شذرات من كتاب “مصر والسودان” .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
Egypt and the Sudan
روبرت كولنز وروبرت تنقور Robert Collins and Robert Tingor
مقدمة: هذه شذرات من الفصل الخامس في كتاب "مصر والسودان" والمعنون "مصر ناصر واستقلال السودان". صدر الكتاب في عام 1967م عن دار نشر برينتس هول بنيو جيرسي.
وبروفسيور كولنز (1933 -) من كبار مؤرخي السودان، إذ كان قد كتب أول بحث له عن السودان في عام 1954م بعنوان "أمين باشا في الاستوائية" ثم حصل على درجة الماجستير من جامعة أكسفورد البريطانية، ودرجة الدكتوراه في عام 1959م من جامعة ييل الأمريكية بأطروحة عنوانها: "غزوات المهدية لجنوب السودان بين عامي 1883 و1889م". ونشر بروفسيور كولنز في خلال الخمسين عاما الماضية عددا كبيرا من الكتب والمقالات، وعمل أستاذا للتاريخ في جامعة كاليفورنيا (سانت باربرا)، ثم أستاذا زائرا في جامعات الخرطوم والجزيرة وجوبا وتل أبيب وبرجن وأكسفورد ودرم وبوسطن.
أما بروفيسور تنقور فهو أستاذ (شرف) في قسم التاريخ بجامعة بيرستون الأمريكية منذ عام 1960م، وله عدد من الكتابات عن تاريخ السودان وعدد آخر من الدول الأفريقية (خاصة في مجال الاقتصاد والقطاع الخاص)، وصدر له كتاب عن تاريخ مصر صدر في عام 2011م، وآخر عن أنور السادات في عام 2015م.
المترجم
*************** *************
1/ بحلول عام 1952م كان العنف السياسي والفوضى قد سادا كل مرافق الحياة السياسية والاقتصادية في مصر، وأوصلا البلاد لحد الكارثة الوشيكة. وتوقف النظام البرلماني عن العمل، وتدهورت العلاقات بين مصر وبريطانيا بأكثر مما كانت عليها. وتفاقم الخلاف بين البلدين بسبب استمرار مشاكل قديمة بينهما لم تحل مثل السيادة على السودان، والحاميات البريطانية في قناة السويس. وقام حزب الوفد، من أجل إعادة اكتساب شعبية جماهيرية، بإلغاء معاهدة عام 1936م، وأدى ذلك الإجراء إلى تزايد العنف ضد الجنود البريطانيين ومقاطعة العمال للقاعدة البريطانية. وفي يناير من عام 1952م هاجم الجنود البريطانيون عددا من رجال الشرطة في الإسماعيلية، مما زاد من غضب الجماهير المصرية، والذي كانت أوضح تجلياته في "حريق القاهرة" صباح يوم 26 يناير 1952م، والذي استهدف فيه الطلاب الغرب ومؤسساته التي أقامها في مصر مثل دور السينما والفنادق الأوربية والنوادي الرياضية والمطاعم الفاخرة، وحاولوا دون وصول سيارات المطافئ لها وإخماد نيرانها. ولم يتمكن الجيش من السيطرة على الأوضاع إلا في مساء ذلك اليوم.
وتوالت فصول الأزمة السياسية في مصر، إلى أن قام بعض ضباط الجيش في 23 يوليو بانقلاب عسكري على السلطة. وكتب الكثير عن ذلك التحول في مصر، كان بعضه يزعم بأن الجيش أقدم على استلام السلطة لأنه كان هو العنصر المنظم الوحيد في وسط مجتمع ممزق سادته الفوضى، بينما كان بعضه الآخر يزعم بأن قادة ذلك الانقلاب كانوا يخططون ومنذ سنوات خلت لذلك التحول. وذهب كتاب آخرون للقول بأن للجيش أفكارا محددة لتغيير المجتمع المصري.
غير أن ضباط الجيش المصري لم يكونوا على قلب رجل واحد، فقد كان كبار الضباط من أنصار النظام الملكي، وكان صغارهم ينتمون إلى تنظيم "الضباط الأحرار"، والذين قاموا بانقلابهم ضد الملك والسياسيين، وكذلك ضد العناصر المحافظة في الجيش المصري. وكان صغار الضباط أنفسهم يختلفون في اتجاهاتهم، فمنهم من كان يؤيد "الإخوان المسلمون"، ومنهم من كان يتعاطف مع الشيوعيين. غير أن القيادة الحكيمة لعبد الناصر وقوة شخصيته مكنته من الحفاظ على تماسك تنظيم "الضباط الأحرار" بأجنحته المتباينة.
