شذرات من كتاب “رحلة في كردفان: من مذكرات مفتش مركز بريطاني. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
شذرات من كتاب "رحلة في كردفان: من مذكرات مفتش مركز بريطاني (1931- 1933م)"
سي. ليي
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: المقتطفات المتفرقة والمختصرة التالية هي من كتاب مذكرات كان يسجلها يوميا تقريبا المفتش البريطاني سي. ليي، الذي عمل في شمال كردفان (وتحديدا في منطقة الكبابيش) في بداية الثلاثينات. يقول المؤلف إن أفضل أوقاته على الإطلاق في سنواته تلك كانت وهو يطوف على مختلف مناطق مركزه على ظهر بعير. أحب الرجل عمله والذي تتطلب منه إدارة قبائل متنافرة (عربا ونوبة) و التعامل مع أفراد وشيوخ ونظار حكماء، ونجح – فيما يقول- في إدارة مجتمعات تتميز بدينامكية عالية.
أفادني الأستاذ/ عبد المنعم خليفة بأنه قام بترجمة هذا الكتاب كاملا قبل سنوات طويلة، ونشرها في صحيفة "كردفان"... ولعله يجد الوقت لينقب عن تلك الترجمة وينشرها على الناس لما فيها من فائدة كبيرة وإمتاع عظيم، ليس فقط للإداريين والسياسيين والمؤرخين، بل أيضا للقراء "العاديين".
1.لقد كانت إحدى القواعد الأساسية في عملي كمفتش في منطقة سودري هي عدم استخدام مخبرين أو جواسيس لمعرفة الأوضاع في المنطقة. كان يجب على مفتش المركز أو مساعده التجول في كامل المنطقة، وأن يفتح أذنيه وعينيه جيدا لرصد أي مظهر من مظاهر الظلم أو الفوضى أو الاستياء. يجب عليه أيضا أن يتصرف كضيف وسط مضيفيه العرب. ليس هنالك أسوأ من المسلك "البيروقراطي" في هذه الوظيفة التي لا يجب أن تعد بأية حال وظيفة "مكتبية". كانت الحكومة تتولي دفع ما يلزم من "بدل ترحيل" لذلك المفتش ليقضي ثلثي وقته على الأقل وهو يتنقل بين أنحاء مركزه المتباعدة في نظارته الخمس، يستمع لشكاوي النظار والأهالي معا، وأن ينصت أيضا لكل همس يتردد أو شائعة تدور عن احتكاكات محتملة بين القبائل المختلفة، أو بين أفراد القبيلة الواحدة حول المرعى أو موارد المياه أو الأراضي الزراعية. ومن الأمور المستعجلة التي لا تحتمل التأجيل وينبغي على المفتش ايلائها كل الاهتمام بأعجل ما يتيسر هي أخبار سرقات الإبل والأبقار والغنم، فهي سبب أكيد لمشاكل كثيرة تؤدي للقتال والمذابح أحيانا، ويصعب الحكم العادل فيها لاحقا لأسباب كثيرة متباينة. فعلي سبيل المثال نشب صراع مسلح بين عامي 1930- 1931م بين الكبابيش والزيادية في دارفور، وبين الكواهلة في دار الكبابيش والحمر في غرب كردفان عندما نزح الكواهلة جنوبا بحثا عن مرعى لبهائمهم.
2. كان من حسن حظي أن الصراع بين الكواهلة والكبابيش كان قد حسم قبل وصولي لتلك المنطقة بواسطة المفتش السابق، والذي جمع بين ناظر الكواهلة الشاب محمد فضل الله (والذي كان قد عين حديثا وهو في الثلاثين من عمره عقب وفاة والده فضل الله الأعيسر)، وناظر الكبابيش المتمرس الشيخ علي التوم (والذي كان المهدي قد أعدم والده في الأبيض، ونزع أراضي قبيلة الكبابيش وأفقرهم). نجح علي التوم في إعادة دار القبيلة لأهلها في عهد الحكم الثنائي مما جعله بطلا عظيما في نظر شعبه. لقد كان رجلا أميا، بيد أنه كان بالغ الذكاء وبارعا في الدفاع عن قضايا قبيلته. لا غرو أن الناظر الشاب محمد فضل الله شعر بالضآلة أمام شيخ عظيم كعلي التوم.
