صراعات “الإسلاميين” •• الوطن خارج الحسابات

 


 

 


khalidtigani@gmail.com


ليست القضية إن كانت ما أعلنت عنه السلطات فجر الخميس الماضي، "محاولة تخريبية" مكتملة الأركان حسب الوصف الرسمي للحدث، أم مجرد "جنين تدبير إنقلابي" في أطواره الأولى أو خطوة "تحفظ احترازي" اقتضاها التحسب لمكنونات الهواجس والظنون من قبيل "إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه" بعد الذي جرى أخيراً في مؤتمر "الإسلاميين الحاكمين"، نحو ما أوحت به للمعلقين التصريحات المتناقضة للمسؤولين في الحكومة وحزبها وبرلمانها الذين لا يعرف لهم أحداً عدداً ولا صفة حتى قيادتهم العاجزة عن كبح جماحهم بعدما أعياها التَّبَرُّم من هذا السلوك السياسي الشاذ المنفلت العِيار الدالِّ على حجم الفوضى والتخبط والتفكك الذي أصاب أوصال السلطة الحاكمة.
والسؤال الذي يبقى بلا إجابة لماذا كل هذه "الفرقعة" الإعلامية في إعلان الحدث على نحو درامي لم تفلح معه لاحقاً محاولات التخفيف الرسمية من حجمه، وذلك السيل من الشائعات والبلبلة في تحديد شخصيات المتهمين بالتَّحرُّك تورَّط فيها متحدِّثون بإيعاز من جهات رسمية؟.
ليس مهماً التوصيف الفني لواقعة توقيف "عسكريين وأمنيين"، ولكن كم بدا لي غريباً الاجتهاد المحموم الذي يبذله المتحدثون باسم الحكومة من كل حدب وصوب للتأكيد بأن "الحادثة" حقيقية لا مِرَاءَ في ذلك، وبدت السلطات مغضبة من أولئك الذين يحاولون التشكيك فيها ووصمها بأنها مؤامرة مدعاة أو تمثيلية سيئة الإخراج ومحاولة لتصفية الحسابات الداخلية بين التيارات المتصارعة داخل "الطبقة الحاكمة" لتهيئة المسرح لحسم معركة خِلافة الرئيس المفتوحة منذ أمدٍ ليس قليل.
حسن سنأخذ، لغرض تحليل وقائع ما جرى وقراءة تبعاته وتداعياته المستقبلية، بالرواية الرسمية بأن "المحاولة التخريبية" حقيقة كاملة الدسم مكتملة الأركان أجهضت بين يدي ساعة الصفر حين أوشكت، مع أن ذلك يثير تساؤلاً حول إصرار الرواية الرسمية على تأكيد أن المعتقلين ثلاثة عشر عنصراً فقط وأن لا امتدادات للمجموعة داخل المؤسسة العسكرية أو الأجهزة الأمنية، فكيف يتسنَّى لهذا العدد الضئيل مهما بلغت كفاءته في تنفيذ مخطط واسع، الذي أكدت السلطات أن له اتصالات أجنبية وشركاء من المعارضة السياسية، وكذلك المسلحة؟. اللهم إلا إذا أرادت السلطات الاكتفاء بتوقيف الرؤوس المعلومة حتى لا يبدو الفتق في الجسم العسكري "الإنقاذي" أكبر على جهود الرتق مستقبلاً.
ما هو مهم حقاً في كل ما جرى خلال الأيام الفائتة هو الدلالة السياسية للحدث، وليست الوقائع الفنية لمجرياته، أو من فعل ماذا، التي يجتهد المتحدثون الرسميون في رصدها وتتبعها ومحاولة إقناع الرأي العام المتشكِّك بصدقية الرواية الحكومية. ما بدا غريباً في كلِّ هذا المشهد المثير حقاً الاجتهاد الحثيث للسلطات لـ"تجريم" الموقوفين وتأكيد ثبوت "الجريمة" حتى قبل الوقوف بين قضاء نزيه، يتضح ذلك مما تسرب من اللقاء المفترض- أنه سريّ- الذي جمع مسؤولين كبار مع حشد من مقاتلي "الدفاع الشعبي" بقصد تهدئة خواطرهم بعد الصدمة الكبيرة التي أحدثها اعتقال "رموز" عسكرية ذات مكانة رفيعة وسمعة عالية وسط "المجاهدين".
