سُلْطَةُ النَّمُوذَج!

 


 

كمال الجزولي
18 October, 2021

 

روزنامة الأسبوع

الإثنين
قد يقول قائل إن العفو عمَّا سلف من انقلاب عبود، والتَّلاعب في تنفيذ الحكم على انقلابيي مايو، والتَّباطؤ الحادث، الآن، في إجراءات محاكمة البشير ورهطه، هو السَّبب، في عدم ردع الأطماع الانقلابيَّة، ماضياً وحاضراً. وقد لا يكون هذا القول خاطئاً تماماً! لكن ثمَّة ما هو أوقع، قطعاً، من مجرَّد الحساب والعقاب، ونعني «المعالجات السِّياسيَّة» عميقة الأثر، ليس في زجر العسكريِّين، فحسب، عن تدبير الانقلابات، أو المشاركة فيها، بل وفي فطامهم، نهائيَّاً، من ذلك. هذه «المعالجات» تقوم على التَّمييز الإيجابي لـ «القوى الحديثة» ذات التَّأثير الملموس على القرار، وعلى الرَّأي العام في مناطق الانتاج الحديث، وعلى المحتوى الاجتماعي للمشاركة في العمليَّة الانتخابيَّة، بما يشمل وضع القوَّات المسلحة في مكانها اللائق منها.
ويا طالما وددت لو اتَّجه اهتمامنا إلى مضمون هذه القضيَّة، أكثر من شكلها العام، أو إطارها الخارجي. فقد دُعيت إلى ورشة بوزارة العدل، حول «قانون مفوَّضيَّة الانتخابات»، من 30 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2021م، لكنني، للأسف، لم التمس في نفسي حماساً للمشاركة، وأعتذر، فالمحاور، على أهميَّتها، ليست ضمن مزاجي البحثي، أو، كما يقول الفرنجة «ليست كوب شايِّي المفضَّل not my cup of tea» الذي هو مضمون «القانون الانتخابي» نفسه، بأكثر من «قانون المفوَّضيَّة» من حيث مقرّها، وأجلها، وسلطاتها، ومخصَّصات أعضائها، وتعيين أمينها العام، وصيغة قسم أعضائها .. الخ؛ ولذا تصوَّرت أن «إعداد النِّظام الانتخابي وقانون الانتخابات»، لن يكون ضمن عمل هذه الورشة، إذ مكان ذلك، بطبيعة الحال، «مفوَّضيَّة الدُّستور» ذات الصِّلة الوثيقة بـ «المؤتمر الدَّستوري» المعني بالتَّقرير في شأن «الانتخابات» و«قانونها»، بأكثر مِمَّا يُعنى بذلك «قانون مفوَّضيَّة» يُعهـد إليها بتنظيم وإدارة العمليَّة الانتخابيَّة.
هكذا، وبحسب المنطق الذي يجعل من بناء الدِّيموقراطيَّة، أو استعادتها من براثن الأنظمة القمعيَّة، القانون الأساسي للثَّورة السُّودانيَّة، فإن هذا هو، حتماً، مآل الفترة الانتقاليَّة الحاليَّة، ليس، فقط، عبر انتخابات «حرَّة» و«نزيهة»، على ما لهاتين «الحريَّة» و«النَّزاهة» من أهميَّة، وإنَّما عبر «قانون انتخابات» يتَّسم، أساساً، بتمثيل القوى الاجتماعيَّة الحيَّة كافَّة في الجِّهاز التَّشريعي والرَّقابي، وذلك بعدم الاكتفاء، فقط، بالدَّوائر الجُّغرافيَّة التَّقليديَّة، وإنما بتخصيص دوائر للقوى المذكورة، باعتبارها «القوى الحديثة» الأكثر فاعليَّة في نشر الوعي، والفئات الطبقيَّة والنَّوعيَّة الأكثر حسماً في الإطاحة بالدِّيكتاتوريَّات، ونصرة الثَّورات، والمستحقَّة، من ثمَّ، لهذا التَّمثيل.
تاريخيَّاً جاء ميلاد هذه «القوى الحديثة» كإرهاص ببزوغ الفجر الباكر لتيَّار الاستنارة في الحراك الاجتماعي، سواء من خلال حركة الخرِّيجين، مثلاً، أو تكوين الاتحادات والجَّمعيَّات الفئويَّة، أو الانخراط في عمليَّات الإنتاج الاقتصادي الحديث، أو الإسهام في تسيير دولاب الإدارة، وما إلى ذلك. لذا، عند وضع أوَّل قانون انتخابات، بين يدي الحكم الذَّاتي، عام 1953م، بإشراف الخبير الهندي «الباكستاني لاحقاً» سوكومارسون، كان طبيعيَّاً أن تجري محاولة جادَّة للتَّعبير عن ذلك الدَّفع «الحداثي»، فتمَّ تخصيص خمس دوائر لخريجي المدارس الثَّانويةَّ، إلى جانب خمسة أحزاب سياسيَّة تنافست في تلك الانتخابات (الوطني الاتِّحادي ـ الأمَّة ـ كتلة الجَّنوب ـ الحزب الجُّمهوري الاشتراكي ـ الجَّبهة المعادية للاستعمار). على أن تلك الدوائر ما لبثت أن ألغيت في انتخابات 1958م! ثمَّ أعيد العمل بها، في انتخابات 1965م، عقب الإطاحة بنظام الفريق عبود في ثورة أكتوبر 1964م، وذلك بعد زيادة عددها إلى 15، وتخصيصها لخريجي الجَّامعات؛ لكنهـا سـرعان ما ألغيت، أيضاً، في انتخابات 1967م!
