عانى السودان ولازال يعاني من نخبة المثقفين الانتهازيين الذين تحولوا في عهد الإنقاذ إلى ما يشبه الطبقة بكل ما تحمل الأخيرة من مواصفات الشروط والتكوين, ومن كثرة تدافعها بالمناكب حول كل حاكم سواء ذلك الذي وصل إلي السلطة عن طريق ا لبندقية أو بواسطة صندوق الانتخابات , فإنها صارت مثل طيور جارحة تحلق دوما في الأعالي راصدة كل حركة على الأرض بعيون حادة تفوق سرعة الضوء في تحديد الهدف والاقتراب منه ثم الانقضاض عليه.
في لسان العرب تشتق كلمة انتهازي في معناها اللغوي من مادة ( نهز ) التي تعني اغتنم الفرصة, والانتهازي هو المبادر , ويقال انتهز الفرصة أي اغتنمها
وبادر اليها.
وتعرف الوكيبيديا الإنتهازية بأنها (الإستفادة من الظروف مع الاهتمام الضئيل بالمبادئ أو العواقب التي ستعود على الآخرين. وأفعال الشخص الانتهازي هي أفعال نفعية تحركها بشكل أساسي دوافع المصلحة الشخصية. وينطبق المصطلح علي البشر والكائنات الحية والجماعات والمؤسسات والأساليب والسلوكيات والتوجهات )
اما عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الاستبداد في مصارع الاستعباد فيعرف الانتهازيين ب (المتجمدون ويصفهم بأنهم أعداءٌ للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة لهم، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها؛ فيسوقها لحرب اقتضاها محض التجبر والعدوان على الجيران فيوهمها أنه يريد نصرة الدين، أو يسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة . و المستبد يجرب أحسانا ً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارًا منه بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانًا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادرالي إبعادهم أو ينكل بهم . ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله )
وفي عهد "الإنقاذ" وظفت الإنتهازية دينيا مثلما وظفت ايديولوجيا في عهد النميري ,ففي عهد النميري تخلي العديد من هذه السلالة عن افكار احزابهم السياسية واعتنقوا الماركسية واصبحوا اشتراكيين يرفعون شعار المطرقة والمنجل ويدبجون المقالات المطولة عن العدالة الإجتماعية في النظام الثوري الجديد ,وهؤلاء انفسهم وفي خفة قرد فوق فروع الأشجار إستقبلوا إنقلاب الإنقاذ بلحي مدببة وختموا علي جباههم غرات الصلاة وصارت السنتهم تلهج بالايات القرانية والأحاديث النبوية يسارعون الي المساجد ليراهم الوزيرقبل ان يراهم الله ولكن افئدتهم هواء , وحين استوي النفاق وصار ثقافة عامة اطلقت اسماء عجيبة علي اللحي فتنوعت اشكالها وصار لكل شكل اسم حسب قضاء الحاجة صغيرة كانت ام كبيرة ,ومن كثرة ما اتسعت المساحة للقادمين الجدد ضاق عليهم الصحن في الخرطوم فتوزعوا علي الولايات كفاتحين يحملون رسالة الفساد الي كل مرفق حكومي.وبنظرة علي المشهد العام احتل نصابون ومشعوذون ,واميون وفاشلون درجات إجتماعية وسياسية لم تكن لتطرأ علي بال احد هم,
وفي بيئة علي هذه الشاكلة تميز عهد الإنقاذ باسوأ سيرة في مسيرة الأنظمة التي مرت علي السودان فقد ابتكر مفهوما جديدا للفساد الصقه بالدين الحنيف فصار مايسرقه المسئول هو رزق ساقه له الله وما يعيش فيه الشعب من ضنك العيش هو قسمة من الله ايضا وليس للحاكم يد في ذلك فالمعطي والمانع والرافع والخافض هو الله , ولتاريخ الانتهازية والانتهازيين في السودان سير حافلة بغرائب القصص والروايات فمنهم من رحل بعد كسب السلطة وخسر سيرته ومنهم من لا يزال يواصل مسيرته ويستبدل (قناعه)"كلما استدعى الظرف السياسي ومنهم من ينتظر .
