سيدات هولنديات في السودان– مغامرات القرن التاسع عشر. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 



Dutch Ladies (Tinne) in the Sudan. NineteenCentury Adventures
Anna Maria Abushama – Rademaker آنا ماريا أبو شامة – ريد مايكر
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض وتلخيص مختصر لكتاب صدر في عام 2010م عن دار نشر ترافورد في فيكتوريا بكندا للمؤلفة آنا ماريا أبو شامة – ريد مايكر عن قصة سيدات هولنديات (من طبقة النبيلات من ذواتالصلة الوثيقة بالبلاط الملكي في لاهاي) قمن بمغامرة الترحال في غالب بلاد السودان ولمدة عامين كاملين في القرن التاسع عشر. كتبت المؤلفة في مقدمة كتابها إنها بقيت بالسودان عدة سنوات قبل أن تسمع لأول مرة بقصص هؤلاء النسوة الهولنديات النبيلات المغامرات، ومضت تقارن بين حال السودان – الحالي- وحاله وأحواله فيما سجلته هؤلاء النساء في القرن التاسع عشر، فوجدت أن كثيرا مما سجلنه النسوة الهولنديات عن الريف السوداني في تلك السنوات – خلافا لما هو حادث في المدن الكبيرة- لم يصبه كبير تغيير.
كان الفريق الهولندي في تلك الرحلة يتكون من: هينريتي ماريا لويس فان ستينقراتش كامبلين وابنتها الوحيدة وأختها ادريانا فان ستينقراتش، والكسندرنا بيترونيلا فرانسينا، وخادمين وخادمتين هولنديتين. حل الفريق بالخرطوم في الرابع من أبريل عام 1862م، وغادرها في الرحلة الأولى - بكامل أفراده-  متجها لجنوب البلاد في الأول من مايو من ذات العام. وفي الرحلة الثانية التي قام بها ذلك الفريق تخلفت السيدة / ادريانا عن السفر مع الفريق إذ بقيت بمفردها في الخرطوم لمدة عام وشهرين ونصف إلى أن توفيت. غادرت الكسندرنا الخرطوم نهائيا متجهة إلى القاهرة في يوليو من عام 1864م حيث بقيت هنالك لعدة شهور للتحضير لرحلة أخرى.
سجلت المؤلفة فقرات مطولة عن الحياة في "لاهاي" في تلك السنوات، وعن التاريخ الشخصي لبعض النساء اللواتي قمن بتلك المغامرة، وعن البلاد الأجنبية التي زرهنا، وتبين أن معظمهن كن قد زرن عواصم كل الدول الأوربية تقريبا، خاصة دول غرب أوربا والدول الاسكندنافية.
وصلت هينريتي وجماعتها إلى الإسكندرية في يوم 17/12/ 1855م حيث سجلت في كتاب مذكراتها اليومي ما رأته من "زفة الألوان" التي شاهدتها فكتبت تقول: " تخيلوا... قرابة الخمسين مركبا صغيرا تئن بحمولتها من المخلوقات السوداء التي ترتدي كل ما قد يخطر ببالك من الأزياءالملونة، وبعضهم لا يرتدي شيئا يذكر. يا للتنوع! الكل يتكلم أو يصيح محاولا فتح الطريق أمام القادمين من السفينة التي رست لتوها على الميناء. قابلهن في الميناء القنصل العام لهولندا بمصر (وزوجه التي تجيد اللغة العربية) معبرا بذلك عن احترامه لملك وملكة بلاده.لبت هينريتي وجماعتها دعوة نقلها لها ذلك القنصل من الأميرة زوجة سعيد باشا خديوي مصر لزيارتها في قصر المعمورة. في تلك الزيارة رحبت بهم الأميرة وأبدت اعجابها بشجاعتهن في زيارتهن السابقة للسويد. قامت أيضا بالطواف معهن على أجنحة القصر وأرضيته التي صنعت من خشب المهوقني والعاج المجلوبين من جنوب السودان.