وكانت إحدى أهم أهداف انقلاب 1952 هي تنحية الملك فاروق، والذي كان يمثل قيم النظام القديم بكل ما فيه من فساد وفجور وعدم اهتمام بالشعب ومشاكله. وبقيت ذكري فاروق في المخيلة المصرية مرتبطة بما حدث في حرب فلسطين وفساد الأسلحة الخ. وكان لقادة الانقلاب أهداف معلنة أخرى منها إزالة النظام السياسي الفاسد ورموزه السياسية، والنهوض الاقتصادي بالبلاد وبطبقة العمال على وجه خاص. غير أنه بعد شهر واحد من الانقلاب قام عمال مصنع للغزل والنسيج في كفر الدوار بإضراب عن العمل قابله الجيش بعنف شديد وأحكام قاسية. ودلل ذلك على أن قادة الانقلاب لم يكونوا يهدفون لتحويل انقلابهم إلى ثورة اجتماعية "كاملة الدسم"، وأنهم يقفون إلى جانب الرأسماليين وملاك المصانع الخاصة.
ونجحت بعض العناصر في قيادة ذلك الانقلاب (خاصة مؤيدي الإخوان المسلمين) في القيام بإصلاح زراعي معتدل، حدد بموجبه 500 فدان كحد أقصى لما يمكن للفرد أن يتملكه من أراض زراعية، بينما كان يطالب اليساريون في تنظيم "الضباط الأحرار" بأن لا يتعدى الحد الأقصى 50 فدانا.
****** ****** ****
2/ قام قادة الانقلاب بعد تثبيتهم لدعائم سلطتهم بالالتفات للعلاقة مع بريطانيا. ولا غرو، فقد كان سوء العلاقة بين الدولتين سببا في "حريق القاهرة" وما سبقه وتبعه من فوضى. وكان أولئك القادة يخشون من شيوع الفوضى بالبلاد ومن احتمال تدخل عسكري بريطاني في بلادهم، لذا كانوا أكثر استعدادا وقوة ممن سبقهم في الحكم في الدخول في مفاوضات مباشرة مع البريطانيين، وفي إعطائهم بعض الامتيازات والتنازلات التي لم يكن للساسة المصريين القدرة ولا الجرأة على إعطائها. ونتج عن تلك المفاوضات اتفاقية بين الجانبين وقعت في عام 1954م، تقوم بريطانيا بموجبها بالجلاء عن قاعدتها في السويس، على أن يسمح لها بالعودة لتلك القاعدة في حالة تعرض أي دولة عربية أو تركيا لغزو خارجي. وورد في تلك الاتفاقية أيضا أن لشعب السودان الحق في تقرير مصيره في انتخابات حرة. وأثارت تلك النقطة مشاعر المتطرفين في مصر، والذين عدوا أن ذلك البند يفتح الطريق لقيام دولة سودانية مستقلة، مما يعد تفريطا في حق مصر في السودان. غير أن ذلك البند كان مظهرا لواقعية قادة مصر الجدد، إذ أن بريطانيا لم تكن لتقبل بأقل من ذلك، ولم يكن بمقدور مصر أن تحكم السودان، على كل حال، من غير موافقة بريطانيا.
