Mover and Shaker: Grace Mary Crowfoot – …. and Sudanese History هيذر شاركي Heather Sharkey ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لمقال نشر في مجلة مصرية هي Égypte/Monde arabe (مصر / العالم العربي) في عددها الذي صدر في 21/10/ 2016م عن سيدة بريطانية هي غريس ماري كروفوت (1877 – 1957م)، والتي عملت في مختلف المهن في كثير من دول العالم، التي شملت علوم النبات والآثار والتاريخ والقبالة، واقترنت في 1909م برجل بريطاني (جون كرفوت) عمل مديرا لمصلحة المعارف بالسودان. واشتهرت هذه السيدة الرائدة في السودان بمحاربتها لعادة الختان، وأشاد بها بابكر بدري وبلطفها وتعليمها وتواضعها. أما كاتبة المقال فهي أستاذة مشاركة متخصصة في تاريخ ولغات وحضارات الشرق الأوسط والأدنى في جامعة بنسلفانيا، ولها عدة كتب ومقالات عن السودان ومصر منها كتاب "العيش مع الاستعمار: الوطنية والثقافة في السودان الإنجليزي المصري"، وكتاب "الإنجيليون الأمريكيون في مصر" و"سجلات التقدم" و"الهوية والمجتمع في الشرق الأوسط المعاصر" و"تاريخ الصحافة العربية في السودان". المترجم ___ _____ ___ مقدمة عن السيدة غريس ماري كروفوت
درست ومارست السيدة غريس ماري كروفوت (أو "مولي" عند اصدقائها) علوم النبات والآثار وتاريخ المنسوجات والقبالة (حرفة التوليد). ورزقت بأربعة بنات، قامت واحدة منهن بكتابة سيرة مختصرة لها نشرت في عام 2004م. وعاشت السيدة كروفوت في السودان ومصر في غضون سنوات القرن العشرين الباكرة، ثم انتقلت إلى فلسطين، حيث قامت بنشر الكثير من الكتب والمقالات، منها على سبيل المثال كتاب عن "النباتات المزهرة في شمال ووسط السودان" صدر في 1928م) وكتاب آخر عن "غزل المنسوجات في مصر والسودان منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث" نشر في عام 1931م. ولم تحظ السيدة كروفوت بكبير اهتمام من قبل مؤرخي شمال وشرق أفريقيا وذلك لأن أعمالها (حول التاريخ الطبيعي والنبات وتاريخ المنسوجات) تطرقت إلى مواضيع لم تكن تعد من صلب اهتمامات المؤرخين البحثية في تلك السنوات. غير أن ما نشرته السيدة كروفوت حول النباتات والصناعات اليدوية ما زال يحظى باهتمام كبير من القراء، ربما لأن الميراث التاريخي لفولكلور وبيئة ومنسوجات فلسطين غدا تراثا متنازعا عليه (وبالتالي اكتسب شهرة ورفعة وأهمية) بعد صراع الإسرائيليين مع الفلسطينيين بعد عام 1948م ونمو تصورات القومية المتنافسة. كذلك لا تزال كتاباتها عن غزل المنسوجات والآثار المرتبطة بها تحظى بالاحترام من هواة النسيج اليدوي ومن علماء الآثار في كل أرجاء العالم. وليس أدل على ذلك من أن حفيد السيدة كروفوت قد أهدى مجموعة أعمالها الكاملة من أدوات الغزل والنسيج إلى "مركز أبحاث النسيج" في مدينة ليدين بهولندا، والذي وصف تلك السيدة في موقعه بالشابكة الدولية بأنها "سيدة المنسوجات الأثرية العظيمة Grande Dame of archaeological textiles". وتعد السيدة كروفوت، بصورة من الصور، شخصية "استعمارية"، إذ أنها قضت غالب سنوات عملها المهني في (مستعمرات) الإمبراطورية البريطانية. غير أنها - مبلغ علمي - لم تحصل قط على وظيفة رسمية ذات مقابل مادي. لذا فيمكن أن نعتبر أن كل ما قامت به تلك السيدة كان عملا غير رسمي. ولذا يصعب على الباحث أو المؤرخ أن يجد اسمها أو أعمالها في دور الوثائق مثل أرشيفي جامعة درم أو لندن أو دار الوثائق القومية بالخرطوم، إلا عندما تذكر عرضا عند الإشارة لزوجها جون وينتر كروفوت (ربما