في هذه الحلقات التي نشرتها من قبل واعيد رفدها بأفكار ورؤي جديدة هذه المرة سأحاول تقصي اثأر مختلف الانتهازيين الذين اعرفهم والذين عاصرتهم عن قرب عن دراية سابقة بهم , والذين شاهدتهم من بعد خلال مسيرتي الصحافية الطويلة, وسوف أتوخي الدقة في تقديم عينات من النماذج المختلفة كل حسب درجته في سلم الانتهازية , وحسب إمكاناته في ممارسة فنونها, ولن اسمي النماذج التي سأكتب عنها , ولكني سوف الجأ إلي استخدام الإشارة فقط , وأسلوب الإسقاط لان القراء بفطنتهم سيعرفون من هم الذين نقصدهم ؟ و اطلب من الكتاب والمثقفين والقراء إن ينخرطوا في الكتابة فورا عن هذا الايدز السياسي الذي ساعد في إفقاد الديمقراطية مناعتها قبالة الأنظمة الشمولية .ولفائدة القراء سأحدد المحاور التي أتناولها وهي عبارة عن أسئلة منها , من هو الانتهازي وما هي ادواته وماهي أهدافه ؟ هل يولد الإنسان من بطن أمه انتهازيا؟ , وهل للجينات دور في ظهور الانتهازية؟ , لماذا يصيرالانسان انتهازيا أصلا ؟ , هل للتربية الأسرية علاقة بذلك هل يمكن للانتهازي إن يسير في هذا الطريق حتي يصبح ""قوادا" مثلا؟ او يتنازل عن زوجته او ابنته للمسئولين, وهل للانتهازي قابلية لان يصبح جاسوسا؟ , ولماذا يكون الانتهازي ظريفا وليس لئيما ؟ , و لماذا يكمن بعض الانتهازيين طويلا وفق نظرية البيات الشتوي التي تمارسها الضفادع ؟, هل للانتهازي أخلاق او ضمير, وهل له كوابح ؟ ,وهل له وازع ؟, هل هناك مدارس للانتهازية كما للأدب مثلا ؟ , ولماذا يتمتع بعض الانتهازيين بالصبر وطول البال ؟ وبعضهم بالسرعة وحصد المكافئات, ومقابل ذلك هل هناك انتهازيون (خفيفون) يستعجلون المكاسب العاجلة ,وآخرون ثقيلون متئدون ينتظرون الجمل بما حمل, هذه الأسئلة والمستجد منها في سياق هذا التقصي, هي الأجندة التي سوف اعتمد عليها في محاولتي كشف هذه الآفة السياسية, وسوف اختم هذه الحلقات بالدعوة العاجلة إلي قيام منظمة لمكافحة الانتهازية والانتهازيين في السودان يكون أعضاؤها من الحادبين علي بقاء هذا البلد علي خريطة العالم .
الانتهازي وفق التوصيف السياسي هو المثقف الذي يوظف معرفته في مصلحة الحاكم أو الشاعر إلي يسخر شعره في مدحه , أو الاقتصادي الذي يزور الأرقام ليظهر له سلامة سياسته الاقتصادية, أو الصحافي الذي يجعل من قلمه لسانا يلهج في تمجيده , أو الزراعي الذي يحمل الطبيعة المسئولية عندما تشح الإمطار ويفشل الموسم الزراعي وتنتشر المجاعات, أوالقانوني الذي يدوس ذمته القانونية تحت إقدامه ويلفق التهم لأعداء الديكتاتور فيرسلهم إلي السجون مبتهجا برضاء المستبد عليه وحالما بالترفيع والمكانة في بلاطه , أو ذلك الفنان الفاشل الذي يكون علي أهبة الاستعداد لأداء الأناشيد المشيدة بالنظام الجديد .
الذي يتابع الحركة السياسية في السودان يلحظ دائما إن الانتهازيين لا ينشطون ويتنسالون إلا في ظل الأنظمة الشمولية وتخفت أصواتهم ويتراجع دورهم وفي عهود الديمقراطية , أو يلجاوون إلي العمل السري خوفا من الصحافة وأجهزة الإعلام ,
كانت مرحلة الرئيس الأسبق جعفر النميري حقلا تجريبيا كبيرا للمثقفين والأكاديميين الانتهازيين من كل جنس ولون, ففي ذلك الزمان وبفضلهم أمكن للديكتاور إن يصير إماما للمسلمين, ثم مفكرا إسلاميا يكتب في التراث كما حدث عندما تولاه بالرعاية مستشار صحافي مشبوه , ذلك الذي بلغ شأوا بعيدا في فن الانتهازية, وكانت أولي خطواته إن أرسل له انتهازي أخر هو صحافي مصري ليكتب عنه كتاب تحت عنوان (الرجل والتحدي) يظهر فيه بطولات النميرى المزعومة و كيفية هزيمته لأعدائه من الشيوعييين , والأحزاب الاخري .
كان ذلك الكتاب الركيك المليء بالأكاذيب والترهات هو ضربة البداية باتجاه إن يصير النميري نفسه مؤلفا فصدر له , أو بالاحري أصدروا له كتابان , هما النهج الإسلامي لماذا ؟ والنهج الإسلامي كيف ؟ ويري لصيقون لتلك المرحلة إن الكتابين كانا من إعداد مستشاره الصحفي محمد محجوب سليمان , بينما ذهب آخرون إن عون الشريف , أو احمد عبد الحليم كانا وراء ذلك العمل ومهما يكن فان تلك السلالة من انتهازي ذلك العصر أوغلت عميقا في النفاق السياسي حتي جعلت من النميري مفكرا , وراعيا للجامعة , وكشافا أعظم علي إن المشهد تتسع مساحاته حين نري أن النميرى نفسه عندما اكتشف تفاهة هؤلاء المثقفين راح يحركهم كقطع الشطرنج يعينهم وزراء في لحظة اعجاب زائف , ثم يطيح بالواحد منهم في لحظة نزوة عارضة, بل وصل به الأمر في أحايين كثيرة إلى درجة أهانتهم إمام مرآي من زملائهم,
و يذكر الجميع لماذا اشتهرت نشرة الثالثة مساء بمفاجئاتها حيث كان يضع كل المسئولين الانتهازيين اياديهم علي قلوبهم خوفا من سكين الجزار في تلك الظهيرة .