سافرتجماعة السيدات الهولنديات من الإسكندرية للقاهرة في يناير من عام 1856م  بقطار السكة حديد، والذي كان قد أفتتح في العام السابق وأقاموا في الفندق الأشهر في ذلك الوقت "فندق شبرد" في حي الأزبكية بوسط البلد. من القاهرة سافرت تلك المجموعة مع رجلين هولنديين آخرين تصادف أن كانوا من نزلاء فندق شبرد إلى القدس للحج أثناء اتمام الإجراءات للرحلة إلى السودان.
بدأت رحلة السيدات الهولنديات على ظهر باخرة نيلية  "دهبية" في يوم رائع الجو من أيام يناير من عام 1856م. كن يرتدين شالات صوفية أحضرهن من هولندا إتقاء لبرد الصباح إلى أن وصلت الباخرة إلى أسوان في السادس عشر من فبراير. شاهدن وبشديد الانبهار كثيرا من الآثار والمعابد الفرعونية وشواطيء النيل الخضراء التي تقف شاهدا على حضارة تليدة كان الناس فيها يؤمنون بأن ملوكهم آله، وزاروا معبد "أنس الوجود" الرائع. في أسوان شاهدوا مقياس ارتفاع منسوب النيلالرائع في جزيرة فيلا. كانت تلك هي رحلتهن الأولى، والتي بعدها سافرن للحج في القدس.
بدأن بعد ذلك في التحضير لرحلتهن الكبرى ... إلى أرض السودان، وتشاورن مع عدد من "الخبراء" الذين زاروا السودان من قبل. رشح لهم القنصل العام لهولندا مهندسا إنجليزيا كان يعمل في خدمة محمد علي باشا اسمه لينانت باشا ديلفوند (1800 – 1883م) كان قد زار سنار بين عامي 1821 – 1822م، ثم زار السودان مرة أخرى في عام 1827م لاستكشاف حدود الشلك، وعمل بين عامي 1831 – 1832م في التنقيب عن الذهب في منطقة أبياي،  وقام بمسح للمنطقة الواقعة بين وادي العلاقي (؟) وشندي. أقترن الرجل أثناء وجوده في السودان بسيدة حبشية،وفي السنوات التي تلت عام 1832م عمل كموظف خدمة مدنية في الحكومة المصرية  والتي منحته لقب "بيه" في عام 1847م. قدم ذلك المهندس خبرته الطويلة للنساء الهولنديات فيما يتعلق بالمراكب وطاقمها وما يجب عليهن أخذه من زاد ومؤونة في تلك الرحلة الطويلة.
في رحلتهن النيلية جنوبا توفقت النساء الهولنديات في "الأقصر" حيث قضين فترة للإستراحة والاستجمام، ومررن بأسوان حيث شاهدن سبع بواخر نيلية بالغة الفخامة تتبع للخديوي محمد سعيد (والذي تولي مقاليد الحكم بعيد إغتيال ابن عمه عباس الأول في عام 1854م). كانت السيدات الهولنديات يرغبن في عبور الصحراء من إسوان إلى داخل السودان بيد أنهن أصبن بخيبة أمل كبيرة في "كورسكو" على الحدود السودانية عندما رغبن في شراء إبل تقلهن عبر الصحراء ولكنهن أخبرن أن الخديوي قد اشترى كل ما هو معروض من تلك الإبل، وأخبرن أيضا بأنهن قد يجدن ضالتهن من الإبل في وادي حلفا. استأجرن قوارب صعيرة لعبور الشلال الأول والوصول لوادي حلفا، وأصبن بخيبة أمل جديدة إذ لم يجدن في تلك البلدة أي حيوانات للنقل، ولم يكن أمامهن من بد غير الرجوع لمصرإذ أن مواصلة السفر جنوبا والوصول للشلال الثاني كان أمرا يشبه المستحيل. استغرقت رحلتهن لوادي حلفا قرابة الشهرين، بينما استغرقت رحلة عودتهن من وادي حلفا للقاهرة أربعة عشر يوما فقط! حللن بالقاهرة في يوم 27 مارس 1857م. كان هذا يعني أنهن كن قد قضين بعيدا عن وطنهن ما يزيد على تسعة عشر شهرا (إذ كن قد بدأن رحلتهن في 19 سبتمبر 1855م وسبق أن وعدن أسرهن والأسرة المالكة بإتمام الرحلة والعودة في عامين فقط). لم يفت ذلك من عضدهن للوصول لمدينة الخرطوم فجددن العزم على السفرإليها في وقت آخر في المستقبل القريب.