لم يكن ما ذكرته الكاتبة - رغم صحته على وجه العموم - دقيقا تماما، فللكاتبة ذكر في The Palestine Exploration Fund. المترجم). وكان زوجها عالم آثار شديد الالتزام بمهنته، ولم يكن صاحب ثروة مستقلة، فعمل – لكسب عيشه - في مجالات التعليم المختلفة في مصلحة التعليم بين عامي 1903 و1926م، أولا في وظيفة مساعد مدير مصلحة التعليم، ثم انتقل إلى كلية غردون بالخرطوم كمدير لها. ثم انتقل إلى القدس كمدير للمدرسة البريطانية لعلم الآثار، حيث درس تاريخ وآثار صناعة الخزف في العصر الحديدي ومواضيع أخرى. ورغم عدم ظهور السيدة كروفوت في المصادر البريطانية الرسمية، إلا أن تلك السيدة قد دخلت ضمن مؤرخي سنوات القرن العشرين الباكرة نتيجة لأحاديث خاصة private conversations – يمكننا أن نسميها "تبادلات حميمية intimate exchanges " دارت بينها وبين نساء ورجال شمال السودان. فقد كان لها تأثير كبير في مجال الدراسات النسوية وصحة النساء. لقد كانت تلك الأحاديث هي مسرحها للمقربين والمقربات منها. كانت أحاديث عابرة لم تترك إلا آثارا قليلة ومتباعدة في الأرشيف الاستعماري، إلا أنها تركت أثرا باقيا في التاريخ. وتتيح لنا دراسة تلك الأحاديث الآن استعادة تاريخ تلك السيدة المتفردة، وبصورة أشمل تاريخ النساء البريطانيات والسودانيات في تلك السنوات. وتوضح لنا قصتها في الوقت نفسه التشابكات والتداخلات التاريخية التي جمعت بين أمكنة مثل السودان وبريطانيا ومصر ودول أخرى، وكذلك توضح لنا دور الأفراد في صنع تاريخ العالم.
الأنثى المتعلمة
سمعت عن السيدة كروفوت أول مرة عند اطِّلاعى على مذكرات بابكر بدري (1856 – 1964م) المترجمة للغة الإنجليزية، ذلك الشيخ الذي يعده كثير من السودانيين "أب" فكرة تعليم البنات بالسودان. وكان بابكر بدري قد حارب، بحسبانه شابا مسلما تقيا، في جيش المهدي الجهادي. غير أنه تعاون لاحقا، وبحذر شديد، مع المستعمرين البريطانيين، ونادى بتعليم "حديث" بريطاني النمط للبنين والبنات، على أن يتم تصميم مناهجه وفقا للثقافة الإسلامية، وأن يتضمن تعليم القرآن. وأنشأ الشيخ العديد من المدارس، وأسس لكلية عالية للبنات طورها من بعده أولاده وأحفاده (من الجنسين) - تسمى الآن جامعة الأحفاد للبنات – ما الذي دعا بابكر بدري وألهمه ذلك العمل ليغدو هو الرائد في تعليم البنات بالسودان؟ لا ريب أنه رأى في 1900م وما تلاها من سنوات مدارس البنات التي أقامتها البعثات (التبشيرية) المسيحية قرب الخرطوم، والتي كانت تدرس في الغالب بنات المصريين العاملين بالبلاد، وتدرس أيضا (بصورة منفصلة) بنات فقراء المسترقين السابقين. وأدرك بابكر بدري أن تعليم البنات سيكون مفيدا أيضا لبنات (الأهالي) المسلمين من "ذوي المكانة" و"الحرائر" (توسعت الكاتبة في هذه النقطة في مقالها الذي ترجم بعنوان "سجلات التقدم: نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية". المترجم). وكان من غير المتخيل أن تدخل بنت سودانية (حسنة الاسلام) قبل إقدام بابكر بدري على فتح أول مدرسة للبنات على دخول مدرسة أو التعلم خارج سور بيتها. وتوجد في مذكرات الشيخ العديد من القصص عن كيفية إقناع جيرانه ليرسلوا بناتهم لمدرسته، وعن الوعود التي قطعها لهم ليضمن شرف بناتهم، وعن الاجراءات الاحترازية التي سيقوم بها من أجل ضمان منع الأغراب الذكور من رؤيتهن. وذكر بابكر بدري في مذكراته أيضا العديد من وسائله التعليمية المبتكرة المبدعة على الرغم من شح مصادره. فقد كان يعلم الصغار الجغرافيا برسم