******* ******* ******
3/ جلبت معاهدة 1954 للنظام المصري الجديد العديد من المشاكل الداخلية مع عناصر مختلفة داخل وخارج الجيش، وفي مجلس قيادة الثورة /الانقلاب. وبدأ الخلاف بين عبد الناصر ومحمد نجيب يطفو إلى السطح بعد أن كان خلافا مكتوما في داخل أروقة الجيش والحكومة. وكانت العناصر اليسارية في ذلك الانقلاب ومعها ساسة النظام القديم يفضلون العودة بالبلاد إلى حكومة برلمانية، بينما كان الإخوان المسلمون يعارضون قيامها، ولكنهم كانوا يرون في الدعوة لقيامها فرصة للتخلص من "مجلس قيادة الثورة". ولما كانت شعبية نجيب قد بدأت في التزايد في أوساط الجماهير فقد أجبر عبد الناصر على تقديم تنازلات كان منها إعادة محمد نجيب (الذي كان قد أعلن عن تنحيه من قبل في فبراير من عام 1954م) بسلطات أكبر، بل وأعلن "مجلس قيادة الثورة" عن قرب إنهاء الحكم العسكري والعودة بالبلاد لحكم ديمقراطي. وكانت تلك خطة مدبرة من عبد الناصر لكسب الزمن والقيام في الوقت المناسب بضربة قوية تقضي على منافسيه وخصومه. فبدأ بإقالة محمد نجيب ووضعه تحت الاقامة الجبرية. ثم علق قرار إنهاء الحكم العسكري. واستغل محاولة الإخوان المسلمين لاغتياله في أكتوبر من عام 1954م للقيام بحملة تصفية لتلك الجماعة وسجن قادتها. وخرج عبد الناصر بعد تلك المحاولة بحسبانه الزعيم الأوحد لحركة الجيش ضد الملكية بعد تصفيته لخصومه في الجيش وفي أوساط الأحزاب. وأتبع عبد الناصر تصفيته للإخوان المسلمين بمحاكمات جرت بعد تلك الأحداث (في عام 1965م).
وظل عبد الناصر في سنوات تلك الأزمة (أي حتى 1955م) يلجأ للدول الغربية من أجل التسليح. غير أنه نفض يديه من الاعتماد على الغرب بعد رفضه لحلف بغداد (المكون من بريطانيا وتركيا وإيران والعراق والباكستان) في عام 1955م، والذي كان يهدف لمنع تسرب أو تغلغل الشيوعية للمنطقة. وأكد عبد الناصر رفضه لذلك الحلف ومن يقف خلفه في مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عقد في أبريل من عام 1955م في باندونج بإندونيسيا. وبعد ذلك بشهور لجأ عبد الناصر – ولأول مرة – لدولة من المعسكر الاشتراكي (هي تشيكوسلوفاكيا) لإمداده بالسلاح. ثم قام عبد الناصر، في خطوة مفاجئة لم يكن حتى بعض أعضاء مجلسي قيادة الثورة والوزراء يعلمون بها، بتأميم قناة السويس في يوليو من عام 1956م. وعلى إثر ذلك قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بهجوم مشترك على مصر كان ناجحا من ناحية عسكرية ولكنه أخفق اخفاقا كبيرا من الناحية الدبلوماسية. وأعقب ذلك قيام دلاس وزير الخارجية الأمريكية بسحب عرض تمويل بناء السد العالي بذريعة ضعف الاقتصاد المصري. وبعد ذلك قوى عبد الناصر من علاقاته مع المعسكر الشرقي، خاصة الاتحاد السوفيتي، وأعلن عن وحدة كاملة مع سوريا في عام 1958م.
****** ****** ***************
4/ حدث تغيير كبير في حكومة السودان قبل قيام الحرب العالمية الثانية، وظهر ذلك جليا في الروح الجديدة التي بدأ المسؤولون البريطانيون يتناولون مهامهم في إدارة شئون البلاد. وأقبل على السودان موظفون جدد، تم تعيينهم بذات الطريقة التي تم بها تعيين من سبقوهم في عقود ماضية، وقد تخرجوا في ذات الجامعات التي تخرج فيها هؤلاء، غير أن مواقفهم واتجاهاتهم وسلوكهم كانت مختلفة جدا. فقد كان أولئك الموظفون الجدد قد ولدوا في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى، ونشأوا بعد ذلك في سنوات عقد مضطرب، وتلقوا تعليمهم في سنوات الكساد الاقتصادي الذي اكتسح العالم. وبهذا فقد كانوا أصلح للإدارة وأدرى بطرقها ووسائلها ممن سبقوهم. غير أن ما كان ينقصهم هو تلك الثقة الأولمبية (نسبة إلى أوليمبس؟ آلهة الأوليمب) التي كان يتمتع بها من سبقوهم من الفيكتوريين (نسبة للملكة فيكتوريا) في توسيع السيطرة البريطانية لأبعد مناطق ممكنة على هذه البسيطة. لم يعد هؤلاء الرجال الجدد يؤمنون بأن لبريطانيا (العظمى) حق إلهي في احتكار فن إدارة الشعوب الأخرى، وسألوا أنفسهم – ربما لأول مرة – بأي حق غير الانتصار العسكري يحكم البريطانيون السودانيين. وشغل غالب هؤلاء الرجال الجدد وظائف إدارية متدنية الدرجة في البدء، غير أنهم بلغوا بعد عقدين من الزمان مراتب عالية ووظائف مهمة ساهموا من خلالها في مرور السودان بمرحلة انتقالية خالية من المطبات والعقبات وصولا لمرحلة الاستقلال التام. ولعل ليبرالية هؤلاء وقبولهم لـ "الآخر" كان بفعل إداري محنك يكبرهم سنا هو السير دوغلاس نيو بولد، والذي كان قد التحق بالقسم السياسي لحكومة السودان في عام 1920م. وشغل ذلك الرجل منصب السكرتير الإداري في عام 1939م، وهو من قام بوضع الأسس التي بني عليها انتقال السلطة من نظام استعماري سلطوي مستبد إلى نظام ديمقراطي برلماني مستقل، ثم خلفة إداري بريطاني محنك آخر هو السير جيمس روبرتسون، الذي تولي إكمال المهمة لعقد آخر من الزمان.
