شذرات منصور خالد وهوامشه ـ الحساب ولد (4)

 


 

 

 

abusamira85@gmail.com

رغم أن السيرة الذاتية من أكثر الأجناس الأدبية مراوغة، إلا أن الدكتور منصور خالد في كتايه الجديد (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية)، نجح في إعداد (نص متين ذي منظومة معرفية) يقترح إقامة علاقات مع القارئ، ليست بصيغة التصديق أو (إني الموقع أدناه) كما في السيرة الذاتية التقليدية، بل هي (اقتراح) قابل لملامسة فضول القارئ وإثارة شهيته، بهذا تخلق شذرات منصور خالد وهوامشها (أثرا) في القارئ.
ينتمي كتاب منصور خالد (شذرات من وهوامش على سيرةذاتية) الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة، بأجزائه الأربعة الضخمة لأدب السير الذاتية، وهو جنس يتداخل مع الفن الروائي، حيث قدم للمتلقي تفاصيل من حياته بضمير المتكلم (أنا) تأكيدا على هيمنة شخصيته على بنية هذا العمل الأدبي، وبذلك صار السارد متكلما ومنتجا للقول في العموم، وهنا التفاصيل:

كلفتة الدستور
نواصل الغواص في (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية)، بأمل أو ذريعة أن القارئ سيجد عند منصور خالد شيئا مختلفا عما سبق له أن اعتاده في أدب السيرة الذاتية.
قضى منصور خالد السنة الأخيرة في كلية الحقوق متدربا في ديوان النائب العام، وفيها عاش تجربة وضع دستور جديد لسودان مستقل، وهنا يطوف بنا منصور خالد في عالم ما سماه (كلفتة الدستور)، حيث كلف مع زميله الراحل عبد الرحمن يوسف بمهمة رصد القوانين الاستعمارية التي تسئ للسودانيين، بهدف عرضها على الرئيس إسماعيل الأزهري للموافقة على إلغائها. وكان من بين تلك القوانين قانون قديم (مهجور)، يحرم هذا القانون بيع الخمور الأجنبية للسودانيين، باستنثاء الأطباء وبعض كبار الموظفين.
حسب رواية منصور خالد أخذ أحمد متولي العتباني النائب العام حصيلة العمل وحملها مع الوزير المختص مبارك زروق إلى الرئيس أزهري.
وعند عودة عتباني من الرئيس أزهري عرف منصور خالد وزميله أن أزهري أجاز كل المقترحات حول تعديل الدستور، ولكن عند الحديث عن القوانين المسيئة للسودانيين التي اقترح مبارك زروق إلغائها، كان للرئيس أزهري رأي آخر، خاصة القانون الذي يحرم بيع الخمور للسودانيين.
قال الرئيس أزهري للنائب العام حسب رواية عتباني، (يا أحمد متولي عتباني أنت عاوز أول رئيس مسلم للسودان، ومش بس رئيس مسلم وإنما حفيد قاضي قضاة السودان، وجده الأكبر هو السيد إسماعيل الولي، أن يحلل شراب الخمر للمسلمين). وختم الرئيس أزهري تعليقه لعتباني (أنا عارف القانون ده لا يطبق، لأن ضباط البوليس البلقو القبض على الجناة يشربون، والنائب العام يشرب، والوزير يشرب، والقاضي الذي يحكم الناس يشرب، أتركوا الحبش ما تركوكم).
وانتهت القصة بمهارة عتباني عندما أشرف على إصدار القانون رقم 13 المتعلق بتعديل القوانين لتتطابق مع الدستور في 9 يونيو 1956م.