بعد ثلاثة أسابيع من عودة النساء الهولنديات من رحلتهن النيلية الثانية قررن السفر إلى بيروت في طريق عودتهن للاهاي. غادرن بيروت في سبتمبر 1857م على ظهر سفينة صغيرة إلى قبرص  ومنها إلى "نيقوسيا - رودوس – سمرانا" (تسمى الآن أزمير)، ومنها إلى "كونستانتابول" (تسمى الآن اسنطبول) للسفر بسفينة أخرى إلى براغ ودريسدن ومنها وصلن إلى موطنهن لاهاي بعد غيبة استمرت لعامين كاماين. بدأن على الفور في التحضير لرحلتهن النيلية الثالثة ولكنهن في ذات الوقت قمن برحلة سريعة إلى ألمانيا وبولندا وموسكو. في عام 1859م قمن بزيارة سريعة أخرى إلى عائلتهن في إنجلترا، وفي العام الذي أعقبه بدأن في التحضير جديا للرحلة النيلية الثالثة.
من كتب الرحلات التي كانت شائعة في تلك السنوات كتاب البريطاني جيمس بروس المعنون : "رحلات لاستكشاف منبع النيل في الأعوام 1768 – 1773م". كان ذلك من أهم الكتب التي قرأنها بتمعن أولئك النسوة الهولنديات. قبل ذلك كان الأوربيون قد بدأوا في محاولة الدخول لأفريقيا فقامت  مجموعة من القساوسة البرتغاليين بالسفر لإثيوبيا حيث نجحوا في تنصير العائلة المالكة هناك في بداية القرن السادس عشر الميلادي. وبعد مائة عام من ذلك قام دكتور فرنسي في رفقة قسيس بزيارة غوندار في أثيوبيا وسنار في السودان. كتب هؤلاء الرحالة عن ما شاهدوه في رحلاتهم، وكانت تلك الكتب مما أثار شهية أولئك المغامرات الهولنديات للقيام برحلتهن النيلية المزمعة.
بدأ التحضير للرحلة الثالثة للسيدات الهولنديات بقيام قنصل عام هولندا في مصر بالحصول على تصريح من خديوي مصر محمد سعيد  شخصيا يطلب فيه من الجميع تسهيل مهمتهن في الرحلة التي كان من المقرر أن تبدأ في يناير من عام 1862م.
جرت أحداث كثيرة بمصر أثناء وجود السيدات الهولنديات بها كان من أهمها تولي خديوي جديد لحكم مصر هو سعيد باشا محمد علي ( 1854 – 1863م) والذي حل محل عباس باشا والذي أغتيل إغتيالا بشعا في 1854م. وصلت السيدات الهولنديات للإسكندرية في 17/12/ 1855م حين كان عهد سعيد باشا (الغربي التوجه) قد بدأ لتوه، وكان عهد إزدهارونمو ظل يستمع فيه الخديوي لنصائح أصدقائه الغربيين، ومنهم فريدناند – ماريا ليسبي والذي نصحه بشق قناة السويس ومنحه حق امتياز إدارتها لتسع وتسعين عاما بعد إكمال إنشائها.
في فصلين صغيرين سجلت المؤلفة زيارة السيدات الهولنديات لجامعة الأزهر (والتي وصفتها بأنها أقدم جامعة في العالم) وتاريخا مختصرا لتاريخ فندق شبرد والذي شيده رجل أنجليزي يحمل ذات الأسم على أرض كان مقاما عليها قصر الألفي، وأقامت فيه السيدات الهولنديات لفترة قصيرة إنتقلن بعدها (مع 36 صندوقا من الأمتعة) إلى فيلا على النيل.