وصاحب ذلك التغيير في اتجاهات ومواقف وسلوك الحكومة تزايد عدد السودانيين المتعلمين، والذين عبروا عن مشاعرهم (الوطنية) من خلال مؤتمر الخريجين العام. وكانت اتفاقية 1936م بين مصر وبريطانيا قد شملت بندا يتيح لمصر العودة للسودان (يذهب البعض إلى أن اتفاقية 1936م أمنت على اتفاقية الحكم الثنائي في 1899م، وزادت بالنص على "رفاهية السودانيين". وكانت تلك عبارة غامضة أزعجت البعض ولكنها لم تنص على عودة مصر. غير أن الاتفاقية التي نصت على سيادة مصر على السودان كانت هي اتفاقية 1946م المشهورة ببروتوكول صدقي – بيفن، والذي تمت فيه مراجعة اتفاقية 1936م لشرح المقصود بـ "رفاهية السودانيين"، وأنها تعني وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري. المترجم). وكما حدث في عام 1924، لم يستشر السودانيون في تلك العودة. وقد نصدق بأن الشيوخ والزعماء التقليديين لم يكونوا يأبهون لعدم استشارتهم في عام 1924م. غير أن صفوة السودانيين الذين تخرجوا في كلية غردون التذكارية وغيرها كانوا قد أحسوا بالغبن والمرارة من عدم استشارة بريطانيا ومصر لهم في شأن يخص بلادهم. وعبروا عن ذلك بقيام مؤتمر الخريجين العام، والذي نشأ في فبراير من عام 1938م. وظل ذلك المؤتمر منشغلا بالقضايا الاجتماعية والتعليمية حتى زار البلاد رئيس الوزراء المصري علي ماهر في عام 1940م، والذي حاول مع غيره من المصريين على تشجيع المؤتمر بعون مالي ومعنوي لاتخاذ مواقف سياسية مضادة للبريطانيين. وفي عام 1942 قدم مؤتمر الخريجين العام نفسه رسميا بحسبانه متحدثا باسم الوطنية السودانية (المقصود هو المذكرة الشهيرة لمذكرة الخريجين الشهيرة التي احتوت على عدد من المطالب منها حق تقرير المصير للسودان ووقف سياسة المناطق المقفولة..الخ. المترجم).
وأسرعت حكومة السودان برفض هذا المطلب الكاسح. وإلى ذلك التاريخ كانت حكومة السودان تحيط المؤتمر بنوع من الإحسان والرعاية الأبوية paternal benevolence، إلا أنها لم تكن لترحب بالعواقب الدستورية والسياسية لتلك الدعوى والزعم بتمثيل كل السودانيين، في وقت كان البريطانيون يستميتون في قتال الإيطاليين في أثيوبيا والألمان في مصر. وعند رفض الحكومة لمطلب المؤتمر، انقسم على نفسه لفسطاطين: غالبية عظمى من المعتدلين أبدت استعدادها لإحسان الظن بالحكومة، وأقلية متطرفة كان على رأسها إسماعيل الأزهري كانت مدعومة من المصريين، وتنادي بشعار "وحدة وادي النيل". وأفلح الأزهري بفعل قوته وديماغوجيته (غوغائيته/ هتافيته) في ترسيخ دعائم نفوذه في المدن وفي أوساط المتطرفين من المتعلمين. وما أن أتى عام 1943م حتى سيطر الأزهري وجماعته على المؤتمر، وأنشأ "الأشقاء" والذي يعد الحزب السياسي الحقيقي الأول بالسودان. ولما رأى المعتدلون المتطرفين ينشئون لهم حزبا، أقاموا لهم تنظيما مضادا هو حزب الأمة، كان من أهدافه التعاون مع البريطانيين من أجل الحصول على الاستقلال، تحت رعاية السيد عبد الرحمن المهدي، الذي ولد بعد وفاة أبيه.