الخطَّة الأكثر جديَّة لتمثيل «القوى الحديثة» كادت ترِد، للمفارقة، ضمن النِّظام الانتخابي المايوي (1969م ـ 1985م)، بعنوان «تحالف قوى الشَّعب العاملة: العمَّال ـ المزارعين ـ المثقَّفين ـ الرَّأسماليَّة الوطنيَّة ـ الضُّبَّاط والجُّنود»، لولا أن تلك الخطَّة جاءت مخنوقة بالشُّموليَّة القابضة، وسيطرة «الاتِّحاد الاشتراكي»، حزب السُّلطة الوحيد، منتحَلة من التَّجربة النَّاصريَّة، بالتَّعارض التَّام مع مطلوبات الدِّيموقراطيَّة التَّعدُّديَّة!
ولدى انتفاضة أبريل 1985م، كان نموذج «الخرِّيجين» أضيق من أن يستوعب «القوى الحديثة» كافة، مثلما كان نموذج «تحالف قوى الشَّعب العاملة» مقيَّداً بغلِّ حريَّة التَّنظيم، والنَّشاط المستقل. مع ذلك ألجأت قوَّة المطلب الأحزاب التَّقليديَّة إلى «تمرير» خيار «الخرِّيجين» القديم، مع ضمان تجييره لصالح الثَّورة المضادَّة! ففي بداية الانتقال لم يكن ثمَّة خلاف يذكر، في الظاهر، بين الوطنيِّين الدِّيموقراطيِّين، والنقابيِّين، من جهة، وبين القوى السِّياسيَّة التَّقليديَّة، من جهة أخرى، حول «مبدأ» مشاركة «القوى الحديثة» في السُّلطة. بل إن الظرف الموضوعي السَّائد آنذاك لم يكن ليسمح بنشوب ذلك الخلاف، وهو المركز المتقدِّم الذي شغله «النِّقابيُّون»، وقتها، كما المركز الذي يشغله «المهنيُّون» حاليَّاً. وعند إعـداد «قانـون الإنتخـابـات» عهدت الحكومة الانتقاليَّة إلى لجنة وزاريَّة باستطلاع آراء القوى السِّياسيَّة والمدنيَّة المختلفة، ففعلت طوال أربعة أشهر، ورفعت تقريرها إلى مجلس الوزراء الذي أجازه، حيث ترجَّح تمثيل «القوى الحديثة»، ولم يتبقَّ سوى عقد اجتماع مشترك مع المجلس العسكري لإصدار القانون. لكن مجلس الوزراء فوجئ بأن المجلس العسكري، برئاسة سوار الدهب، شكَّل لجنة سياسيَّة لإجراء المزيد من الاستطلاعات، دون الافصاح عن دوافع ذلك! وعند عقد الاجتماع المشترك، أثار العسكريُّون، لدهشة الجميع، أن أحزاباً سياسيَّة، بل وقوى نقابيَّة، تعارض تمثيل «القوى الحديثة»!
والآن، بقدر ما يصحُّ، توقُّع ألا تتخلى «القوى الحديثة» عن حقِّها في التَّمثيل البرلماني، يصحُّ أيضاً توقُّع ألا تتخلى القوى التَّقليديَّة، كالعادة، عن مناوءة ذلك الحق! عليه، فإن ألزم ما يلزم «القوى الحديثة»، وحلفاءها، ألا تركن لتلك الخطة القديمة التي أثبتت عدم جدواها، وأن تتحوَّل نحو خطة أقوى مضاءً، هي المطالبة بغرفتين two chambers، لبرلمان ما بعد الفترة الانتقاليَّة، إحداهما لـ «الدَّوائر الجُّغرافيَّة»، والأخرى لـ «دوائر القوى الحديثة»، بما فيها «القوَّات النِّظاميَّة»، شاملة «القوَّات المسلحة»، فلا تُحسم القرارات الكبيرة إلا بالتَّصويت في المجلسين! على أن ذلك يقتضي حملة ضارية لأجل التَّوافق بشأن «قانون الانتخابات»، ولتضمين الأمر، قبل ذلك، في ما ينبغي أن يتولاه «المؤتمر الدُّستوري» المزمع عقده خلال ما تبقَّى من الفترة الانتقاليَّة. انفضاض هذا المؤتمر، وانتهاء الفترة الانتقاليَّة نفسها، دون إنجاز هذا التَّوافق، من شأنه أن يعيد «القوى الحديثة» إلى ذات الخيار الصِّفري الذي ينزع من بين يديها زمام المبادرة، ويضعه في أيدي القوى التَّقليديَّة التي ليس لديها، في أفضل الأحوال، سوى «دوائر الخرِّيجين» المصمَّمة على مقاسها، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع، لتعود إليها!

