفت مؤسسة الرق وتجارته رسميا بعد الحرب العالمية الثانية. وغدت على وشك الزوال في العقد التالي. غير أن استقلال البلاد في 1956م حرك سلسلة من الأحداث ساهمت في إعادة الحياة لتلك المؤسسة، خاصة في ثمانينات القرن العشرين. (تطرق المؤلف بعد ذلك لما هو معلوم عن الأحداث في جنوب السودان، وعن تهميش عناصر من سكانه في الجنوب وأجزاء طرفية أخرى من السودان، وعن إدخال نظامي النميري – بعد عام 1984م - والبشير – من عام 1989م ولعدة سنوات بعد ذلك - لمليشيات شاركت في الحرب في الجنوب، مما خلق أزمات نزوح واستعباد جديدة لسكان المناطق المتأثرة. المترجم).