****** ********* ***********
5/ وضح أن هنالك خلافا كبيرا بين سلطوية المجتمع السوداني التقليدية وبين الديمقراطية الليبرالية التي كانت تدعو لها النخب المتعلمة السودانية المتشبعة بأفكار سياسية غربية، وطرق ثقافية تختلف عن تلك التي كان يتبناها غالب أهل السودان، والذين كانوا يؤمنون بأن لا شأن لهم بالسياسة، وكانوا يفوضون أمرها لزعمائهم التقليديين. ثم ظهرت في المشهد القوى السياسية الجديدة، القوية في ايدلوجيتها، والضعيفة في عددها، وهي تدعو الجماهير لإعادة التوازن بين الحكام والمحكومين. وجاءت تلك الدعوة في وقت كان المجتمع السوداني نفسه في شمال السودان منقسما بين سكانه النيليين (أو من يسمون أنفسهم بـ "أولاد البلد") وغيرهم من الرحل في باقي مناطق السودان (خاصة في غربه). وكان من ثمار ارتباط السكان بواحد من ذَيْنِكَ الفريقين المتصارعين هو بعث الحياة من جديد في التنافس الديني والصراع الثقافي اللَّذَيْن كان الحكم البريطاني الاستعماري قد نجح – مؤقتا – في كبح جماحهما.
ففي جانب كان هنالك السيد عبد الرحمن، زعيم الأنصار، والذي ورث ولاء آلاف الرجال الذين نصروا والده من قبله، وهم على استعداد الآن لنصرته كذلك. كان ذلك السيد يتميز بقدرات وحكمة هائلة، وكان مناصرا للبريطانيين في الحربين العالميتين، وقد كوفئ نظير ذلك بالسلطة والنفوذ. ولمصلحته، سعى الرجل لتسخير سلطته ونفوذه في أيديلوجية حزب الأمة. وكان هنالك في الجانب الآخر السيد علي الميرغني، زعيم طائفة الختمية، المنافسة الكبرى لطائفة الأنصار. وكما بدا أن حظوظ السيد عبد الرحمن قد تعاظمت بين الحربين العالميتين، بدا أن حظوظ منافسه، السيد علي الميرغني قد تناقصت شيئا ما. فقد كان الختمية يؤيدون الإدارة المصرية في القرن التاسع عشر. ولكن نفوذهم قد أزيل بقيام الثورة المهدية. وعادوا للظهور مرة أخرى في سنوات الحكم الاستعماري الباكرة، حين لقوا الدعم والمساعدة من البريطانيين من أجل معاكسة تأثير المهدية. ومع عودة المهدية من جديد، أحس السيد علي بالخطر، فبدأ – رغم ترفعه الشخصي عن السياسة – في تأييد الأزهري ومصر، التي كان له تاريخ طويل في الارتباط بها. وفي ذات الوقت أعلن السيد عبد الرحمن عن رعايته لحزب الأمة، وظل مواصلا للتعاون مع حكومة السودان.
وبذا عمق التطرف العلماني والعاطفي لسياسة القرن العشرين من الانقسامات الدينية والثقافية في أوساط سكان شمال السودان، تلك التي ميزت ماضيهم. وظهر تحالف بين جماعة الأزهري والختمية في عام 1951م حين تشكل الحزب الوطني الاتحادي (تم تكون الحزب الوطني الاتحادي، الذي نشأ وأجيز دستوره وتم التوقيع عليه في اجتماع عقد بمنزل اللواء محمد نجيب، في مساءاليوم الثاني من نوفمبر عام 1952م وكان عبارة عن تجميع لثمان مجموعات اتحادية. المترجم)، وأحيا حزب الأمة شكوكه القديمة وكراهيته العميقة المتجذرة، وأدى كل ذلك لإفساد السياسة السودانية لسنوات قادمة، وللإطاحة في نهاية المطاف بالديمقراطية البرلمانية بالسودان.
