شتاء الإسلاميين وخريف اليسار: الاختبار القاسي للديمقراطية

 


 

 




من المفترض أن تكون هذه الأيام هي بالفعل ربيع الإسلاميين في العالم العربي، حيث آل إليهم من حيث لا يحتسبون حكم بلادهم التي كان بعضهم لا يستطيع حتى وقت قريب أن يطأ أرضها وهو آمن. وفي هذا مصداق لقوله تعالى: 'ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين'، وقوله جل وعلا: 'فعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون'. ولكن حال الإسلاميين هذه الأيام أقرب إلى المأتم منه إلى الاحتفال بالنصر المبين. فمن الكويت إلى الجزائر، يواجه الإسلاميون الحصار: بعضهم محاصر في قصره، وبعضهم محاصر في سجنه أو منفاه، وبعضهم محاصر في الصحراء.
وفي تطور ذي رمزية عميقة، سجل رئيس وزراء بريطانيا دايفيد كاميرون في نهاية الشهر الماضي أول زيارة لرئيس وزراء بريطاني للجزائر منذ استقلالها، أعلن خلالها عن تعاون وثيق بين البلدين في مكافحة الإرهاب. والمعروف أن عسكر الجزائر كانوا أول من قاد انقلاباً ضد فوز الإسلاميين بالانتخابات، وتولوا قيادة التحريض في العالم ضد الإسلاميين والديمقراطية معاً. وفي هذه المعركة التي قادوها، وسفكوا فيها دماءً كثيرة، وانتهكوا الكثير من الحرمات،وقفت معهم كثير من الدول الغربية، خاصة بعد أن تفجر العنف وتولت كبره بعض الجماعات المتطرفة. إلا معظم هذا الوقوف كان على استحياء (فيما عدا فرنسا)، ومقرون بلوم للنظام الجزائري، أولاً على ابتداره العنف وانقلابه على الديمقراطية التي فصلها على مقاسه أساساً، وثانياً للفظائع غير المبررة التي ولغ فيها النظام ومؤسساته الأمنية.
لهذا السبب، وجد كثير من الإسلاميين الفارين من بطش النظام ملاذات آمنة في أوروبا، بما في ذلك فرنسا. وبالرغم من أن قلة من هؤلاء تورطت فيما بعد في كبائر إرهاب الآمنين في البلاد التي آوتهم، وبالرغم من أن النظام الجزائري تاب فيما بعد عن كثير من آثامه وعقد مصالحة مع خصومه، إلا أن النظام ظل موسوماً بوصمة الأنظمة المماثلة، مثل نظام بينوشيه في شيلي، ونظام ياروزلسكي في بولندا، باعتبار هذه التوبة وقعت بعد أن استنفد الإثم أغراضه وحقق أهدافه. وعليه ظلت كثير من الحكومات، بما فيها بريطانيا، تحتفظ بمسافة معقولة بينها وبين ذلك النظام.
ولكن زيارة كاميرون إلى الجزائر تشير لأول مرة إلى انتقال جذري وكامل من الغرب إلى معسكر النظام الجزائري. ومن الآن فصاعداً لن ينظر لوشايات الأمن الجزائري ضد خصوم النظام بحذر كما كان الشأن في السابق، وقد تصعد الحرب ضد الإسلاميين في الغرب، حتى المسالمين منهم إلى مستوى جديد، وهي سياسة كانت قد بدأت ملامحها تظهر في آخر عهد توني بلير. ويمكن النظر إلى تلميح وزير الداخلية الفرنسي في أعقاب اغتيال شكري بلعيد في تونس الأسبوع الماضي في نفس السياق: أي أنها إعادة للتأكيد على سياسة فرنسا القديمة في دعم خصوم الإسلاميين، حتى وإن كانوا من المجرمين.
ويرجع هذا التحول أساساً إلى أحداث مالي وتبعاتها في عملية عين أميناس. فعملية مالي لو نجحت لكانت هذه أول مرة تصبح فيها للقاعدة دولة خاصة بها، وهو أمر ما كان النظام الدولي يسمح به أصلاً، حيث لم يقبل بأن تكون هناك دول حاضنة للقاعدة، كما كان الحال في أفغانستان واليمن والصومال، فكيف بدولة خالصة؟ إضافة إلى ذلك فإن هذا الحدث كان نتيجة غير مباشرة لتدخل الغرب في ليبيا ونصرة ثوارها، الذين لم يكن من بينهم في وقتها حركات متطرفة، إلا أن وفرة السلاح وابتذاله، وظهور تجمعات متطرفة، بعض أفرادها من ليبيا، خلق حالة من الحذر نرى انعكاساتها في الإحجام عن دعم الثورة السورية.