بدأت رحلة النسوة الهولنديات من القاهرة للسودان في 14/1/ 1862على ظهر ثلاثة قوارب: الأوربيون والطاهي المصري وخادمان عربيان وخمسة كلاب وصندوقان لأدوات المائدة  وزاد يكفي لعام كامل في المركب الأول، وصناديق الأمتعة الثقيلة مع الحراس في المركب الثاني، وحصان وحمار وخيمة كبيرة وبقية الأمتعة في المركب الثالث. كانت أقسى مراحل الرحلة النيلية هي المرور عبر الشلال الأول حيث إستلزم عبور المراكب أن تفرغ من محتوياتها تماما وأن تحمل حملا عبر الشلال بمساعدة ما لا يقل عن 200 من الرجال الأقوياء يشدون المراكب بالحبال من على الشاطيء. سجلت واحدة من النساء الهولنديات إعجابا ظاهرا بالرجال العرب الأقوياء وبمزاحهم وروحهم المرحة وهم يقذفون بأجسادهم الرياضية  في المياه  المندفعة بقوة ويقودون المراكب عبر الصخور الخطرة بيسر مدهش ومهارة فائقة (تمت إزالة هذا الشلال الأول بقيام سد أسوان الذي  شيد بين عامي 1902 – 1933م).
وصل النسوة الهولنديات إلى كورسيكو وأقمن معسكرهن تحت رعاية شيخ من العبدلاب اسمه شيخ أحمد. كانت كورسيكو هي نقطة البدء لكل من يرغب في السفر جنوبا للسودان، وهي عبارة عن فضاء واسع مزدحم ببشر من مختلف الأثنيات والأشكال والألوان واللهجات، وبحيوانات من كل نوع. كانت هنالك بعض الخيام المنصوبة لمن يرغب في انتظار القوافل المتجهة نحو السودان. شملت أصناف المنتظرين في كورسيكو تجار إبل ومستعبدين آبقين يمنون أنفسهمبالأوبة لمواطنهم الأصلية، وعمال زراعيون يعملون في مزارع مصرية ويرغبون في العودة لقراهم في السودان. هنالك أيضا تجار حبوب وأغذية أخرى وبائعي بروش وقرب مياه وسروج وأدوات ترحال مختلفة. كانت هنالك أيضا مجموعات نساء محليات في أطراف السوق يبعن الشاي والقهوة، ويتجمع حولهن الزبائن وهم يجلسون القرفصاء. بدأت قافلة النسوة الهولنديات رحلتهن يوم 25/2/ 1862م (بقيادة شيخ أحمد العبدلابي) عبر الصحراء من كورسيكو إلى "أبو حمد" والتي تبعد نحو 370 كيلومتر، ولا توجد في كل تلك المسافة غير نقطة واحدة يمكن فيها التزود بالمياه وإرواء عطش الناس والحيوانات (هي آبار مراد). كان من المقرر الوصول إلى "أبو حمد" في نحو 16 -18  يوما. كانت تلك الرحلة – دون ريب-  أقسى رحلة تكابدها أولئك النسوة الهولنديات وأكثرها إجهادا، فالحر بالغ الشدة، والهواء سموم مغبرة لا تكاد تحتمل، وما من مجال للاستحمام أو نيل أي قدر من الخصوصية. كانت القافلة مكونة من 102 جملا و6 خيمة كبيرة مع ستة من المرشدين  و30 رجلا مسئولين عن الإبل، وكلهم مسلحين بالبنادق للحماية من قطاع الطرق. كان شيخ أحمد يرسل أمام القافلة عددا من العيون لاستكشاف الطريق وأمنه خشية هجوم غير متوقع من لصوص الصحراء وهم كثر. رغم المشقة البينة فقد سجلت أحد النساء الهولنديات في مذكراتها أنها وجدت الصحراء "جميلة" و"رومانسية" وأعجبت – كفنانة- بألوان الصحراء المختلفة  فصخور جبالها سوداء، وألوان حصاها فيها الأحمر والأصفر والغامق والفاتح، ورمالها الصفراء الناعمة  تمتد عبر الأفق. في بعض أجزاء من الصحراء النوبية كانت توجد بعض الخضرة والأشجار الكثيفة التي تذكر المرء بالحدائق العامة في إنجلترا. لا ريب أن تلك المنطقة كانت تنعم بقدر من الأمطار غير يسير. كان روتين الرحلة واحد لا يتغير: من الفجر يسيرون دون إنقطاع حتى منتصف النهار (حين تشتد الحرارة) فيريحون جمالهم وينصبون خيامهم ويطبخون طعامهم ويشربون الشاي إلى أن يحل المساء ويبرد الجو فيعاودون السير مرة أخرى إلى منتصف الليل حين ينصبون خيامهم تارة أخرى ويأكلون وجبتهم الثانية والأخيرة.
