سُقوط الحركات المسلحة (2/2)

 


 

 

بانحياز الرجلين (جبريل ومناوي) لفلول النظام البائد في حربهم الهادفة لاستئصال قوات الدعم السريع، وضع الرجلان نهاية لحياتهما (السياسية) واختارا الموت سياسياً مبكراً، وهزما مشروع الحركتين اللتين كانتا ملء السمع والبصر، وعادا بعد إحدى وعشرين عاماً ليحرقا المدينة التي اقتحماها من قبل، حينما استهدفا قيادة فرقتها العسكرية ومطارها، مدافعان عن ذات الفرقة التي سعيا لضربها باعتبارها مكمن الداء قبل عقدين من الزمان، لا أدري لماذا يتضامنان اليوم مع القيادة العسكرية لنفس الفرقة؟، هل استبدل ثعبان الاستخبارات العسكرية جلده؟، أم هل منح الجيش الرجلين القيادة العسكرية لذات الفرقة؟، إنّ من حسنات هذه الحرب اللعينة مع أن الحرب لا حسن يكسو وجهها القبيح، ذهاب زبد السيئين من ساسة البلاد جفاء ومكوث منفعة الناس، وثبوت حقيقة أفول نجم الدولة القديمة، وخروج أجهزتها عن الخدمة بفضل عزم الرجال، ومن بين هذا الزبد الذي ذهب جفاء زبد الحركات المسلحة، التي فقدت البوصلة وقفزت في الظلام، فهكذا يكون حال العصابات غير المرتكزة على مشروع مبدئي، والتي تجيء نهاياتها تلقائياً ليسقط مشروعها الوهمي غير المؤسس، فينتحر قادتها على تخوم ميادين رجال أشداء عاهدوا أنفسهم على الوقوف في وجه الشر، فينهار المشروع المزعوم الذي أزهق أرواحا وأراق دماء كثيرة دون مردود يذكر، ذلكم المشروع الزائف الذي زج بآلاف النساء والأطفال في المعسكرات والمخيمات، بينما زعماء مافيا المشروع وأمراء حربه يتسكعون سائحين بين عواصم الغرب – برلين وباريس ولندن، فثورة ديسمبر المجيدة لا تشبه أمراء الحرب هؤلاء، الذين عرفتهم أسواق النخاسة الإقليمية، وليس كل من هتف باسم الحرية والسلام والعدالة بثائر، والدمار والهلاك الذي لحق بالبشر والشجر في الإقليم المنكوب جرّه سفهاء القوم من شاكلة الرجلين اللذين نحن بصدد الحديث عنهما.
في حوار متلفز أجراه الإعلامي الإخواني الطاهر حسن التوم مع قائد قوات الدعم السريع، بإحدى القنوات المحلية قبيل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة بسنة أو سنتين، أجاب الأخ القائد على سؤال طرحه عليه الطاهر مستفهماً حول الأسباب التي دفعته لامتشاق السلاح المدعوم حكومياً، فكان رد اللواء حينها محمد حمدان صريح وشفّاف، حين قال أن الحركات المسلحة مارست عليه وعلى ذويه النهب والسلب والاستهداف على أساس الهوية، ولم يجد طريقاً آخراً لحماية تجارة وحيوات أهله غير طريق البندقية، وبذلك قد أجاب القائد على السؤال المطروح هذه الأيام: ماذا يريد (الجنجويد)؟، إنّ الكيانات السكانية العريضة الممتدة عبر قطاعي السافانا والصحراء الممتدين من السودان إلى دول شمال ووسط وغرب افريقيا، سئمت هذه الكيانات بطش الأنظمة العرقية التي حكمت الدول التي تقطنها، التي من بينها السودان، فمع امتلاك هذه المجتمعات للمساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية والرعوية الخصبة، ورغم رفدها لخزينة الدولة المركزية بنسبة هي الأعلى من بين اسهام كل الجغرافيا الاجتماعية للدولة، إلّا أن نصيبها من الإنفاق