الثُّلاثاء
وسط كلِّ الهمِّ والغمِّ الذي يأبى أن يفوت أو يموت ابتهجت بأن صديقي الفيلسوف، المصوِّر التَّشكيلي، والخطَّاط البارع حسن محمَّد موسى «أخانا الذي في دوميسارقو» قد استعاد «جهنَّمه» البديعة، بعد غياب طال، وفاجأني بأن بعث بها إليَّ، مشكوراً، وإلى آخرين، تماماً كما في الأيَّام الخوالي. وفي باب التَّنويه بها، والتَّرحيب الحار، ننقل هنا، بتصرُّف، ما روى حسن في فاتحة هذه الاستعادة الطيِّبة، بعنوان «حجوة ياقوت»، قال: كان المستعصم، آخر خلفاء العباسيين، على ولع مشهود بفنِّ الخطِّ. وكان مجلسه عامراً بخيرة خطَّاطي عهده. وكان يولي عناية خاصَّة بأحد عبيده، ويدعى جمال الدِّين ياقوت، كونه مِمَّن أظهروا البراعة في فنِّ الخطِّ اللّيّن الذي أرسى قواعده أبو الحسن علي بن هلل المعروف بـ «ابن البوّاب»، عميد الخطَّاطين العباسيِّين. وكان ياقوت، الوافد من نواحي آسيا الصُّغرى، فضلاً عن تجويده للخطِِّّ على طريقة ابن البوَّاب، فطنا واسع الثَّقافة، فلقبه أهل زمانه بقبلة الكتّاب. ولمعرفته بإعجاب مولاه بخطِّ ابن البوّاب، كان يعرض عليه، كلَّ يوم، نماذجاً مِمَّا يستنسخه من آثار ابن البوَّاب. وكان الخليفة ينظر في الخطَّين، ويخلص، في كلِّ مرَّة، إلى تفضيل خطِّ ابن البوَّاب على خطِّ مملوكه. وجاء وقت شعر فيه ياقوت أن خطَّه يضاهي خطَّ ابن البوَّاب، إن لم يكن يفوقه، فعزم أن يحمل مولاه على تغيير رأيه، فكتب سطرين وضع على أحدهما توقيعه الخاص، وعلى الآخر توقيع ابن البوَّاب، ثمَّ وضعهما بين يدي الخليفة. نظر المستعصم في السَّطرين، و فضّل، كالعادة، سطر ابن البوَّاب. عندها قال ياقوت: «الحمد لله، لقد حكم الخليفة باستحقاق كتابة عبده الحقير للثَّناء»! امتعض الخليفة من تلك الحادثة، فأهمل ياقوت زمناً، ولم يظهر له علامات الاستحسان. ولم يعُد ياقوت نفسه يحرص، من جهته، على أن يُري مولاه خطوطه، بل وزهد في تجويد الخطِّ أصلاً.
ولدى تعقيبه على الحجوة، قال حسن إنها عامرة بالمواعظ والعبر؛ فياقوتٌ بنَى نفوذه بتفوُّقه في صناعته، وكان واعياً بوزنه الابداعي، وله في اعتداده بصناعته شعر يقول: «وقــد ابدعــتُ خـــطـّـا لـم تنلــه/ سُـراةُ بني الفرات ولا ابن مقلة/ فإن كانت خــطـوط النَّاس عيناً/ فـخـطـّي في عـيون الخـطِّ مقلة»! ثمَّ ما لبث حسن أن عاد إلى متن الحجوة، متسائلاً عمَّا تراه حدث، فأزهد ياقوت في صناعته التي بلغ فيها حدَّ الاعتداد بقدرها! وفي معرض الإجابة طرق حسن احتمال وقوع الخطَّاط المتمرِّد صريع «سلطة النَّموذج»، فكأنما لم تكن غاية جهده وصبره على الممارسة خلاف إثبات قدرته على إدراك نموذج ابن البوَّاب، فلمَّا بلغه لم يعُد لديه حافز للذِّهاب أبعد منه. لكن حسناً سرعان ما استدرك بأنه، من فرط افتتانه بياقوت، وجد نفسه ميَّالاً لتحليلٍ آخر يفترض أنه، بعد ان كسَّر لعبة النَّموذج، عكف على شيء مغاير، ربَّما كان تزيين الدُّور، لا سيَّما وقد عُرف بتزيين المساجد، وقد دُفن، عند وفاته، في مسجد كان زيَّنه بخطوطه!