خريطة العالم على يقطين (قرع)، ويؤلف أهازجيا (ذات طبيعة محلية) مما هو موجود في الكتب العربية من أجل تسهيل حفظها للأطفال. وتطرق بابكر بدري في مذكراته للسيدة كروفوت، وسجل إعجابه بها وبذكائها الحاد ورغبتها الدائمة في الاستكشاف والمغامرات، وخصص لها من صفحات مذكراته (وردت بالجزء الثاني، ص 126 – 128، مطبعة مصر (سودان) ليمتد. المترجم) ما لم يخصصه لغيرها. فقد ذكر أن تلك السيدة قد رافقت زوجها (مدير المعارف) عام 1917م في رحلة تفتيش ميداني على مدارس البنين الحكومية. وكشف بابكر بدري في تلك الصفحات في مذكراته عن حس فكاهة عظيم وقدرة هائلة ومهارة كبيرة في كتابة المذكرات بتفصيل شديد وبتصوير ممتع للأحداث. فكتب يصف ملابس السيدة كروفوت، وكيف أن ملابسها كانت تشبه ملابس الرجال، مما أربك أحد شيوخ القرى والذي استضافهم دون أن يدرك أن من حسبه رجلا هو في الواقع سيدة! وأتى بابكر بدري على قدرتها على ركوب الجمال دون أدنى إحساس بالوجل، وذكر أنه كان يساعدها على جمع عينات من نباتات المنطقة كلما توقفوا لاستراحة قصيرة، وكان يخبرها بالاسم المحلي لكل عينة نبات تجمعها، ودورة حياته (كما ذكرنا فقد نشرت السيدة كروفوت أول كتاب عن "النباتات المزهرة في شمال ووسط السودان" في عام 1928م، وفيه أشادت بالعون الذي قدمه لها بابكر بدري). وأورد بابكر بدري في كتابه شيئا من تفاصيل ما كتبه لها عن النباتات. (أورد بابكر بدري في الجزء الثاني من مذكراته (ص 127) ما نصه: "وملأت سعادة السيدة حقيبتها من أنواع الزهور التي كتبت لها أسماء أشجارها بأنواعها، وأعجبتها كثيرا شجرة سدر عليها أربعة أنواع من اشجار أخرى: أندراب وعرديب ودبكر وحراز مما يسمى ب "القلعي"، فكتبت اسم "القلعي" معناه الشجرة القائمة على فرع شجرة غير نوعها وليس لها في الأرض جذع ولا عرق، وهي تنبت مما يأكله الطير، ويقع بذرته على فرع الشجرة غير نوعها في وقت بدء الخريف". المترجم). ليس لنا أن نعلم تفاصيل الأحاديث التي دارت بين بابكر بدري وتلك السيدة خلال تلك الرحلة التفتيشية على المدارس. وهذه هي إحدى المشاكل العملية التي تواجهنا عندما نحاول فهم وسط حميم وعابر كالحديث بين شخصين. رغم ذلك فما هو واضح بين هو أن بابكر بدري قد صور السيدة كروفوت في مذكراته باعتبارها قدوة: مثال ونموذج للعالمة العصرية المتفانية، وزوجة أيضا. ومع حلول الاستقلال من بريطانيا في عام 1956م كانت الأمية في وسط النساء لا تقل عن 96%. غير أنه رغم تلك النسبة المرتفعة للأمية، إلا أنها تعكس أيضا المجهود الكبير والسريع لشخصيات مثل بابكر بدري في تأسيس تعليم البنات وإنشاء مدارس لهن في غضون سنوات النصف الأول من القرن العشرين، فقد بلغت نسبة النساء اللواتي أزيلت أميتهن في عام 1946م 1%. ولا ريب أن أمية النساء قد منعت المؤرخين في المناطق الناطقة باللغة العربية، والذين كانوا يعتمدون على المصادر المكتوبة، من تسجيل تاريخ أولئك النسوة. ويمكن القول أيضا أن "التاريخ الشفاهي" لم يستخدم كثيرا في السودان كطريقة للبحث التاريخي كما هو حادث في بعض أجزاء أفريقيا الأخرى، فيما بعض الحالات النادرة. لذا يمكن اعتبار أن كل تاريخ السودان الشمالي الذي سجل قبل 1956م كان تاريخا "رجاليا / ذكوريا" خالصا. وتركت مسئولية دراسة شؤون النساء لعلماء الأنثروبولوجيا الذين يقومون بدراسات حقلية. ولعل هذا الغياب لصوت المرأة من سجلات التاريخ السوداني يجعل من دراسات السيدة كروفوت عن المنسوجات (وهو أحد جوانب خبراتها العديدة) أكثر قيمة.