المحاماة والصحافة
على نهج عباس محمود العقاد نأى منصور خالد بنفسه بعد أن تخرج من كلية الحقوق عن أي وظيفة حكومية.
ورغم أن العقاد كان يرى أن الوظيفة هي (رق القرن العشرين)، إلا أن طبيعة منصور خالد المتمردة على كل القيود جعلته يحس بالملل في أي وظيفة يقضي فيها أكثر من خمس سنوات. ومصدر هذا الملل عند منصور خالد أن خمس سنوات يمضيها في أي وظيفة كافية لأن يقدم فيها كل ما يقدر عليه من إنجاز.
وقد أحسن الراحل أحمد سليمان صنعا حين استنجد به الراحل أمير الصاوي خال خالد منصور لإقناعه بالعمل في القضاء بدلا من المحاماة، حيث كان يقول لأمير الصاوي (الود سيبه علي)، ويقول لمنصور خالد (خالك ده سيبك منو).
عمل منصور خالد في المحاماة وتوثقت صلاته بأساتذة كبار فيها مثل: أحمد متولي العتباني، أميل قرنفلي، أحمد خير، مبارك زروق، أحمد زين العابدين، وأحمد محمد فضل.
إلى جانب مهنة المحاماة كانت لمنصور خالد رغبة أخرى في الالتحاق بمهنة الصحافة، حيث دخل من بابها الأوسع حين قدمه بشير محمد سعيد إلى صديقه عبد الرحيم الأمين الذي درج اصدقاؤه على تسميته (المعلم)، والمعلم هنا تعني (الملهم للصواب).
كان إسهام منصور خالد الأول في العمل الصحافي مقال نشرته صحيفة (الحادي) الأسبوعية التي يصدرها محمد أحمد عمر. احتوى المقال على نقد لاذع لمصر وسياستها في السودان بعنوان (مهر البغي)، وكان العنوان من اختيار عبد الرحيم الأمين، مما عرض كاتبه للمحاكمة بتهمة إثارة الفتنة.
حين عمل منصور خالد بصحيفة النيل لسان حال حزب الأمة، لم يكن يبحث عن صحيفة بقدر ما كان ينشد العمل مع صحافي معلم.

عبد الله خليل
قادت تجربة العمل في الصحف الاستقلالية منصور خالد إلى عالم عبد الله خليل، حيث نشأت بينهما صلة قوية. وقبل أن ندلف مع منصور خالد في عالم البيه عبد الله خليل، يستحسن أن نقف قليلا معه حتى لا نقع في الخطأ القاتل الذي فجع منصور خالد حين سأله أحد المهنيين عند جاء ذكر اسم عبد الله خليل (مش ده أول رئيس جمهورية للسودان).
ولد عبد الله خليل (1892 ـ 1971) بأم درمان، وكان من أعضاء جمعية اللواء الأبيض، منفذة ثورة 1924. وبعد فشل ثورة 1924 والموقف المتخاذل الذي وقفته الأورطة المصرية والحكومة المصرية منها تحول عبد الله خليل للفكرة الاستقلالية. وكان من أبرز المؤسسين لحزب الأمة كحزب يقود الشعار الاستقلالي. وقد انتخب أول سكرتير عام للحزب.
تولى عبد الله خليل رئاسة أول حكومة بعد الاستقلال. وقد سلم السلطة لقيادة القوات المسلحة ممثلة في الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر 1958م، وذلك وفق رؤية معينة نكصت عنها قيادة الجيش وبطشت به وبحزب الأمة على وجه الخصوص وبكل القوى السياسية السودانية عموما.
وحسب الوثائق البريطانية، لعب عبد الله خليل دورا أساسيا في المفاوضات بين أحزاب السودان عام 1955 نحو تقرير المصير. ويشير تقرير بريطاني إلى أنه (شجع الأزهري على التحول من تأييد الوحدة مع مصر إلى طلب الاستقلال).
ويرى تقرير بريطاني أن عبد الله خليل يتميز بالشجاعة أكثر من أي سياسي سوداني، وأنه كان يحكم البلاد بيد حازمة في أثناء حرب السويس، وهو أكثر زعماء حزب الأمة يتمتع بالإحترام. وتبقى كلمة في حق السيد عبد الله خليل نلتقطها من كتاب الأستاذ يحيى محمد عبد القادر (على هامش الأحداث في السودان) ونصها (إن عبد الله خليل رجل نادر بين الرجال وقد أعطى كل ما في وسعه وكل ما عنده. وكان مثالا للطيبة والوطنية وروح الخيرلا أشك في ذلك بل أخالني دون ما أريد).