الأربعاء
لم أجد، في أدبيَّات السِّجال السِّياسي، ما هو أكثر تهافتاً من وصف البرهان لمنتقديه، في بعض آخر خطاباته، بـ .. «الكلاب»! لذا وجدت نفسي أتساءل: ما هو، إذن، الوصف الذي يليق عند سعادة القائد العام للقوَّات المسلحة بمن يحتل .. «حلايب»؟!

الخميس
أسدى الفيلسوف الإيطالي ميكافيلي (1469م ـ 1527م)‏‏ مجموعة نصائح للأمير لورنزو، جُمعت، وصُنِّفت، لاحقاً، في أشهر كتبه «الأمير»، الشَّامل لنظريَّته القائلة بأن «الغاية تبرِّر الوسيلة»، وأن «أوَّل طريقة لتقدير ذكاء الحاكم هي النَّظر للشَّخصيَّات التي حوله»، وأن «الدين ضروري للحكومات، لا لأجل الفضيلة، ولكن لأجل السَّيطرة على الناس»! كما دلَّ الحاكم في كتابه هذا على «أفضل طرق السَّيطرة على المحكومين»! ونصحه «بألا يعبأ إذا وُصف بأخذه لهم بالشِّدَّة، طالما كان هدفه المحافظة على ولائهم له»! و«بألا يتردَّد في انتهاك الحريَّة لمصلحة تماسك البلاد»! وكان مِمَّا صاغ في باب الحكمة يفرضها على عقول النَّاس، وأفئدتهم، أن «المسلحين لا يمكن أن يخضعوا للعُزَّل؛ كما ولا يمكن للعُزَّل أن يعيشوا وسط المسلحين»!
تلك بعض النَّماذج من فلسفة ميكافيلي في التَّاريخ، فهل، تراه، كان يؤمن، في قرارة نفسه، بأنها كانت شرِّيرة إلى الحدِّ الذي ستنصِّبه، هو نفسه، عبر القرون، «أميراً للانتهازيَّة»، وستدفع شكسبير، مثلاً، لأن ينعته، في خواتيم القرن السَّادس عشر، ومطالع القرن السَّابع عشر، بالوضاعة والانحطاط، ويمسح به الأرض، علناً، في مسرحيَّته «زوجات وندسور المرحات»، متسائلاً على لسان أحد شخصيَّاته: «هل أنا حقَّاً مخادع .. هل أنا ميكافيلي»؟! أم أنه كان مقتنعاً، في تمام براءته، بأن نصائحه تلك لـ «أميره» لم تكن تهدف سوى لإرشاده إلى أفضل الخطط التي تمكِّنه من حكم إيطاليا موحَّدة، حتَّى لو كان يطمع بذلك في أن ينال، هو نفسه، منصباً مرموقاً في جهاز الدَّولة؟! والسُّؤال الأهمُّ: هل احتاج كلُّ طاغية لكتاب ميكافيلي، كي يتعلم كيف يضطهد محكوميه، ويسلبهم حريَّتهم، ويسومهم العذاب، ويدمِّر حياتهم، ويسوسوهم بالشِّدَّة، ويعلي من شأن المسلحين على العُزَّل؟!

الجُّمعة