النساء في مجال الدراسات: النساء كنساجات وفنانات
استخدمت السيدة كروفوت عند كتابتها لمؤلفها "طرق الغزل اليدوي في مصر والسودان" الذي نشر عام 1931م أدلة أثرية من مصر والسودان في العصور القديمة، إضافة إلى الأدلة التي لاحظتها هي بنفسها. وكانت تقوم عند مرافقتها لزوجها في جولاته التفتيشية على المدارس بجمع عينات النباتات المزهرة، ومقابلة النساء اللواتي يعملن في الغزل والنسيج، والحديث معهن وأخذ صور تذكارية لهن بآلة تصويرها الخاصة. وكانت تقوم بعد ذلك برسم تلك الصور – أو تطلب لاحقا من إحدى بناتها (وتشير إليها بالحرف D، وهي إما دورثي أو ديانا) رسم الصور الدقيقة التي أخذتها لما غزلته أو حاكته أولئك النسوة. وسجلت الليزابث، إحدى بنات السيدة كروفوت، سيرة مختصرة لوالدتها في موقع على الشبكة العنكبوتية، وخصت بالذكر عملها في مجال علم الآثار. وفي تلك السيرة، نجد أن السيدة كروفوت كانت قد زارت الزعيم الصوفي الشريف يوسف الهندي، وأبدت إعجابها الشديد بجمال طوق (girth) لجمل وجدته في خيمته، وطلبت من الهندي أن يجمعها بمن صنع ذلك الطوق. وأتضح لها أن من صنعت ذلك الطوق هي امرأة اسمها ست زينب. وبالفعل قدمت ست زينب على ظهر جمل (من حيث كانت تسكن) إلى الخرطوم حتى تجهز نولا (مكنة لغزل الخيوط لها عجلة تُدار باليد أو القدم ومغزل واحد) لتعلم فيه السيدة كروفوت صناعة ذلك الطوق. وصفت السيدة كروفوت ست زينب بأنها "سيدة من بطاحين أبو دليق، مشهورة في مجالي الغزل والنسيج، مجيدة لعملها، وكانت تصنع أجمل كبب غزل (yarns) رأيتها في حياتي. لقد بلغ من ذكائها وحِذْقها أن أضافت خيوطا حمراء وزرقاء إلى جانب ما كان معتادا من الخيوط السوداء والبيضاء في حياكتها، رغم أن ذلك تلوين الصوف لم يكن ممارسا في السودان". وشرحت السيدة كروفوت أن ست زينب كانت تحصل على كبب غزل حمراء تستخرجها من نوع معين من الشالات الألمانية المستوردة، وتستخرج كبب الغزل الزرقاء من نَسِيجٌ صُوفِيٌّ مَتِين (serge) مستورد من فرنسا يباع في الأسواق المحلية، كانت أحد أطرافه غير منسوجة. وكانت ست زينب تستل خيوط غزل ذلك الجزء غير المنسوج. وتنبع أهمية تلك التفاصيل في أمرين: الأمر الأول هو أنها تعطينا مثالا محددا للفن النسائي السوداني، ولفنانة سودانية هي ست زينب، كان من الممكن ألا يسمع عنها أحد، أو أن يطمر سيرتها النسيان، لولا ما سجلته السيدة كروفوت عنها. والأمر الثاني أنه كانت هنالك للسودان في غضون سنوات الاستعمار البريطاني علاقات تجارية بينه وبين دول أخرى كألمانيا وفرنسا، ولم تقتصر تلك العلاقات التجارية على بريطانيا وحدها. ونستنتج من كتاب السيدة كروفوت أن ديناميكية النوع (الجنس/ الجندر) فيما يتعلق بالغزال والنسيج اليدوي كانت في حالة حركة وتقلب (flux) مستمر. فهذه الضروب من الفنون ليست "تقليدية" بما يفيد أنها جامدة لا تتغير. وكان