الحكومي لثروة البلاد وسلطتها بالكاد يصل للواحد بالمائة، فتراكم المظالم التاريخية يجعل من هذه المجتمعات قوة دفع وازنة، في أي صراع سياسي يستهدف هرم السلطة المركزية المتجبرة والقاهرة، وهذا ما حدث بالضبط بعد أن أدارت حكومة الاخوان المسلمين – المؤتمر الوطني – ظهرها للقوة العسكرية التي قوامها هذه المجتمعات، والتي ارادت لها حكومة الاخوان أن يكون شأنها شأن عمال اليومية، الذين تنتهي علاقتهم بالمؤسسة المشغّلة لهم بنهاية اليوم، لكن قدر الله غير ذلك، فجاءت النتائج مخيّبة لآمال النخبة الإخوانية المدمنة لامتصاص دماء المنتجين الحقيقيين للثروتين الحيوانية والزراعية، فاندلعت ثورة الأشوس الجسور في أبريل من العام الماضي، وتمددت وسط الشعب السوداني المقهور بالحكم الباطش لجماعة الإسلام السياسي، وضرب أبطالها أروع الأمثلة في الذود عن حوض الوطن، والصمود أمام المؤسسة العسكرية المختطفة للحكم التي تجاوز عمرها القرن.
الفرق الشاسع بين ثورة الأشاوس و(ثورة) الحركات المسلحة، يكمن في حصول الأولى على دعم شعبي منقطع النظير، وشمول هيكل قيادتها العليا على رموز بارزين من جميع انحاء السودان، من أمثال كيكل وأبو شوتال والبيشي وقرن شطة، بعكس (ثورة) الحركات المسلحة التي انحصرت قيادتها العليا في إطار القبيلة الواحدة، ثم انتكست أكثر بالانكفاء على العشيرة، فأخفقت في التعبير عن فسيفساء مجتمع الإقليم ناهيك عن سكان الوطن الكبير، فداء القبيلة أضر كثيراً بها وأفقدها أي محاولة للحصول على الشرعية، فنبذها مواطن دارفور وأمست تتمسك بمساحة صغيرة داخل قيادة الفرقة السادسة بمدينة الفاشر، بعد أن كانت تحكم سيطرتها على أكثر من ثمانين بالمائة من جغرافيا دارفور قبل عشرين عاما، انظر إلى هذه المفارقة، كيف انحسر مدها العسكري وكيف انطفأ بريقها وزخمها السياسي العالمي الذي حظيت به قبل عقدين من الزمان؟، بعدما فشلت في أن تستثمره الاستثمار السياسي اللائق بظرف المرحلة، ولو وجدت أي قوى سياسية أخرى ذلك الزخم لصنعت من فسيخ السياسة شربات، لكنه عقم العقل القبلي، فهل هي سكرات موتها ودنو أجلها المحتوم؟، لا شك في أن سقوط مشروعها المزعوم هو بمثابة انتفاء للحجة، التي على أساسها استفز منظروها مجتمعاتهم المسكينة، المقهورة بآلة المنظومة الحكومية المركزية المتجبرة، ونعود لنقول أن أس أساس فقدان الحركات المسلحة للبوصلة، هو تحول بندقيتها لبندقية مأجورة ترتهن لمن يدفع أكثر، وتحول قادتها لأمراء حرب يجوبون العالم بحثاً عن أوراق البنكنوت المبللة بالدم، فحينما نلقي بالنظر على مسيرة ثوار الحركة الشعبية الأم (حركة قرنق)، نراهم قد أنجزوا مشروعهم في إحدى وعشرين سنة، ذات المدة التي قضاها القبليون المدّعون يجوبون فيافي دارفور قتلاً وسحلاً وفتكاً بالسكان الآمنين، لقد انهار مشروع الحركات المسلحة المزعوم ومات إكلينيكياً، ولا أمل في انعاشه مجدداً، وذلك لفقدانه مبررات الاستمرار ومسوغات البقاء، لانعدام الاتساق بين المعلن من الأهداف والسلوك الذي يتنافى مع قيم الثورة والتزام الثوار.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

 

آراء