فَقْدان جللان رُزئنا بهما، تباعاً، في بحر أسبوع واحد؛ معاوية جمال الدِّين، وخليل الياس. الأوَّل شرَّفني، وناشره مركز عبد الكريم ميرغني الثَّقافي بأم درمان، بالتَّقديم، قبل ستِّ سنوات، لكتابه الرَّائع «حوارات مع أيقونات سودانيةَّ في فضاء الإمتاع والمؤانسة»، فلاحظت، بحقٍّ، تلازم ثلاثة عناصر، في هذه الحوارات، على قدر كبير من الأهميَّة لفن الحوار الصَّحفي: إحسانه اختيار مداخله إلى من يحاوره بحرفيَّة عالية، واتقانه السِّياحة، بطلاقة، في فضاءات الحوار الفكريَّة، وامتلاكه، عموماً، ناصية هذا الفن، بحيث لا يدع خيط الحوار يفلت، البتَّة، من بين أصابعه. كما ولا يصعب على القاريء المدقِّق ملاحظة أن معاوية حرص، طوال حواراته، على مراعاة مبدأين أساسيَّين: الأوَّل عدم نسيانه، ولو للحظة، أن «شخصيَّة الحوار» ليس «نفسه»، بل «الآخر»، أما الثَّاني فهو إبقاء عينيه مفتوحتين، دائماً، على الهدف من الحوار، حتى لا ينزلق إلى محض ثرثرة بلا معنى! وقد سجَّل الكتاب بالفعل، كما توقَّعت، فتحاً كبيراً على هذا الصَّعيد الصَّحافي الثَّقافي، وقرَّظته الكثير من الأقلام المهمَّة.
أمَّا خليل، بوسامته، وكاريزميَّته، وخفَّة ظله، وثوريَّته المتَّزنة، وذكائه الوقَّاد، فقد ظلَّ يمثِّل، قرابة نصف القرن، نصباً تذكاريَّاً لحركة الوعي الشَّبابي التَّقدُّمي السُّوداني، أحد أهمِّ ركائز الدَّفع المدني نحو الدِّيموقراطيَّة في بلادنا. لم يقع تعارفي الشَّخصي معه، كالكثيرين غيري، من خلال اتِّحاد الشَّباب الذي كان يرأسه باقتدار؛ فلسبب ما لم أكن عضواً فيه. لكنني عرفته، أواسط سِّتِّينات القرن المنصرم، في ملابسات علائق تواصلت مع مجموعة نادرة من أجمل المناضلين الشِّيوعيِّين بمنطقة أم درمان جنوب، كحسن شمَّت، وشكَّاك، ومشَّاوي، ومنصور محمَّد خير، وآخرين، حتَّى أوان سفري للدِّراسة. ثمَّ ما لبثت تلك العلائق أن عادت تتوطَّد، خصوصاً مع خليل، في ظروف القمع الذي جمعنا، أواخر السَّبعينات، في زنازين النِّميري بسجن كوبر، حيث ظلَّ الرَّاحل، بعذوبة نفسه، وحسِّه الفتيِّ، ومزاجه الرَّائق، وروحه الوقَّادة، عاملاً أساسيَّاً من العوامل التي يعود إليها الفضل في إشاعة عزيمة المقاومة، وسط المعتقلين السِّياسيِّين، وتعزيز صمودهم، ورفع معنويَّاتهم، وزرع مشاعر الأمل في نفوسهم، ودفعها، حثيثاً، للتَّفاؤل بديناميكيَّة الحياة، وللاستمساك بقوَّة الرَّغبة في كسر الأسى، وهزيمة الوسواس، ودحر الاحباط.
اللهم إنَّا لا نزكِّي معاوية أو خليلاً عليك، لكنَّا نسألك، بكلِّ أسمائك، أن تفسح لهما في ملكوت رحمتك ورضوانك، وأن تلهم آلهما، ومحبيهما، وعارفي فضلهما، جميل الصَّبر والسُّلوان من بعدهما، إنك غفور رحيم.