معظم من التقتهم السيدة كروفوت من العاملين في فن الغزل والنسيج اليدوي هم من النساء أو الفتيات الصغار. غير أنها صادفت أيضا بعض الشيوخ الكبار الذين كانوا يعملون في هذه المهنة، مثل شيخ كبير في جبال النوبة أتت بصورتين له في كتابها. وكانت تجد رجالا أكثر يعملون بالغزل والنسيج اليدوي كلما توغلت جنوبا في البلاد. وكان ذلك على عكس ما رأته في شمال السودان، إذ لم تجد فيه إلا القليل من كبار السن يعملون في تلك المهنة، وكانوا يشعرون كما قالت "ببعض الحرج والخجل" من ممارستهم لها، مما يدلل على أن تلك المهنة في ثلاثينيات القرن الماضي كانت قد غدت، على نحو متزايد، فنا "نسائيا". ولن تجد هذه الأيام إلا أقل القليل من مؤرخي السودان الذين يقرأون كتب السيدة كروفوت عن الغزل والنسيج اليدوي وعلم النبات وحتى علم الآثار، وذلك لأن هؤلاء المؤرخين لا يهتمون في الغالب سوى بالتاريخ السياسي والاجتماعي من منظور ما سجله أو فعله رجال متعلمون. غير أني أعتقد بأن ما كتبته السيدة كروفوت يستحق الانتباه من قبل شرائح أوسع من القراء. ففي مؤلفتها تجد معلومات مفيدة عن الفنون النسوية وشبكات التجارة وتاريخ الثقافة المادية (material culture) للسودان، قد لا يجدها المرء في كتابات أخرى. وفي ذات السياق، نجد أن كتاب السيدة كروفوت في علم النبات يحتوي على معلومات في غاية الأهمية والفائدة والتفاصيل، إذ أنها اهتمت فيه، عن طريق الأحاديث الشخصية، بالثقافة المادية المحيطة بتلك النباتات. فهي تخبرنا على سبيل المثال بأن بعض السودانيين لا يأكلون ثمار شجرة السدر (النبق Zizyphus spina Christi) فحسب، بل يعلقون أغصان تلك الشجرة على أبواب دورهم في بعض المناسبات كالزواج، بينما يفضل آخرون استخدام أغصان شجر زيتون معين يسمى علميا باسم Olea chrysophilla، ويعرف محليا بالددا كعصا للمشي (الددا بتشديد الدال الأولى مع الفتح وفتح الدال الثانية هو نوع من الشجر ورد ذكره في مدحة حاج الماحي "صلاة وسلام لى محمدا" حيث يقول:"حنطة والنخيل عشبة والددا". المترجم). وذكرت الكاتبة أن النباتات تنتقل (بسهولة) عبر دول العالم، كما في مثال نبات الخشخاش المكسيكي Argemone mexicana ، والذي ربما وصل للسودان من شمال أمريكا مع القطن، وصار منتشرا فيه.
الجدل الدائر حول ختان الإناث لم تدرس السيدة كرفوت في أي جامعة، وذلك لأن والديها ربما كانا يعتقدان أن التعليم الجامعي ليس ضروريا للإناث. غير أنها كانت مهتمة جدا بعلم الطب، ولم يتيسر لها إلا أن تدرس حرفة القبالة في مستشفى كلاهام للتوليد في لندن، وذلك قبل أن تتزوج. وقد اختارت لنفسها دراسة ذلك الفرع من الطب لأنها كانت ترغب في التطوع للعمل في مؤسسة مسيحية تبشيرية تعمل خارج بريطانيا. وذكرت إحدى بناتها بأن تفكيرها الجاد في ذلك العمل حفز جون وينتر كروفوت للإسراع بخطبتها، خشية أن تكرس "تلك الفتاة