بنفس القدر فإن الأخطاء التي وقعت فيها الحكومات الجديدة التي يهيمن عليها الإسلاميون، خاصة في مصر، ودخولهم في مواجهات مع خصومهم، أعادت إلى الأذهان التحفظات التي كانت سائدة في أوساط كثيرة حول التزام الإسلاميين بالديمقراطية وتقبلهم للآخر. فقد تم بعد أحداث الجزائر تداول مقولة تلخص فكرة الإسلاميين عن الديمقراطية بأنها 'صوت واحد لكل ناخب لمرة واحدة'. أي أن الديمقراطية ستنتهي بانتخاب الإسلاميين، وتعقبها 'الخلافة' أو 'ولاية الفقية' أو نحو ذلك من النظم التي تحظر على غير الإسلاميين المشاركة في تداول السلطة. وقد كانت غالبية الأصوات الأكاديمية وغير قليل من صناع السياسة يسفهون هذه المقولة ويرون أن من العدل إعطاء الإسلاميين فرصتهم وقبول تعهداتهم التي بذلوها بالالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية.
ولكن بعد الممارسات التي شهدتها مصر، ضعفت هذه التوجهات كثيرا. ويذكرني هذا بحالة أكاديمي غربي مرموق كان كتب بكثافة في إنصاف الإسلاميين وانتقاد الداعين لاستئصالهم وإقصائهم، وخص الدكتور حسن الترابي بنصيب وافر من تحليلاته، خاصة وأن الترابي كان من أكثر الإسلاميين ترويجاً لفكرة المواءمة بين الإسلام والديمقراطية. وقد التقيت الرجل بعد فترة من انقلاب الإنقاذ فشكا لي من حملة شرسة يتعرض لها، وتهكم من زملائه الأكاديميين حول سذاجته حين صدق مقولات الترابي وغيره من الإسلاميين. وحال هذا الأكاديمي يشبه حال كثيرين غيره قد يجبرون على مراجعة مقولاتهم حول ديمقراطية الإسلاميين في ظل التطورات الجارية.
ولعل أبلغ تعبير عن هذه الحالة الجديدة ما استمعت إليه قبل أيام على لسان قيادي في حركة النهضة التونسية كان يعلق على قناة الجزيرة على مقولة الوزير الفرنسي بأن فرنسا ستدعم 'الديمقراطيين' من الآن فصاعداً. فقد تعامل القيادي الإسلامي مع تعبير 'الديمقراطيين' بدون مزدوجتين، وظل يستخدمه طوال الحوار، فيما يشبه الاعتراف بأن الإسلاميين فئة والديمقراطيين فئة أخرى. وسنعود لهذه الدعوى لاحقاً، ولكن النقطة هنا هي أن الإسلاميين وضعوا نفسهم بممارساتهم في السلطة في الوضع الذي أراده خصومهم.
يعود هذا جزئياً إلى التحول المفاجئ للإسلاميين من المعارضة إلى السلطة بدون أن يكون هناك تصور واضح للتعامل مع الحكم، خاصة أن هذه مرحلة انتقالية يتم فيها وضع قواعد الحكم، بخلاف ما كان عليه في تركيا مثلاً، حيث انتخب حزب العدالة والتنمية في إطار دستور قائم ونظام مستقر. وقد استعجل الإسلاميون تقمص دور أهل السلطة دون اعتبار لأن كثيراً من القوى العلمانية ما تزال نفسياً ترى نفسها مرجعية كل سلطة، وهو شعور يعضده هيمنة هذه التيارات على الإعلام ومنابر الفكر، إضافة إلى ما تلقاه من دعم دولي وإقليمي. وقد كان من الواجب أن يراعي الإسلاميون توازن القوى الحقيقي، وألا يغتروا بالإمساك الشكلي بالسلطة، في وقت يقع فيه الجيش والقوات الأمنية والبيروقراطية والإعلام خارج سلطتهم، إضافة إلى كون التوازن الدولي والإقليمي في غير صالحهم. وأهم من هذا، لا بد أن يراعي هؤلاء احتمال عودتهم إلى المعارضة قريباً، وأن يتذكروا ضرورة حماية المعارضة الآن ولاحقاً مما كانوا عرضة له في ظل الأنظمة القمعية المعادية.