من الأشياء التي بحثوا عنها في طريقهم  ووجدوها أخيرا هي قبر الأوربي أندرو ميلي والذي مات في الصحراء وهو يحاول الوصول للسودان في 1851م.
وصلت القافلة إلى "أبو حمد" بعد مسيرة 18 يوما حيث استقبلتهم المدينة بهبوب عظيمة أعقبتها أمطار غزيرة ذات برق ورعد. بعد أيام قليلة مضت القافلة نحو مدينة "بربر" أهم مدينة في ذلك العهد في المنطقة، فحلوا بها في يوم 23 مارس 1862م حيث كان في إستقبالهم الحاكم (التركي) وكان رجلا في حوالي الستين من العمر. حلوا ضيوفا عليه في بيته ذي الحديقة الواسعة ولكنهن لم يقبلن مضايقته في بيته فآثرن الإقامة في خيام نصبوها في حديقة داره. ومن باب المجاملة زرن حريمه واللواتي قدمن لهن المشروبات المحلاة والشاي، وأتين بأطفالهم الكثيرين (والشديدي الأدب) للسلام عليهن. احتفلت السيدات الهولنديات مع أفراد عائلة الحاكم بعيد الأضحى (ذكرت الكاتبة خطأ أنه العيد الذي يعقب نهاية شهر رمضان)، وأحتفلن بعد ذلك في يوم 1/4/ 1862م سرا بعيد ميلاد هينريتي الرابع والستين بكؤوس من الخمر.
غادرن "بربر" بعد أن ودعن حاكمها وشكرنه على كرمه وتركن لأطفاله بعض الهدايا. استأجرن خمس مراكب نيلية لحمل متاعهن عبر نهر أتبرا. مروا بالمدينة المقدسة "الدامر" حيث شاهدوا من بعيد مسجدها الضخم وطلبوا من شيخ أحمد أن يروي لهن كل ما يعرفه عن ذلك المسجد. ذكر لهم أن المسجد يتبع الطريقة الشاذلية وهي من الطرق الصوفية المعروفة وتقودها في الدامر عائلة المجاذيب، وغالب أتباعها من الجعليين. بعد ذلك وصلت القافلة إلى "شندي" وكانت تتكون من 25 بيتا فقط.كان بها سوق كبير وفيها أيضا "زريبة" كبيرة تستخدم كسوق للرقيق. ذكر شيخ أحمد للنسوة الهولنديات أن تلك "الزريبة" هي واحدة من أربعة زرائب في السودان توجد في كاكا في بلاد الشلك، وغندوكورو في أقصى الجنوب، وفي ميناء سواكن في الشرق. كان الرحالة والمستكشف البريطاني جيمس بروس قد وصل إلى شندي في عام 1772م وكتب يقول إنها المكان الذي كانت تنطلق منه كل القوافل المتجهة لمصر، وأن البضائع فيها أرخص ثمنا من تلك التي تباع في سنار إلى الجنوب.
في رحلة الوصول للخرطوم لاحظت النسوة الهولنديات أن التجمعات السكانية على ضفاف النيل كانت تزداد مع مرور الوقت، وكن يمرن بقرى سمعوا بها وهم في مصر، وكان حراسهم السودانيون يصيحون محيين كلما مروا بمزارعين يعملون في مناطق يعرفونها. بعد مرورهم من شندي وصلوا لشلال السبلوقة ثم جبل شيخ الطيب (جبل أم مرحي) ثم تلال كرري وجزيرة توتيوأخيرا في الخرطوم. كانت القبائل التي تقطن تلك المنطقة غرب النيل هم الجعليون (حتى شلال السبلوقة) والشهيناب (حتى جبل شيخ الطيب) والسروراب (حتى الخرطوم)، أما شرق النيل فقد مررن بجبال صغيرة جرداء سوداء ثم بـ "قري" عاصمة قبيلة العبدلاب (على سفح جبل يسمونه جبل الرويان) ثم بحلفاية الملوك، ثم وصلن لجزيرة توتي (والتي يفصلها عن الخرطوم النيل الأزرق). في الحدود الغربية يلتقي النيلان الأبيض والأزرق ليكونا نهر النيل.