****** ********* ************
6/ رغم أن حكومة السودان كانت قد حطمت آمال مؤتمر الخريجين، إلا أنها ظلت واعية ومدركة لمدى قوة انتشار الوطنية في أوساط المتعلمين، فعملت على إنشاء مؤسسات جديدة لربط السودانيين أكثر بما يلزم لعملية الحكم. وكانت أهم تلك المؤسسات هي المجلس الاستشاري لشمال السودان، بقيادة الحاكم العام السير هيربرت هيدليستون، وإشراف السكرتير الإداري دوغلاس نيو بولد، وعضوية 28 من السودانيين. غير أن ذلك المجلس – للأسف- لم يلق الرضا من السودانيين ولا المصريين. فقد رأى المتعلمون السودانيون أن ذلك المجلس هو أشبه بجمعيات المناظرات (debating societies) التي ليس لقراراتها أي أهمية أو إلزام بالتنفيذ. وانتقد المتعلمون السودانيون كذلك اختيار الحكومة لأعضاء المجلس من بين زعماء القبائل التقليديين، من أصحاب الاتجاهات الموالية للإدارة السلطوية، والمعارضة للأفكار الليبرالية التي تتبناها صفوة المتعلمين. كذلك انتقد المتعلمون عدم مناقشة المجلس الاستشاري للأحوال بجنوب البلاد، وكانت تلك هي أول إشارة (في القرن العشرين) لجنوب السودان باعتباره عاملا مسببا للخلاف. أما المصريون، فقد كانوا يرون أن إنشاء البريطانيين للمجلس الاستشاري هو مجرد لعبة ذكية تهدف لاستبعاد المصريين وعزلهم عن حكم السودان.
ولم تكن الحكومة تلقي بالا للأوضاع في جنوب السودان إلا بعد أن تمت السيطرة التامة عليه في نهايات عشرينيات القرن العشرين. وبدأت في إدراك الفروقات الأساس (في الدين والعرق واللغة) بين الشماليين والجنوبيين، وفي تخطيط سياساتها بناء على تلك الفروقات. ولما كانت الحكومة قد اتخذت من "الحكم الذاتي" للأقاليم سياسة لها، فقد كان عليها أن تحافظ على القيم والتقاليد والثقافة المحلية للجنوبيين، والتي كانت مهددة بالاندثار بفعل التواصل والاحتكاك مع جيرانهم الشماليين (المسلمين والمتحدثين باللغة العربية). لذا قرر ماكمايكل في عام 1930 ما عرف بـ "السياسة الجنوبية" التي هدفت لتشجيع "التطور والنمو المحلي" باستبعاد النفوذ العربي المسلم. وظل جنوب السودان منطقة مقفولة أمام الشماليين، مما أسهم بالتدريج في استئصال بقايا آثار الوجود العربي المسلم به. ولم تكن تلك السياسة بدعة جديدة، فقد سبقتها محاولة وينجت باشا لتشجيع إقامة الارساليات التبشيرية للعمل في مجالات التنصير والتعليم والصحة بجنوب السودان، ليس لأنه رجل مسيحي شديد التدين، بل لأن تنصير القبائل الوثنية بالجنوب سيبعدها عن الشمال المسلم، ويشيد في ذات الوقت سدا منيعا ضد انتشار الإسلام في الجنوب، بقي حتى عام 1964م (يمكن مراجعة مقالات "عبود في الوثائق الأمريكية" من ترجمة محمد علي محمد صالح، وفيها معلومات إضافية عن المبشرين في الجنوب، وكذلك كتاب الأب الدكتور ج. فانتيني "تاريخ المسيحية في الممالك النوبية القديمة والسودان الحديث" الخرطوم 1978م. المترجم). غير أن عمل تلك الجمعيات التبشيرية لسنوات طويلة لم يثمر عن خلق "طبقة صفوية متعلمة" بالجنوب. وكان الشماليون يرون في تلك "السياسة الجنوبية" محض مؤامرة ميكافيلية خطط لها البريطانيون لتنفيذ سياسة "فرق تسد". وتزايدت شكوك الشماليين حول نوايا الحكومة في جنوب البلاد، وغدا هذا الأمر هو موضوع الأنس المفضل في حفلات الشاي لدي "أفندية" أم درمان.