السَّبت
عندما طالعت دعوة مني اركو للمصالحة مع حزب الاسلامويِّين، استعدت مشهد الاحتفال في مدينة الفاشر، خلال الأسبوع الثَّاني من أغسطس 2021م، بتنصيبه حاكماً لدارفور، فتمنَّيت لو كان ذلك وفق اتِّفاق مجمع عليه، تحت إشراف «الحكومة»، عبر «مفوَّضيَّة السَّلام»، بموجب الوثيقة الدُّستوريَّة، لا بموجب الاتِّفاق المبرم بجوبا، في الثَّالث من أكتوبر 2020م، والذي رتَّبته لجنة «المكوِّن العسكري» في «مجلس السَّيادة»! ذلك أن اتِّفاق جوبا ربط مصير السَّلام بهذا «المكوِّن العسكري» ربطاً محكماً، حتَّى أن من تصدَّر حفل التَّنصيب، وألقى كلمته الرَّسميَّة التي حملت ملمح هذا الرَّبط، كان الفريق أوَّل البرهان، وليس دولة عبد الله حمدوك الذي كان ينبغي أن يكون المسؤول، فعليَّاً، عن إقرار السَّلام ضمن مهام «حكومته» خلال الفترة الانتقاليَّة! ومن لا يرى أن ثمَّة ما سيترتَّب، سلباً، على هذا «الفرق» .. فليراجع نفسه!

الأحد
ابتليت الحملات الانتخابيَّة في العالم «الثَّالث» بظواهر الجَّهالات التي غالباً ما تعتمدها وتنشرها أحزاب «التَّخلُّف» ومرشَّحوها! ففي الانتخابات الجزائريَّة، مثلاً، وضمن ضوابط العمليَّة الانتخابيَّة، خصَّصت اللجنة المشرفة رقماً متسلسلاً لتمييز كلَّ حزب من الأحزاب الـ 28 المتنافسة، لا أكثر ولا أقل. لكن أحد هذه الأحزاب، ورقم قائمته (7)، انطلق يشيع أن على النَّاخبين أن يصوِّتوا لمرشَّحيه «تبرُّكاً» بهذا الرَّقم الذي اختصَّهـم بـه الله سبحانه وتعالى، لكون الطَّـواف بالكعـبة (7) مرَّات، والسَّعي بين الصَّفا والمروة (7) مرَّات، فضلاً عن أن «الجِّهاد المبارك» في الثَّورة الجَّزائريَّة (7) سنوات!

***

kgizouli@gmail.com
///////////////////////

 

آراء