أخيرا تحقق حلم السيدات الهولنديات الثلاث في يوم 11/4/ 1862م حين حططن رحالهن في الخرطوم. كان منظر المدينة بحدائقها الخضراء الكثيفة وبيوتها الطينية الملونة مصدر دهشة وعجب أولئك النسوة. عندما قربن من مكان رسو مركبهن شاهدن عددا من المراكب القادمة من الشمال والجنوب تفرغ حمولتها من البضائع المختلفة، وأعجبن أيما إعجاب بمنظر الباعة المتجولين والنساء اللواتي يحملن قدور المياه وحراس القصر في زيهم الأحمر الفاقع. ترجلن عن مركبهن على ضفة النيل الأزرق حيث نصبيت لهن خيمة كبيرة، إذ لم يكن بالخرطوم أي فندق رغم وجود استراحة حكومية. كان الجو لطيفا في النهار بيد أنه بالليل كان مشبعا بالرطوبة والحرارة (والتي كانت تتراوح بين 35 – 45 درجة مئوية). كذلك كانت العقارب والثعابين تجوس في المكان، وتعذرعلى الطباخين والخدم الحفاظ على الطعام والماء بعيدا عن هجوم النمل والحشرات الأخرى. كان على الحراس "تنظيف" ما حول خيمة السيدات لتفادي هجوم أي ورل أو تمساح جائع.
لاحظت السيدات الهولنديات أن الحياة تتوقف تماما بين الساعة الثانية والرابعة عصرا حين يخلد الجميع لأخذ فترة راحة طويلة. كان مما أفرح النساء الهولنديات إمكانية أخذ حمام (فهن قرب النيل) وكانت الخيمة مزودة بحوض ماء تملأه خادمتان، أوكل إليهما أيضا مهمة التحريك المستمر لمروحة مصنوعة من قطعة صغيرة من السجاد وغلي الماء ووضعه في "برم" أو "أزيار" تضمن برودته. تمتعت السيدات الهولنديات بتناول الشاي عند مغيب الشمس مع الكيك الذي أحضرنه من هولندا قبل شهور، وإحتفالا بمرور أسبوع على وصولهن للخرطوم قامت السيدات الهولنديات بإرتداء مفتخر ثيابهن وتناولن عشائهن على أطباق الصيني الفاخر الذي أحضرنها معهن،  واستخدمن أدوات مائدة فضية على طاولة غطيت بدمقس (قماش حريري مشجر) وفوقها شموع مضيئة منصوبة على شمعدانات حديدية. كان ذلك عشاءا رومانسيا لا ينسى.
تقرر مؤلفة الكتاب - بناءا على ما ورد في مذكرات أولئك السيدات الهولنديات اليومية-  أن الخرطوم التي شاهدنها في عام 1862م كانت تشابه إلى حد كبير بعض أحياء أمدرمان اليوم، فبيوتها مصنوعة من الطين اللبن وشوارعها غير مرصوفة. كثيرا ما كانت بعض الشوارع في الخرطوم في تلك السنوات لا تقود إلى شيء سوى باب أحد السكان، وهو أمر محير جدا لمن يرغب من زوار المدينة في الذهاب إلى السوق مثلا فيجد نفسه أمام باب أحدهم!
كانت الخرطوم حينها تتكون من عدة أحياء تبدأ من "مقرن النيلين" الأبيض والأزرق التي توجد فيها "المنجرة" حيث تصنع المراكب، وتنتهي على شاطيء النيل الأزرق عند "العرضي" حيث يقع الحي العسكري، وفي ما بين المنطقتين كانت تقع بيوت التجار والحدائق. لم يكن هنالك شارع يحاذي النيل الأزرق بيد أنهكان هنالك طريق مشاة أمام تلك الحدائق، وكان الشارع الرئيس (والذي تقع عليه قنصليات الدول الأجنبية) يقع خلف صف المباني التي بنيت على شاطيء النيل.