ما جرى "ليلة الخميس" حدث زلزالي له توابعه بكل تأكيد، فالمتهمون بـ"المحاولة التخريبية" ليسوا من سابلة "المعارضة" المدنية أو المسلحة، الذين لا يتوقع أحد أن يثير اعتقالهم أو اتهامهم الاستغراب باعتبار أن ذلك قد يكون طبيعياً أو متوقعاً أن يأتيَّ من خصومٍ تقليديِّين للنظام لا يخفون هدفَهم تغيير النظام سلمياً، أو عسكرياً نحو ما تصرح به علانية بعض أطراف المعارضة المسلحة، المتهمون هذه المرة نجوم معروفة في أوساط النظام من "نخبة العسكريين" أصحاب الولاء الصارم، من الدائرة الداخلية الضيقة في قاعدة سلطته ومَكْمَن نفوذه الحقيقي.
ولذلك كان مجرد الإعلان عن اتهامهم واعتقالهم مفاجأة تامَّة غير متوقَّعة ومصدر صدمة غير مسبوقة للجميع، للمعارضين قبل أنصار النظام، وللمراقبين أكثر من غلاة مؤيديه. لم يكن حتى أكثر الناس تشاوماً حيال مستقبل السلطة الراهنة يتوقع أن تتطوَّر الأمورُ في داخله بين أجنحته المتصارعة بهذه السرعة، حتى قبل أنْ يجفَّ المدادُ الذي سكب حول تداعيات مخرجات مؤتمر "الحركة الإسلامية الحاكمة".
كان السؤال البدهي الذي يتوقع أي شخص أن تنشغل به "الطبقة الحاكمة" وأن يصبح شغلها الشاغل، ليس كيف حدث الذي حدث، ولكن لماذا حدث أصلاً، ومِنْ مَنْ؟ من هذه النخبة العسكرية الشديدة الولاء للنظام التي طالما أقالت عثراته، وطالما كانت مستعدة لدفع الأرواح من أجل بقاء النظام؟ كيف لهذه "النخبة" التي كانت حتى قبل أشهر قليلة مضت الطليعة التي تصدت لاسترداد كرامة السلطة الحاكمة بعد السقوط الشنيع في "هجليج"، تتحوَّل في غضون فترة وجيزة إلى قوة ساعية إلى إسقاط النظام؟ الشعار والهدف الذي يسعى إليه ألدّ خصومهم؟.
كان هذا التطور البالغ الخطورة مناسبة لأن تتعلم "الطبقة الحاكمة" شيئاً، ولكن من قال إن آل بوربون الجدد مستعدون لأن ينسوا شيئاً أو يتعلموا شيئاً، لقد طفق المتحدثون الكثر باسم السلطة يحاولون بتصريحات هيسترية التقليل من شأن هذا الحدث الخطير على النظام قبل أن يكون كارثياً على البلاد، ويحاولون عبثاً التأكيد على عدم تأثيره على وحدة حزبهم وهم يعلمون قبل غيرهم أنها أضحت شيئاً من الماضي، وأن تياراته المتصارعة والمتسابقة على وراثة الحكم أكثر من أن تُعَدَّ حتى قبل أن تزيدَ وقائعُ مؤتمرِ "الحركة الإسلامية الحاكمة" فواجعَ البعضِ، وأتت واقعة "المحاولة التَّخريبية" المتهم بها خواص أهل البيت لتزيد الطينَ بِلةً.
وسعى البعض بسطحية للمقارنة بين انشقاق "التُّرابي- البشير"، وقدرة "الطبقة الحاكمة على تجاوزه، وبين الواقعة الأخيرة زاعماً أن ستمر مر السحاب، ونسوا أن الزمان غير الزمان وأن الجسد المُثْخَنَ بالجراح لا يقوى على الصمود أمام التنازعِ الزاحفِ على الروح، لقد كان ذلك صراعاً فوقياً بين الكبار يحتمل الحسم دون أضرار بالغة، أما الصراع هذه المرة فهو في سويداء القلب، كان ذلك انقساماً سياسياً، أمَّا هذه المرة فيحمل بذرةَ انقسامٍ عسكريٍّ في صلب القوة الدافعة، والله وحده يعلم إلى أين ينتهي، خاصة وأنه ليس محصوراً في القاعدة بل هو انعكاسٌ لتشرذمٍ وشروخٍ عميقةٍ بين القادة المتنافسين.
بيد أن أخطر ما أَسْفَرَ عنه الصِّراع الجديد أنه نَزَعَ آخرَ "ورقة التوت" عن المشروعية الدينية التي يتستَّر بها المشروع السياسي لـ"الطبقة الحاكمة"، والأمر هنا لا يتعلق بالزعم أن المعتقلين من العسكريين بكل رمزيتهم الطاغية عند جماعاتٍ من "المجاهدين" همُ المانحونَ حصرياً لـ"المشروعيةِ الجهاديةِ" للسلطة الحاكمة، ولكن بصعوبة استخدام "الكرت الديني" في مواجهة "المجاهدين الإنقلابيين" أو اتهامهم بأنهم يريدون إسقاط النظام لأنهم ضد "الدولة الإسلامية" أو ضد "تطبيق أحكام الشريعة"، نحو التُّهم التي يوجهها قادة الحكم عادة في مواجهة المعارضين.