****** ************ **************
7. ربما لم تكن الحكومة المصرية لتقبل بالحكم الذاتي للسودان لو لم يتغير النظام السياسي في مصر عقب إنقلاب / ثورة عبد الناصر – نجيب في يوليو من عام 1952م. فقد كان قادة ذلك الإنقلاب أكثر مرونة من حكام مصر السابقين، وأكثر تفهما لتطلعات الشعب السوداني. فمن ناحية، حاول هؤلاء الضباط غاية جهدهم الوصول لتسويات مع البريطانيين في شأن مصير السودان. وحاولوا – من ناحية أخرى - استعادة النفوذ المصري في السودان بطرق شتى، مع تفهم لتطلعات الشعب السوداني الوطنية. وبدا أنهم أفلحوا في عام 1953م في تحقيق أهداف السياستين معا. ففي يوم 12/2/1953م وقعت بريطانيا ومصر اتفاقية منحت حق تقرير المصير للسودان في غضون السنوات الثلاث التالية. ثم أجريت بالسودان انتخابات برلمانية في نوفمبر وديسمبر من ذات العام، رمى فيها المصريون بكل ثقلهم خلف إسماعيل الأزهري (زعيم "تحالف الأشقاء والختمية" المكون للحزب الوطني الاتحادي)، والذي خاض الانتخابات تحت شعار "وحدة وادي النيل". وعارض حزب الأمة (وراعيه إمام الأنصار السيد عبد الرحمن المهدي) ذلك الشعار، بتأييد واسع وشائع (ولكنه شبه صامت) من قبل المسئوليين البريطانيين، وأقاموا حملتهم الانتخابية تحت شعار الاستقلال التام للسودان (أو السودان للسودانيين). وكانت صدمة البريطانيين وحزب الأمة عظيمة حين أعلن عن فوزالحزب الوطني الاتحادي بأغلبية كبيرة في تلك الانتخابات.
وفسر المصريون والبريطانيون وكثير من السودانيين ذلك النصر على أنه تفويض لأزهري ليؤسس لنوع من الارتباط بين مصر والسودان. وثبت فيما بعد أن ذلك كان تفسيرا خاطئا ومبالغا فيه. فقد صوت السودانيون للحزب الوطنى الاتحادي كتعبيرعن رفضهم للاستعمار البريطاني وليس من أجل الوحدة مع مصر. ولم يكسب حزب الأمة تلك الانتخابات لتعاونه في سنوات مضت مع البريطانيين في "الجمعية التشريعية"، مما جعل كثير من السودانيين ينظرون لذلك الحزب بإعتباره محض "أداة" في أيدي الإدارة البريطانية. وكان بعض السودانيين يتخوفون أيضا من "طِمَاح" السيد عبد الرحمن في استعادة حكم والده للسودان. وتبين لأزهري، ذلك السياسي الداهية، أن قطاعات واسعة من السودانيين (من رجال قبائل ومثقفين كذلك) يريدون الاستقلال عن بريطانيا، ولكنهم لا يرغبون الاتحاد مع مصر كذلك.
وزار محمد نجيب السودان في مارس من عام 1954م، حيث استقبل بمظاهرات عارمة قتل فيها عدد من المتظاهرين ومن الشرطة أيضا. وعلى خلفية تلك الأحداث انتشرت شائعات عن محاولات مصرية لرشوة الساسة السودانيين وشراء تأييدهم. وعزز من تلك الشائعات السلوك السخيف لبعض القادة المصريين عند زيارتهم للسودان. وفوق كل هذا وذاك، فإن السودانيين، وقد اكتشفوا أنهم سادة أمرهم، لم يكن ليسلموا أمرهم إلى مصر. فقام إسماعيل الأزهري بالتخلي عن وعد حملته الانتخابية التي كانت تروج للوحدة مع مصر، وأعلن أن السودان دولة مستقلة في الأول من يناير عام 1956م. وبدا أن "ليبرالية" الحاضر قد انتصرت على "سلطوية/ تقليدية" الماضي.
alibadreldin@hotmail.com