قدم المستكشف البريطانيجرانت في عام 1863م وصفا وافيا للكنيسة القبطية بالخرطوم  بقبابها الثلاث وسورها العظيم ومدفنتها التي كانت تضم 20 – 30 قبرا.
طافت هينريتي واليكسين والعمة أيدي بأحياء الخرطوم كلها وشاهدن كل ما يمكن رؤيته (ولم يكن هنالك الكثير ليشاهدنه!). كان قناصل الدول الأجنبية يعيشون مع زوجاتهم أو عشيقاتهم (من السراري) ويتبادلون إقامة حفلات العشاء والاستقبال لزملائهم وإقامة العروض المسرحية، وبحكم قربهن من البلاط الملكي الهولندي في لاهاي كانت السيدات الهولنديات يدعين لتلك العروض والحفلات الدبلوماسية. كانت هنالك في الخرطوم قنصليات لعدد من الدول الأجنبية مثل دول بريطانيا وفرنسا وإيطاليا (ساردنيا) والنمسا و ألمانيا واليونان وبروسيا وأمريكا. كان أول قناصل الدول الأجنبية الذين زاروا خيمة السيدات الهولنديات هو السيد/ جورج ثالبوت نائب قنصل فرنسا (والذي كان يشتغل بالتجارة أيضا ويرتدي الزي التركي) في رفقة زوجه وبنته صوفي ورجل أغريقي اسمه ديمتري. من الذين زاروا أولئك النسوة تاجر فرنسي اسمه ديلفين بارثاميلي وزوجه، وإيطالي يعمل في صناعة الطوب اسمه بيترو أغاتي أتى للسودان كعضو في بعثة الكاثوليك الروم، والسيد تايرنت كبير الصيادلة الحكوميين. وللترحيب "الرسمي" بالسيدات الهولنديات أحضر نائب القنصل الفرنسي معهالحاكم الأقليمي محمد رشيق(راسخ؟) بيه (المولود في "حلة يونس" قرب بربر في حوالي 1834م والمتوفى بحسب رواية د/ أبو سليم غرقا في النيل وهو في طريقه للقاهرة في 1883م).دعاهن الرجل لزيارته في المديرية بعد نحو أسبوع من زيارته لهن حيث أتت قوة عسكرية لمرافقتهن للمديرية حيث أستقبلن بموكب عسكري وقمن بتفتيش حرس الشرف الذي اصطف لاستقبالهن. كتبت هينريتي في مذكراتها يوم 17/4/ 1862م أنهن أدخلن في غرفة جميلة لطيفة الهواء ثم أتى محمد رشيق (راسخ؟) بيه وخاطبهن في ود بالألمانية (إذ لم يكن يجيد الفرنسية) ولم ينس أن يذكر لهن أنه بصدد بناء بيت آخر لحريمه أمام منزله الحالي!
ذكرت الكاتبة أن مجتمع الخرطوم التجاري في تلك السنوات كان يتكون من ثلاثة مجتمعات: التركي والمصري والسوداني، ولكل منهم – بحسب التقاليد التركية-  قائد ومندوب عند السلطات يسمى "سر التجار". احتكرت الدولة التجارة منذ عام 1824م ولم يفض ذلك الاحتكار إلا في عام 1840م. شملت البضائع في الخرطوم الصمغ العربي وريش النعام والذرو والخضروات المجففة والتوابل. كان التجار السودانيون في الخرطوم من المديرية الشمالية ويعملون في تجارة الجملة، وهم ينتقلون من مكان لآخر ويتمتعون بسمعة طيبة لنشاطهم وأمانتهم.
بنى أحمد باشا أبو ودان سوق الخرطوم وكان عبارة عن عدة شوارع ضيقة على جانب كل منها بنيت عدة "دكك" (جمع "دكة") وهو بناء طيني صغير يرتفع عن الأرض لمسافة قدمين، تعرض عليه البضائع للشارين. يفتتح السوق مع بزوغ الشمس ويغلق عند الغروب، وتباع فيه مختلف أنواع البضائع مثل الجبنات الفخارية (المصنوعة في "ود الفادني") والشيشة وأدوات المطبخ المجلوبة من غرب السودان والخضروات الطازجة والحبوب. أدخل الحكم المصري – التركي (وبعض قناصل الدول الأجنبية)في السودان غالب ما هو معروف الآن فيه من الخضروات والفواكه.
