يا دامي العينين والكفين !
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل !
نيرون مات، ولم تمت روما ...
بعينيها تقاتل !
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل ..!
*
محمود درويش
(1)
ليس المديح أنسب في ذكرهم، ولا خطى توافقنا نحوها. هم أكبر من كل الخيالات والأحلام. ليس الشباب هم الذين نعرفهم سابقاً، بل عرفناهم على حقيقتهم من بعدما خرجوا للشارع. ضمخوا الشارع بألوانه الزاهية الملونة. ليس اليوم كالأمس. كنا نظن الليل الأسود أطول. أربعة أشهر والموت شريك أبناء وبنات شعبنا، يستطعم خبزة من دمائهم وكانوا أكبر من كل ما ظننا. ها هو أبريل يعود في شكل جديد، وهواء نقي ما كنا ظننا أنا سنتذوق نسيمه.البحر مشرع موجه والسماء رغم الحر صافية ، وكست زرقة السماء جباه النور ألقاً.
الأباريق مشرعة، من يريد أن يتوضأ فالماء موجود، والأرض مسجد من ليس له مسجداً باسمه. الإفطار موجود والشاي موجود، وأن لم يكن لك مال لتتبرع، خذ ما تشاء. للثورة قانونها، وللتراث السوداني والنفير قانونه، وظهر المسلك السوداني الذي نشترك فيه جميعاً. اختلط الجميع وتدفقت درر الكلام بلا تكلف.
كل من يتحدث كلامه دررٌ نفيسة ومنطق يحلو، وفي رصانة وعُجالة يرمي البيان في عفو الخاطر ويذهب.
(2)
الشمس توقد حراً، والليل أصفى وأنضر. في ظل الحرارة اللاهبة، يتجمع كل الناس، تضيق بهم الطرقات. أصحاب السيارات تركوها، ومشوا بأرجلهم، تصحبهم جموع البشر، يعلوهم الإشراق في كل حين. انفاس النهار ، كأعياد تدلت ثمارها اليانعة تملأ الطرقات. الثمار لمنْ يشتهي، والهتاف والأغاني والقصائد مطربة تحوم بين الأكتاف والشفاه. هنا رتل من الموسيقيون بآلاتهم، والغنا والزغاريد تملآن الفراغ، ولا فراغ، بل سُمرة الجموع تغطي الأرض والأبسطة. والأعلام ترف عليها طيور النورس. عباب البحر يأتينا يخفف ، كل شيء كالخيال . لم نستوعب الحاضر ، فماضي ليلنا الظالم تولى وانحسر.
(3)
الإنسانية الرائعة أكبر في مواسم الفرح. اليوم بتنا لا نصدق أن عصابات الطاغية قد انزوت . وأن سيارات العصابة بلا أرقام، تحمل الآليات قد توارت خائبة. ظهر أبناء السودان أحلى وأنضر. الشمس ناضرة وصبح تتالى، والجميع هيام بمحبة الوطن. انتفض الشقاء من الوجوه، واستبشرنا بالخير ممدود بلا سقوف.
وداعاً للربانيين الكذبة ، تجار الدين، بسطوا العقيدة، وذهبوا يسرقون. لا تقول كلمة خلاف إلا قالوا شيوعي أتانا ، كفروك ولعنوك وقالوا بيننا شرع الله نقيم حده عليك، إن تطابق أو غير ذلك. كل الأرض والبشر فيئ التنظيم. يعبون منه ما وسعتهم السعة. يكبرون في كل شيء ويهللون فوق كل كبيرة، لنزعم أنهم بناة العقيدة وحرزها المكين.
(4)
اليوم انكشفت أستارهم ، وظهر مالهم المكنوز غصباً، حاضراً أمام الأعين، للسارق نور جهير ، لن يتستر علينا، بورعه الكذوب ، وذقنه البيضاء ، تقطر من مال السحت. أصابتهم الحيرة ، وعميت أبصارهم ، وغشتهم طمأنينة زائفة أنهم باقون وسوف يسلمونها " لعيسى" ، كأن " عيسى " من بعض كتائبهم المدسوسة. أغراهم الكبر والعتو ، فسلاح التنظيم عند الكتائب السرية. جاءوا بها، واليوم يوم نفيرها. كانوا يتمنون حمامات الدم يزهقون شباب الغد، وحبستهم كبرياؤهم، بأنهم غم كل شيء سينتصرون، لأنهم ظنوا ألا معركة هناك. سيفضون الاعتصام ساعة، ويتقدمون بجماهيرهم لتظاهرة الردع.
إنها لا تعمي الأبصار ولكنها تعمي القلوب. ظنوا بمكرهم خيراً، وانقلب السحر على الساحر.لم يشفع لهم ساقط القول الذي وصفوا به أبناء وبنات شعبنا الأشراف . انطلق " دجاجهم الإلكتروني " يتحدث عن الخمر المتدفقة على أرض الاعتصام . فعرفوا أن خصومهم أخلص نقاء وأعذب نفوساً. مصلين لله قانتين لا يلوي عنقهم فشار ، ولا تصيبهم إلا ما كتب الله لهم . تحلوا هم بالصبر والصلاة ، ونالوا الخير غصباً. وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
جاء الصبح ولملم الليل الحالك أطرافه، وجاء النور الكاشف، واختفى الضباب. وجاء الحق واندحر الضلال. سيشهد السودان بعثاً جديداً، ونشهد اليوم إطلالة هذا المشهد.
عبدالله الشقليني
20 أبريل 2019
alshiglini@gmail.com