وقد زاد الإسلاميون فأصروا على تحمل الأمانة وحدهم (وقد صدق الله تعالى، فالإنسان ظلوم جهول)، والتصدي منفردين لمعالجة قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية تنوء بها الأرض والجبال. فالاقتصاد في هذه البلدان كان في حالة سيئة حتى قبل الثورات، وتدهور كثيراً بعدها، كما أن مطالب إعداد الدساتير والتوافق على قواعد اللعبة السياسية مهام عسيرة تتطلب تضافر الجميع.
صحيح أن المسؤولية في هذا لا تقع على الإسلاميين وحدهم. ففي تونس مثلاً تتفهم قيادات النهضة هذا الأمر جيداً، وقد حرصت على أن تحكم في إطار تحالف ديمقراطي عريض، وقد ظلت منفتحة على التيارات الاخرى. ومهما يكن فإن الحكم في تونس انتقالي لم تبق سوى أشهر معدودة على انتهائه بانتخابات يحدد فيها الشعب من يحكمه. وهذا يعيدنا إلى مشكلة 'الديمقراطيين' في تونس وغيرها، وهي صفة تنتحلها بقايا الحركات السياسية تأسياً بدعاوى مماثلة لتلك التي نراها في تسمية 'جمهورية كوريا الديمقراطية' وقبلها ألمانيا 'الديمقراطية'. وكما في تلك الحالات، فإن النسب بين هذه الحركات والديمقراطية بعيد، لأن الحركات هذه لا تدعمها إلا أقليات صغيرة. وهي لهذا تخشى الانتخابات، وتريد أن تستغل الاضطرابات وتخلقها حتى تجد عبر عدم الاستقرار مدخلاً إلى العودة إلى نصيب من السلطة عبر البلطجة والابتزاز.
بالرغم من ذلك، فإن مخاوف هذه الحركات والتنظيمات ومطامحها مشروعة، وتتناغم مع مخاوف ومطامح الاقليات الدينية والعرقية في البلاد العربية، حيث أن كل هذه القوى تخشى من أن تستخدم الأغلبية الميكانيكية لإقامة نظام حكم يمارس الإقصاء في حق الآخرين أو يضر بمصالحهم ويحجم طموحاتهم. فعندما قامت الثورات العربية، لم تقم باسم فصيل أو أيديولوجية معينة، كما كان حال 'ثورات' الماضي التي قادها حزب واحد احتكر باسمها السلطة، وإنما قامت باسم جميع المواطنين. وعليه فإن إقرار النظام الجديد يجب أن يكون على أسس تعكس هذه الحقيقة، وتمنح الجميع الثقة بأنهم متساوون تماماً في المواطنة، وليسوا أقليات. وهذا يعني إشراكهم في وضع الدستور، وقبول الأغلبيات لقيود دستورية على ممارسة سلطاتها لصالح ضمان حقوق الجميع. وبنفس القدر يجب ألا تصر الأقلية على فرض رؤيتها على الأغلبية، بل يجب أن يقع التوافق بين الجميع على كلمة سواء.
صحيح كذلك أنه ليس ذنب الإسلاميين أن الشعب انتخبهم، كما أنهم ليسوا مسؤولين عن أن شعبية فصائل اليسار التي لم تكن طاغية يوماً حيث لم تحكم إلا قمعاً- في تضاؤل مستمر، ولكن تصرفات الإسلاميين في الحكم قد تساعد في خلق تيار شعبي توحد بين أطيافه المتنافرة كراهية الإسلاميين والخوف منهم. فلكل فعل رد فعل، ومحاولة الإسلاميين فرض هيمنة ولو مؤقتة قد يدفع بكثيرين (ومن بينهم بعض الفصائل الإسلامية كما نشهد في مصر) إلى التكتل دفاعاً عن النفس، وهو تكتل قد يدعمه تكتل دولي يرى في الإسلاميين خطراً ماثلاً. وإذا كانت الحركات اليسار تعيش في أعقاب الربيع العربي خريفاً قد يعقبه شتاء مميت، فإن شتاء الإسلاميين قد حل فعلاً. والشتاء قد يكون نهاية المطاف، وقد يعقبه ربيع تعود معه الحياة وتزدهر. والفيصل في كل هذا متن الآية الكريمة ومقتضاها: ' فينظر كيف تعملون'.

' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
/////////////

 

آراء