من بعض طريف ما ورد في الكتاب أن اثنين من خدم السيدات الهولنديات (ساكار وهندريك) قررا الاستقالة من خدمهتن بعد أن عادا من رحلة للنيل الأبيض وهما في غاية السقم. قبلت هينريتي الاستقالة على مضض وكتمت غضبها عليهما، بل وأعطتهما سكنا وطعاما ومكافأة بلغت 80 جنيها لكل واحد منهما. أكتشفت السيدة الهولندية هينريتي فيما بعد عدم أمانة الخادمين عندما صار كثير من الزوار يشكرونها على "الهدايا" التي يفترض أنها أمرت الخادمين بتقديمها لهم. كان الخادمان يتصرفان في المواد الغذائية التي جلبنها معهن السيدات الهولنديات دون استئذان.
أوردت المؤلفة رأي السيدات الهولنديات في الحكم التركي – المصري  للسودان والذي كان لا يخفي الاعجاب بسياسات ذلك الحكم خاصة في عهد الخديوي محمد سعيد باشا والذي زار السودان في 1865م برفقة مستشاريه الأوربيين، وكان يأمل في تحريم الرق وتخفيف عبء الضرائب الثقيل على المواطنين السودانيين وإشراكهم في جبايتها. كان ذلك الخديوي يؤمن بلامركزية الحكم فقام بتقسيم البلاد إداريا إلى أربعة مديريات هي مديرية التاكا (شرق السودان) ومديرية كردفان (غرب السودان) ومديرية دنقلا (والتي تشمل بربر) ومديرية الخرطوم (والتي تشمل سنار ومناطق النيل الأبيض). حكم المديرية الأخيرة بين عامي 1861 – 1862م رجل سوداني قابلنه السيدات الهولنديات وتم تقديمه لهن على أنه "محمد أفندي المدير".
في فصل صغير حكت المؤلفة قصة إنشاء أول كنيسة كاثوليكية بالخرطوم في يوليو من عام 1843م بواسطة  بلونديل فان كيولينبروك قنصل بلجيكا في الإسكندرية مع قسيس اسمه ليوجي مونتيوري طرده ملك الحبشة من مملكته. كان بالخرطوم عدد كبير من المسيحيين ولم تكن لديهم كنيسة يقيمون فيها الصلاة أو مراسم الزواج، وعند الوفاة كانوا يدفنون في مقابر المسلمين. لكل ذلك قرر مونتيوري الإستقرار في الخرطوم وبناء كنيسة ومدرسة ومقبرة مسيحية فيها. اتصل القسيس بأحمد باشا أبو ودان حكمدار السودان وطلب منه التصديق له بأرض لبناء المؤسسات المذكورة. وافق الحكمدار على ما طلبه القسيس نظير رشوة صغيرة. من الطريف أن القسيس مونتيوري جهز مدرسة الكنيسة لافتتاحها في أكتوبر من عام 1843م بيد أنه فوجيء بأن أحدا من السكان لم يسجل أي تلميذ في المدرسة. ولحل المشكلة  حفر القسيس مكانا معينا في حديقته لاستخراج خزانة أمواله ثم توجه من فوره لسوق الرقيق وأشترى 20 طفلا مستعبدا وابتاع لهم ملابس وأغذية وأدخلهم من فوره كأول دفعة لمدرسته الكاثوليكية في السودان.
في بقية فصول الكتاب تحكي المؤلفة عن رحلة النساء الهولنديات إلى جنوب السودان خاصة مناطق كاكا وغوندوكورو وبحر الغزال.
أخيرا عادت السيدات إلى الخرطوم في طريقهن لموطنهن عن طريق بربر وسواكن في أغسطس من عام 1864م ومنها إلى السويس وإلى بلادهن.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
////////////
//////////

 

آراء