تميز عهد النميري بنوع خاص من إلا نتهازيين الأيدولجيين) الذين ركبوا موجة الاشتراكية دون إن يقرؤوا شيئا عنها ناهيك عن الإيمان بها , وطفق بعض هؤلاء يدبج المقالات والدراسات المنقولة و المسروقة معا عن الماركسية وقضايا التنمية, وإمكانية قيام اشتراكية سودانية , ودور القوي الرجعية في إجهاض الفكر الاشتراكي المايوي وذلك النوع من الانتهازيين يملك قدرات عجيبة في التحول من حال إلي حال وليس من فكر إلي فكر, لان من طبيعة الانتهازي إلا يكون له فكر, وإلا يكون له موقف و(لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة ) كما يذكر الكواكبي إذ إن هذه الخصيصة إذا توافرت لدي أي إنسان فإنها تعصمه من الإبدال والتبديل , والتبذ يل والابتذال, وتعصمهم من السقوط الإنساني تسابق الانتهازيون في عهد النميري في استعراض مواهبهم وتقديم خدماتهم فوصل بعضهم إلي درجة إن تخلي عن اعز ما يملك متبرعا طوعا حتى عن سرير نومه .
وهناك من كان مستعدا دائما إذا استبعد سرير نومه إن يوفر هذه الأسرة في أماكن أخري , ويا طالما شهد ذلك العهد ( تنزيلات ) في هذا المجال طاولت خارج الحدود في توفير كل ما لذ وطاب من تجارة المتعة , والعديد من الذين عاشوا تلك المرحلة يذكرون جيدا ذلك تاجر الأسلحة اللبناني المشهور والقوادة العالمي للرؤساء الأفارقة والعرب وكيف كان يأتي ببضاعته البيضاء من الخارج, ويذكرون الوكلاء المحليون الذين كانوا يقومون بتوزيع تلك البضاعة كل حسب مزاجه, وعرف المجتمع يومذاك كيف إن انتهازيا عتيقا متمرسا كان يشغل منصبا حساسا بدأ مسيرته في هذا الطريق الطويل بان نذر نفسه لخدمة عدد من أعضاء قيادة مجلس الثورة , فكان إن قدم خدماته المميزة بدءا بتجهيز الجلسات, واستقدام الفنانين والفتيات, وما يتبع ذلك من بهارات , وما أدهش الأصدقاء القدامى من هذا النموذج انه انخرط منذ بداية الانقلاب ككادر ثورى يرفع شعار القضاء علي القوي الرجعية والتي في مقدمتها الإخوان المسلمون الذين كان يطلق عليهم احتياطي الرجعية العالمية , غير إن النموذج النوعي سرعان ما انقلب علي القوي الثورية عندما فشلت المحاولة الانقلابية للعسكريين الشيوعيين ضد النميرى في 19 يوليو 1991 وصار يطالبه بان يضرب الشيوعيين بيد من حديد بينما كانت يده هو تصب الكاسات ليلا لعدد من أركانالنظام في المزارع خارج الخرطوم .
يحكي الدكتور عبد الوهاب الأفندي القدس العربي" 16 سبتمبر 2008 عن اجتماع دعا له الترابي ولعب فيه هذا الإنتهازي دورا كان مستعدا له دائما وشرح الأفندي إن ذلك الاجتماع كان لبحث ترشيح الرئيس البشير لرئاسة الجمهورية في بداية حكم الانقاذ" ويروي الأفندي حينما وصلنا إلى موقع الاجتماع , وكان الحضور حوالي مائة شخص أو يزيدون، من بينهم الرئيس نفسه، بدا للشيخ الترابي لسبب يعلمه أن يلغيه أو يؤجله، ربما لأنه لم يعجبه بعض الحضور. وكان الشيخ يجلس في مقدمة الصفوف وبجواره الإنتهازي باسطا يديه ,وما أن بدأ الاجتماع وافتتح حتى قام الانتهازي وتقدم باقتراح بأن يؤجل الاجتماع بحجة أنهم لم يكن لديهم وقت كافٍ لدراسة الأجندة والتحضير ويمضي الأفندي ( لم تغب على فطنة غازي يقصد غازي صلاح الدين على ما أعتقد أن رسالة طلب التأجيل كانت من الشيخ نفسه، فهو على علم بكيف ترتب هذه الأمور، خاصة وأنه كان المشرف على مؤتمر النظام السياسي الذي أوكل فيه للانتهازي ( في تقاسم أدوار كان هو جزءاً منها ) واضح هنا إن الانتهازي هو احد النماذج التي اشرنا إليها وأشار إليها الكواكبي وهي تملك قابلية نشطة في خدمة من بيده السلطة .
نواصل
S.meheasi@hotmail.com