فالصراع هنا في الملعب ذاته باسم "الإسلام" فمن يستطيع الزعم أنه يحتكر راية الدين دون غيره، ومن هنا تظهر إشكالية المأزق الحالي أمام السلطة الحاكمة، فضلاً عن أن ذلك يثير سؤالاً محورياً في ظل هذا الانشقاق الجديد في جسم دعاة "المشروع الإسلامي" المنقسم على نفسه أصلاً وبين أطرافه المتخاصمة ما صنع الحداد، فإذا كان هذا المشروع عاجزاً عن المحافظة حتى على وحدة المنادين به، وغير قادر على استيعاب خلافات المقتنعين به عقدياً وفكرياً، فكيف يكون مشروعاً صالحاً لإدارة بلدٍ بكل تنوع مكوناته المتعدِّدة سياسياً وعرقياً، وثقافياً، ودينياً؟. ولذلك فإن تبعات "المحاولة التخريبية" هي أكبر من مجرد تحرك عسكري لانتزاع السلطة، حتى وإن لم تنجح، فقد أفلحت في ما هو أخطر من ذلك كشف غطاء "المشروعية الإسلامية" للنظام ليس من قبل خصومه، ولكن من قبل أخلص خلصائه ومن نخبة كانت محل مكانة وتقدير حتى وقت قريب، ولا سبيل للتَّقوُّلِ عليها.
وثمة دلالة أخرى بالغة الأهميَّة على أن هذا "التَّحرُّك" المجهض، التي تصر السلطات على تأكيد حدوثه، ينعي آخر محاولات الإصلاح التي حاولت أطرافٌ كثيرةٌ في أوساط الحزب الحاكم حثَّ قادتِه على إجرائها على مدار العامين الأخيرين على الأقل منذ انْدِلاعِ ثورات الربيع العربي، ودعوات الإصلاح هذه المتعدِّدة وإن كانت غير واضحة المعالم، أو مقتصرة على إدخال تحسينات محدودة على الوضع القائم، ولم تكن لها أية نِيَّة أو عزم لتغييره، لم تجد أدنى استجابة لها، بل تهديد بقمعها، أو عرقلتها بعدما خرج المؤتمر الأخير خالي الوفاض من أيِّ ملمحٍ للإصلاح، بل تكريس للوضع المأزوم كان سبباً في تقدير الكثيرين لتوقع أن تجد دعوات الإصلاح سبلاً أخرى للتعبير عن نفسها بما في ذلك وسيلة "الإنقلاب".
ثم ماذا بعد، إلى متى يظل السودان مُرْتَهَناً لصراعات الإسلاميين، ولماذا يتعين على السودانيين أن يبقوا متفرجين عبثاً  في انتظار أن يتفق "الإسلاميون"، ولماذا تحتكر أجندة الوطن لصالح أجندة المتصارعين على السلطة، بالطبع جزء من هذا يعود إلى بؤس حال المعارضة التي تنتظر أن يَتَبَرَّعَ لها بالتغيير أحدٌ من داخل كواليس السلطة القائمة.
لقد كان في واقعة "المحاولة التَّخريبِيَّة" صدمة كافية، وفرصة لعبرة لا تعوَّض عسى أن تفيق الطبقة الحاكمة من غفوتها الطويلة على "سحر السلطة"، ولكن للأسف ثبت مرة أخرى ألاَّ أحد هناك مستعد لأن يعي عواقبَ هذا الدرس القاسي، لقد حصل هذا النظام على ما لم يحصل عليه غيره من فرصٍ لا حدودَ لها لإصلاحِ نفسهِ من عثراته الكثيرة، وإعطاء فرصةٍ جديدة لإصلاح حال البلاد والعباد. ولكن يظهر في كل مرة براعة عجيبة في تبديد كل سانحة لتغيير سلمي.
وأعجب ردود الفعل تلك التي خرج بها القطاع السياسي لحزب المؤتمر الوطني التي يرفض فيها التغيير بـ"انقلاب عسكري"، ويزعم أن صندوق الانتخابات هو السبيل الوحيد للتغيير، وكأنه جاء إلى السلطة ولبث فيها ربع قرن محمولاً على أعناق الجماهير. لم يكن الحزب يحتاج لوضع نفسه موضع سخرية وهو وليد انقلاب عسكري، إذ ما الذي يجعل انقلاب 1989 حلالا، وأي انقلاب بعده حراماً، والغريب أن يُقال ذلك في مواجهة بعض أطراف ذلك الانقلاب متهمين بتدبير التحرك الأخير.