التي كان يرغب في الزواج منها لاحقا حياتها في خدمة الطب بتلك المؤسسة التبشيرية". وفي أحد أيام وجودها بالخرطوم مع زوجها عام 1919م، دعتها قابلة لتشهد عملية توليد امرأة سودانية. وأصابها غم وألم وأسف بالغ مما رأت من معاناة السيدة السودانية (المختونة) وهي تضع حملها. (ذكرت الكاتبة بعد ذلك وصفا لتفاصيل ما يفعل بالبنت عند الختان، وبعض آثاره الضارة لاحقا عند الطمث والاتصال الجنسي والولادة، وما يحدث بعدها من قطع وخياطة الخ. المترجم). لا بد من أن نذكر هنا أن البريطانيين لم يكونوا يعتقدون بأنه من اللائق التحدث علنا أو مناقشة أمر يتعلق بالأعضاء التناسلية للمرأة في السودان. إلا أن السيدة كروفوت لم تسكت عن الأمر. ففي عام 1921 كانت تجلس بجوار الحاكم العام البريطاني السير لي استاك في حفل عشاء، وفوجئ الجميع بالسيدة كروفوت تفتح باب الحديث معه عن عادة ختان النساء. وذكر سي. أي. ويليس مدير المخابرات بعد سنوات من ذلك اليوم في مذكراته غير المنشورة (والمحفوظة في أرشيف السودان بجامعة درام) أن الحاكم العام استدعاه في صباح اليوم التالي لحفل العشاء، ووصف له الحرج البالغ الذي سببه إجلاس تلك السيدة بجانبه في حفل العشاء وإصرارها على الحديث معه بصوت عال عن عادة الخفاض الفرعوني! وعن مطالبتها له بجلب قابلات بريطانيات للمساعدة في حل هذه المشكلة أو حتى في إيقافها بالكلية. ونتيجة لحديث السيدة كرفوت مع الحاكم العام في ذلك الحفل تخلى الحكم البريطاني الاستعماري عن تجاهله لشؤون نساء السودان، وقرر فتح برنامج لتدريب القابلات السودانيات في الخرطوم، وعين صديقتين للسيدة كروفوت (هما قيرترود وولف وشقيقتها ميبل وولف) كانت قد قابلتهما عند دراستها لحرفة القبالة في لندن. بدأت الأختان وولف في تعليم طالبات القبالة الوسائل الصحية في ممارسة المهمة، مثل غلي المقصات والمشارط من أجل تعقيمها، وربما سعيا لجعل النساء ينبذن الختان المنهك، واستبداله بآخر أخف وطأة. وكتب الكثير عن تلك العادة ومضارها الكثيرة، وثار حول ممارستها جدل كثير، غير أنها لا تزال تمارس بدرجات متباينة على الرغم من كل المجهودات التي بذلتها أطراف عديدة. ولا يشك أحد في أهمية تراث وأثر السيدة كروفوت البالغ في محاربة تلك العادة، وفي لفت نظر السلطات لها، وإجبار / إقناع أعلى رجل في السلطة الحاكمة (السير لي استاك، الحاكم العام) بضررها وضرورة عمل شيء ما من أجل محاربتها وتوجيه بعض الأموال من أجل صحة الأمومة في السودان. ولكن يظل دورها، رغم كل ذلك، غامضا بعض الشيء. ولكن يبقى السؤال: هل أثمرت جهود السيدة كروفوت والأختين وولف وغيرهم عن تغيير في الأفكار والممارسات المتعلقة بختان الإناث؟ لا يزال الأمر يثير الجدل. غير أن الجيل الأول من القابلات مثل بتول محمد عيسى وست جندية صالح يقف شاهدا على مدى النجاح الذي أحرزته جهود السيدة كروفوت وغيرها.