كان من سوء حظي أن ساءت العلاقة بين الكبابيش ونوبة بحري كردفان، وهي التي كانت، وإلى وقت قريب، على خير حال. كان سبب الصراع هو خلاف شخصي بين الشيخ علي التوم (ناظر الكبابيش) والشيخ النعمة سوركتي (ناظر الجبال البحرية) حول من له الحق في فرض "العشور" على المزارعين (الكبابيش والنوبة) في وادي الحمرا شمال حمرة الوز. حدثت ملاسنة وخصام حاد بين الناظرين يوم عيد الفطر في فبراير 1931م اتهم فيه سوركتي علي التوم بالكذب. انفض العهد والتفاهم والسلم بين القبيلتين عقب التلفظ بتلك الكلمة، ونشبت بين القبيلتين حرب دموية في يونيو من ذات العام.
كان الشيخ سوركتي رجلا عربيا من دنقلا، مميزا ولافتا للنظر. لم يكن من النوبة، بيد أنه أتى للمنطقة وهو صغير السن، ونجح بشخصيته القوية في أن يظفر بقبول الناس له في جبال النوبة الشمالية فنصبوه شيخا عليهم. إبان فترة عملي في المنطقة تعرفت أيضا على ناظرين آخرين هما حسن خليفة (شيخ الهواوير) وكان حينها شيخا كبيرا مريضا لا يفارق الفراش، والآخر هو الفكي جمعة سهل ناظر المجانين، وهو رجل شديد التدين، يحترمه أفراد قبيلته شبه الرحل.
3. تناولت طعام الإفطار في مدينة الأبيض وجلست في انتظار اللوري الذي سيقلني لسودري في الساعة الثالثة والنصف ظهرا بحسب ما اتفقت عليه مع "شركة الترحيل الغربية". قضيت ساعات أتجول في المنطقة على ظهر جواد أهداه إلي زميلي السيد/مالي، ثم قمت بترتيب أغراضي بنفسي، إذ أن خادمي "كوكو" لم يكن مجيدا لذلك العمل. لم أنس بالطبع وضع قنينة من مشروب الجن الذي يحبه زميلي ليستر في سودري. بعثت بكوكو ليحضر لي شبكة صيد الخنازير. استدعيت خادمي محمد صالح (والذي كنت قد أعطيته لزميلي لوماكس والذي سافر لدارفور. كان محمد صالح رجلا (أو قل شيطانا) عابثا وقع في مشكلة عويصة بسبب علاقة مزعومة مع فتاة هناك، وثبت في نهاية المطاف أن الرجل بريء مما نسب إليه. لم أمانع في قبوله مجددا للعمل معي فإن "الأولاد سيظلون أولادا" كما يقول المثل. قابلت أيضا مدرسا شابا حسن السمت اسمه حسن أحمد نجيلة كان من المفروض أن يرافقني لسودري ليعمل هنالك كمدرس لولد الشيخ على التوم (أصدر حسن نجيلة فيما بعد كتابا شهيرا عن تلك الأيام بعنوان " ذكرياتي في البادية". المترجم). بقيت في الأبيض لنحو أسبوع كامل في انتظار هذا الشاب ليرافقني لسودري. بدا لي أن حسن نجيله شاب حضري الطبع، فقد كان ينتعل حذاءا أوربيا. يبدو أن مواعيد شركة الترحيل المسماة "شركة الترحيل الغربية" (وهي مملوكة لرجل إغريقي وآخر من الشوام) مواعيد "شرقية" بالفعل، إذ لم نبدأ رحلتنا معها إلا في الساعة الرابعة والربع (بعد تأخير ساعتين تقريبا). ركبت في الأمام مع المدرس الشاب (حسن نجيلة) وسائق مصري سمين (لكنه مجيد لعمله) في عربة واحدة، وركب الخدم في عربة أخرى. كانت رحلة شاقة صعدت فيها السيارة (وبصعوبة) عددا من "قيزان" الرمال، في أرض لا يغطيها غير نبات الحسكنيت الذي يعلق بجسمك وملابسك إن لامسته.