إن كان هذا موقف جديد أدرك معه الحزب الحاكم مساوئ الانقلابات العسكرية وأنه يريد تجنيب البلاد شرورها، فالأفضل أن يعظ نفسه أولاً إن كان يريد التوبة حقاً، وللتوبة شروط هو الإقرار بالذنب، ثم الإقلاع عنه، وأهم شروطه رد الحقوق إلى أهلها، أما إلقاء القول على عواهنه دون أي استعداد لتحمل مسؤولية ما ينهي عنه غيره، فلا يعدو أن يكون نوعاً من اللغو والهذر. ثم من قال إن من يريد تنفيذ انقلاب يأخذ الإذن ممن يريد الإنقلاب عليه حتى يلقي الحزب الحاكم هذه الموعظة بدلاً من أن ينصرف إلى مواجهة الحقيقة واستحقاقات الأحندة الوطنية.
في لقائه مع الجالية السودانية بالرياض عقب العملية الجراحية التي أجريت له، قال الرئيس عمر البشير، واسأل الله له شفاءً لا يغادر سقماً، إن المُكوثَ الطويلَ في الحكم أنتج مظالمَ وضيَّع حقوقاً على مواطنين رفعوا أكف الضراعة شكوى لله مما لقوه، ودعا البشير أن يكون مرضه كفارة لذلك. لقد كان ذلك اعترافاً نادراً من الرئيس في لحظة صدق لا شكَّ أنها أعقبت وقفة مع الذات في حالة صفاء إنسانية بعيداً عن كل بهرج السلطة.
لقد كان ذلك التقييم لحقبة الإنقاذ أبلغ من كل ما يدبِّجه المتمسحون بالسلطة وهم يحاولون عبثاً تنزيهها من أخطاء وخطايا وجرائم كارثية ارتكبت في حق الوطن والمواطن. ولا أحد يستطيع الزعم أن هناك مثلبة أكثر فظاعة من الظلم الذي حرمه المولى عزَّ وجلَّ على نفسه، وحذَّر من اقترافه، فكيف يقدم بعدها أحد على الظلم باسم الله. ويدرك الرئيس البشير بالطبع أن كفارة ما أقرَّ به من وقوع ظلم هو ردُّ الحقوق إلى أهلها، فالمرض لا يقع لذنب اقترفه المرء.
وأول حق يعاد هو أن يرد للشعب السوداني أمانته فيقرر بإراداته الحرة من يحكمه، وان تنتهي الوصاية عليه. وهو أمر لا يمكن أن يحدث في ظل طرح المؤتمر الوطني الآن للقوى السياسية لمشاركته كتابة الدستور ثم انتظار انتخابات العام 2015، وأحوال البلاد الراهنة لن تنتظر حتى ذلك الوقت.
والمعارضون مُحِقُّون في عدم ثقتهم في دعوة الحزب الحاكم، إذ كيف يثقون به وهم يرون الطبقة الحاكمة ترفض بشدَّة التنازل عن احتكارها المطلق للسلطة حتى لمن هم شركاء أصيلون في الحزب الحاكم أو في حركته الإسلامية، ويرفضون أيَّةَ دعوة للإصلاح مهما كانت محدودة حتى اضطروا البعض للبحث عن وسائل أخرى للتغيير. فهل يعقل بعد هذا أن يتوقع المعارضون أن تسمح لهم الطبقة الحاكمة بتبادل سلمي للسلطة تحرم منها حتى أصحاب حق مثلهم؟.
لم تعد أزمات السودان المتطاولة والمتفاقمة تملك ترف حدوث مغامرات غير محسوبة العواقب، وآن الأوان أن تكف الطبقة الحاكمة عن عنادها والإصرار على أن تصم الآذان عن مطالب التغيير التي باتت تسمع من به صمم، لقد فات الأوان حتى على دعوات الإصلاح الخجولة، لم يعد ممكناً أن تحتكر السلطة القائمة تحديد قواعد اللعبة لتضمن السيطرة عليها باسم كتابة الدستور، الحل السلمي الوحيد الممكن الذي يقي البلاد شرور المزيد من التشرذم والوقوع في براثن الفوضى والمزيد من الحروب الاهلية أن يجلس كل الشركاء في الوطن على مائدة واحدة بلا وصاية من أحد للتواثق على عقد اجتماعي وسياسي جديد يقيم نظاماً ديمقراطياً حقيقياً تمهّد له فترة انتقالية مُتَّفق عليها. ذلك أو الطوفان.

عن صحيفة "إيلاف" السودانية
الاربعاء 28 نوفمبر 2012

 

آراء