الخلاصة في أثناء زيارتي لمعرض لندن الوطني / الصالة القومية للوحات الوجه National Portrait Gallery في لندن قبل أعوام طويلة وقع بصري على لوحه لوجه امرأة عالمة منكوشة الشعر اسمها دورثي كروفوت هودكن. وسألت نفسي إن كانت تلك العالمة تمت بصلة قرابة للسيدة غريس ماري كروفوت. وبالفعل وجدت أنها ابنة السيدة كروفوت، وزوجة توماس هودكن، مؤلف الكتاب الشهير (والماركسي التوجه) "الوطنية في أفريقيا المستعمرة Nationalism in Colonial Africa" والذي صدر في ذات العام الذي استقل فيه السودان (1956م). لقد حصلت دورثي كروفوت هودكن (1910 – 1994م) على جائزة نوبل في الكيمياء، وكانت ثالث امرأة تحصل على تلك الجائزة الرفيعة (في الكيمياء) بعد ماري سكوودوفسكا كوري وابنتها. ومن عجب أن معرض لندن الوطني ربط في كتالوج الصور الموجودة فيه بين تلك العالمة وبين زوجها المشهور، وتناسى أمها (المشهورة أيضا؟!). لقد عملت دورثي كروفوت هودكن أستاذة (بروفيسور) للكيمياء في جامعة أكسفورد، في مجال استخدام الأشعة السينية في دراسة البلورات، وتخرجت على يديها أعداد كبيرة من النساء (منهن مارجريت ثاتشر، والتي غدت لاحقا رئيسة للوزارة البريطانية)، وكان من أهم أعمالها اكتشاف التركيب الجزيئي لدواء البنسلين، مما ساعد على تطوير بنسلينات شبه صناعية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، واكتشاف تركيب هرمون الأنسولين وفيتامين ب12. إنني أرى الكثير من التشابه بين مثابرة وجدية دورثي ووالدتها السيدة كروفوت في دراستها للنباتات السودانية والمنسوجات اليدوية بصبر وتفصيل شديدين. ومما عجبت له أكثر هو استمرار تواصل علاقة تلك العائلة بالسودان. فقد قامت ابنة دورثي (وحفيدة السيدة كروفوت) واسمها الليزابث هودكن (المولودة في عام 1941م) بتدريس مادة تاريخ القرون الوسطى بجامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي، وأسست لمطبوعة دورية هي Sudan Update في الثمانينات، وعملت في ذات السنوات وبعدها في منظمة العفو الدولية (Amnesty International) ومعهد الوادي المتصدع. وكانت الليزابث هودكن قد ذكرت لي في اتصال بريدي اليكتروني أن اهتمام والدتها بالعلوم يعود لزيارة قامت بها للسودان عام 1923م، عندما كانت في الثالثة عشرة من العمر. وقامت في تلك الرحلة للخرطوم بزيارة معمل ويلكم وقابلت الدكتور أ. جي. جوزيف، والذي ألهمها ما كان يقوم به حب العلوم. قمت ذات يوم بكتابة اسم بابكر بدري في محرك بحث قوقل ووجدت فيه إشارة إلى زينب بدوي، وهي بنت واحدة من بنات حفيداته. وتعمل زينب الآن في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بلندن، وهي أيضا عضوة في مجلس أمناء معرض لندن الوطني - ذات المتحف الذي تعلق على أحد جدرانه لوحة لبنت غريس ماري كروفوت، الحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء. واستضافت اليونسكو زينب البدوي في "يوم المرأة" في عام 2016م للتحدث عن مساندتها لأعمال تلك المنظمة، خاصة فيما يتعلق ببرنامجها عن تاريخ أفريقيا. وقامت زينب بدوي بإنشاء منظمة خيرية للشركة الطبية مع أفريقيا (AfriMed) لمساعدة العاملين في الحقل الطبي بأفريقيا... ربما مواصلة لخيط الرعاية الصحية / الطبية الأولية الذي ذكرناه في ثنايا هذه القصة. وعندما كنت في طور التحضير لهذه الورقة وتقديمها لأحد المؤتمرات في باريس كنت أتأمل في "العلاقة الحميمة خلال الأحاديث intimacy through conversation". أحسست بأني اكتشف تاريخا مطمورا لنساء عظيمات، وللعلاقة بينهن عبر الأزمنة والأمكنة. لقد جمع التاريخ بين زينبين- ست زينب تلك السيدة الشديدة المهارة في صنع أطواق الجمال، وزينب بدوي، الإعلامية الماهرة بهيئة الإذاعة البريطانية، وكذلك بين غريس ماري كروفوت القابلة خبيرة النباتات والمنسوجات اليدوية وعلم الآثار، وابنتها دورثي الحاصلة على جائزة نوبل في الكيمياء. ربما كان ذلك هو أحد ما يفعله بنا تاريخ "العلاقة الحميمة". تساعدنا دراسة تلك العلاقة الحميمة على كشف تاريخ النساء اللواتي أغفلت أو أخفت "السجلات الرسمية" ذكرهن. لقد كانت غريس ماري كروفوت في السودان بحسب الإنجليزية الأميركية mover and shaker (شخصية عظيمة الفعالية وكبيرة التأثير) إذ أنها ابتدرت الكثير من الأحداث، وأثرت على عدد كبير من الناس، حتى وإن كان ذلك من وراء ستار. وربما نجد في بحثنا في "العلاقات الحميمة" في التاريخ نساء أخريات بين الأمهات والأخوات والبنات والحفيدات والصديقات يمكن أن نعدهن من اللواتي كانت لهن فعالية عظيمة وتأثير كبير.