4. في يوم 29.03.1931 قضيت كامل الصباح في الحديث مع شيخ علي التوم عن العبيد والبنادق، ثم في كتابة الخطابات الرسمية لتلحق بالبريد المغادر على ظهر بعير عند منتصف النهار. كان مفتش مركز شرق دارفور قاي موور قد بعث برسالة عاجلة لشيخ علي التوم أراني إياها الشيخ في مساء اليوم السابق. كان مفاد الرسالة أن مركز أم كدادة كان قد قبض على اثنين من عبيد الكبابيش ومعهما بندقيتين غير مرخصتين. أفاد العبدان بأنهما من عبيد علي التوم، وأن البندقيتين تخصانه (وهي بنادق حكومية كانت قد صرفت للشيخ). طلب قاي موور في رسالته، وبدهائه المعروف وأدبه الجم، من الشيخ علي التوم أن يرسل له خطابا عن طريقي إن كان يود استرداد بندقيتيه (أي أنه يرمي بالمسئولية علي في هذا الأمر!). أيد الشيخ زعم العبدين، وأقر بملكيته للعبدين والبندقيتين. انتهزت الفرصة وسألت الشيخ عن عدد البنادق الحكومية التي في عهدته، فتبين لي أنه ليس متأكدا تماما من عددها! لم أشأ أن أضايق الشيخ أو أصده بخسران بندقتين من بنادقه للحكومة وعقاب عبديه، ففكرت مليا في الخروج من تلك الورطة. أخيرا اهتديت لكتابة رسالة (عن طريق رئيس هاملتون) إلى جورج بريدن في الفاشر لتسوية الأمر (وذلك عوضا عن إرسال أحد الأعراب من أم كدادة مع فاتورة!). أتمنى أن تؤدي تلك الرسالة الغرض المرجو! أتاني بعد ساعات الشيخ علي التوم ومعه علي صالح (من العوضية) وكيل الكبابيش في أم بادر، واستلمت بعد ذلك ثلاث بنادق من نوع ريمنجتون قمت بتسجيل أرقامها ووسمت عليها اسم "الشيخ علي التوم". زارني عند العصر الشيخ علي التوم فقمنا بإنهاء مشكلة العبدين وتحدثنا عن الملك جورج وأبنائه، وعن الديمقراطية ونحن نحتسي الشاي. شرحت له أن كل نظم الحكم في العالم تتمخض عن رجل واحد في نهاية المطاف، سواء أكان ذلك الرجل ملكا، أو فردا منتخبا بطريقة من الطرق. ذهبت معه بعد ذلك في جولة لرؤية الخيول، بيد أن اشتداد الرياح وتكاثر الغبار أجبرنا على الرجوع. أويت إلى فراشي عند الثامنة والنصف، فقد كنت وسنانا.
5. في يوم 29.12.1931م...كان الصباح باردا جدا. اضطررت إلى لبس ثلاثة "فنايل برد" لأخرج من الحمام وأحلق ذقني قبل الذهاب للعب القولف. سمعت في الخارج أصوات تجادل حاد تبين لي أنها لشيخ علي التوم وشيخ النعمة، وهما يسيران نحو هاملتون. كان الشيخ علي يخاطب هاملتون بصوت مرتفع النبرة وبغضب بائن، بينما كان هاملتون يعمل على تهدئته. كان الشيخان يتشاجران دوما أمام الناس، وبصوت عال، وهذا أمر مؤسف. لما خرجت عليهما تبين لي أن السبب في ذلك الشجار هو أن كبار رجال النوبة من الخبيرين بالزراعة، وحدود أراضي كل مزارع كانوا قد رفضوا الخروج مع أي من الشيخين لتخوفهم من أن يتفقا على شيء يضر بمصالح رجال قبيلتهم (النوبة). وعلى كل حال فقد أتفق الشيخان على البدء في عملهما بدون رجال النوبة الخبراء. مضيت أنا وهاملتون للعب القولف (بقرب زريبة!)، وخوفا من أن يقوم الشيخ علي بفعل شيء يسبب المشاكل لاحقا، بعثت له من يستدعيه بذريعة الحاجة لحكمته ونصحه في أمر من الأمور! في نحو الساعة الثالثة عصرا آب الشيخان لسودري وحضرا لبيتي. قالا إنهما نجحا في تسوية خلافاتهما، وتحديد أراضيهما بفعل "الأجاويد"، وأنهما سيقومان بتدوين الاتفاق بينهما ويحضراه لي لاحقا. تركتهما في نحو الرابعة لينالا قسطا من الراحة، وذهبت في معية هاميلتون لنعود العمدة سالم إبراهيم المريض بالحرازة. عدنا عند مغيب الشمس ونحن نواصل النقاش حول منطقتنا، وحول مستقبلنا أيضا.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]