عالم البيه
قادت تجربة العمل في الصحف الاستقلالية منصور خالد إلى عالم البيه عبد الله خليل، حيث نشأت بينهما صلة قوية، اثير من حولها من الأسئلة الكثير، ولم تقدم من الإجابات سوى القليل. ولأسباب غير مفهومة حتى الآن تثير هذه العلاقة الجدل والنقاش، أكثر من الحديث حول الأثر الباقي لعبد الله خليل في الحياة السودانية أو التأثير الكبير لمنصور خالد في الحياة نفسها.
يبدو أن منصور خالد لم يشغل نفسه كثيرا بالجدل المحتدم حول علاقته بعبد الله خليل ففي الواقع (لم يكن سكرتيرا لعبد الله خليل، كان أكثر من ذلك. كان ابنا له يكلفه بما يفوق ما يكلف به الآباء ابنائهم).

ما الحكاية؟
بدأت هذه الصلة بينهما، عندما اتخذ البيه عبد الله خليل لنفسه مكتبا، باعتباره سكرتيرا لحزب الأمة في دار الصحف الاستقلالية، والتي كان منصور خالد يعمل بها تحت إشراف المعلم عبد الرحيم الأمين الذي قدمه للبيه.
كان مكتب البيه خلية نحل يغشاها الرائح والغادي، من هؤلاء زعماء القبائل، حيث تعرف منصور خالد على (أشياخ فضلاء). كما كان من رواد مكتب البيه صحافيون وسياسيون على امتداد ألوان الطيف السياسي.
يلفت النظر في الفصول المتعلقة بعبد الله خليل الميل الواضح عند منصور خالد للسرد الذي يمكن أن يحمل في طياته ملامح لكتابة متماسكة وممتدة عن البيه، ولعل هذه الشذرات من السيرة الذاتية عن عبد الله خليل يمكن أن تتحول في يوم ما إلى شرارات تمهد لكتابات أكثر عمقاً وتشعبا عن عبد الله خليل أحد أبرز رواد حقيبة الفن السياسي من زمن بعيد قبل الناس تعرف الناس.

الجامع للنبل
رغم أن المشاغل المرهقة في الحياة تقف دائما مثل اليأس المتوحش في طريق الكتابة، إلا أن منصور خالد قدم لنا عبد الله خليل الرجل الجامع لنبيل الصفات فهو: عبد الله خليل العسكري، عبد الله خليل الوطني الثائر، عبد الله خليل الحزبي المؤسس الفاعل، ثم عبد الله خليل رجل الدولة الذي يحترم قوانين تلك الدولة ومؤسساتها، عبد الله خليل الذي حرص طيلة حياته على ألا يجعل السياسة حائلا بينه وبين صحبه على الضفة الأخرى من النهر. و عبد الله خليل الذي لم تجعله السياسة يبيت بضغينة ضد أحد. ثم قبل كل هذا كان عبد الله خليل الإنسان البسيط الذي في بساطته نبل وفي تواضعه كبرياء.
يتكئ عبد الله خليل على تاريخ ناصع في المجالين العسكري والسياسي، فقد تجاوز محنة ثورة 1924، وارتقى في المجال العسكري رتبا لم ينلها أحد قبله من الضباط السودانيين، مما أهله للقيام بدور قيادي في قوة دفاع السودان إبان الحرب العالمية الثانية في الصحراء الليبية.
أداء عبد الله خليل في تلك الحرب أهله للترقي كأول ضابط سوداني إلى رتبة الأمير الاي، إذ كانت أعلى الرتب التي حازها الضباط السودانيون حتى ذلك التاريخ هي رتبة القائم مقام. وبعد هذا التفوق في المجال العسكري، لم يتخل عبد الله خليل عن دوره أو واجبه في الحركة الوطنية.
/////////////////////

 

آراء