صرخة صمت على زهور الأماني الذابلة في حضن الوطن

 


 

 

(وا معتصماه)..
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر

تغمره أمواج الحنين وتعانقه حبال الصبر، عاش الوطن حربا ضروسا, اندلعت فيها نيران المدافع، واشتعل أزير الرصاص بين الأزقة والحارات. فعمت الظلمة، وضاع الحق في متاهات الظلم والاستبداد. في تلك الأوقات العصيبة نتذكر القرية الصغيرة، حيث تتلاقى زهور الحقول مع أنغام الطبيعة الساحرة. كان هناك شاب شجاع ذو عزم وطموح لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلا. في يوم مشمس، اتجه إلى مزرعته المتواضعة، وفي قلبه طموحات كبيرة وثقة لا تلين. مكث هناك حتى مغيب الشمس، وعندما قفل عائدا إلى القرية، لم يدرك ما ينتظره في الطريق. فبينما كان يسير بخطوات ثابتة وثقة بالنفس، فاجأه منظرٌ مرعب، في وسط الطريق يرقد أسد كبير، حالته توحي بممارسة سلوك عدواني على المارة. لكنه استعاد هدوءه، وهم بالرجوع إلى الخلف، إلا أنه تفاجأ بعمته (والدة الزوجة) من خلفه. هنا انتابته سكرة من الشجاعة توجهه بثقة نحو الأسد، وثقته العمياء دفعته ليمتطي الأسد. لكن يبدو أن الحظ كان يبتسم له، كانت الوحش على الارجح شبعانا ولم تكن لديه أي رغبة في المواجهة. فقط ارتضى أن يكون مطيعاً لبضعة ساعات.

في عتمة الغروب الساكنة، وتحت ظلال الأفكار المتناحرة، استغل الشاب الفرصة النادرة، وركب الأسد بثقة وشجاعة، وعندما عاد إلى قريته، استقبلته أصوات الزغاريد والتهاني، وانتشرت قصة شجاعته في كل ركن من أركان القرية. ومع بزوغ فجر جديد، لمح الشاب الأسد مربوطاً في المنزل، فاستغرب وقال بدهشة: "عمتى الأسد ده الجابو منو ولشنو؟" ردت عمته بابتسامتها المعهودة التي لا تخلو من سخرية العمات، قائلة: يا وليدي أنت الجبت الأسد وكمان راكب فوقه؟" فصرخ الشاب بأعلى صوته، (واي واي) ، وعندما رجع له عقله بعد أن تبللت ملابسه، عمتي عليك الله استريني، قالت ليهو يا وليدي انت السترة فتّها، لكن اعقل (وخت الرحمان في قلبك) ..
وما اشبه الليلة بالبارحة، الجنجويد بدخولهم الجزيرة قالوا (واي) و ترددت أصداء صرخات السودانيين في أذهان القاصي والداني الكل قال( واي) من شدة مرارة الحرب وتداعياتها من مولود هو ثمرة زواج غير شرعي. فهل السترة فاتت وبقيت العقلانية أم الاثنين ذهبا معاً؟؟

وسط الصخب والضجيج، وعندما صرخ اهلنا في دارفور (واي) كان الأغلبية نياما لكن اليوم أرتفع صوت الأحزاب والجماعات "واي". وأهلنا في القرى بصوت واحد قالوا "واي"، وأولادنا المغتربون واهلنا النازحون قالوا "واي". فالسؤال وسط هذا الصراخ هل تيقّن الشعب فعلاً أن الوطن هو بستان شاسع؟ تتشكل لوحته بتنوعها وغناها؟ حيث تلتقي الأعراق والأديان والثقافات، في لوحة فنية فريدة تتداخل فيها الألوان لتخلق تناغماً ساحراً، فلولا الهزات الأرضية والتصدعات، لبقيت الأرض كتلة واحدة، ولم نشهد أبداً تلك المغازلة الرومانسية بين مياه النيل الجارية وأرض الجزيرة الخضراء، تلون الأرض بألوان الحياة وسحر الجمال. ان ثبات رسم خطوط القلب على خط مستقيم دليل على الوفاة، فالثبات ليس دائماً هو السرّ الحقيقي للحياة، بل الحياة تحتاج إلى تعرجات وانحرافات لتظهر جمالها الحقيقي، دعونا نرسم خطوط قلوبنا بأناقة وتفاؤل، ونتقبل اختلافاتنا فهي مفتاح مهم لاكتشاف الجمال الحقيقي للحياة، حيث تنسجم الألوان وتتلاقى الأشكال لتخلق لوحة فنية مذهلة من تناغم الوجود، لوحة يرسمها لنا التنوع الثقافي والجغرافي واختلاف السحنات، لتروي قصة حضارة عريقة، تمثل رمزاً للوحدة الوطنية والتضامن بين شتى الثقافات. وهكذا، تتجسد الروعة في سحر الخيال وطني السودان.

على لسان عمتنا، تتفتح نوافذ التفكير العميقة لمواجهة التحديات وإدارة الأزمات. تتساءل عن دور العقلانية والتعقل في مواجهة تهديدات الحرب والصراعات، مقارنة بدور العنف والرصاص في تشكيل مصائر الناس. في الجانب المظلم من تاريخ الحروب في السودان، ينبعث الألم والحزن من رصاص الغدر الذي سفك دماء الأبرياء وسرق أرواح الضعفاء. لكن في وسط هذا الظلام، يظل الأمل متجذراً في أرواح الأحرار. حيث بمقدور العزيمة الصلبة والإرادة القوية احداث التغيير، وبناء السلام. أن الخائن - كما علمتنا الحياة - يكون أكثر فتكاً من الرصاص، حيث يستخدم قوة الكلمات لتحريك المشاعر وتغيير مجرى الحياة ، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويضعف جهود بناء السلام. في نهاية المطاف، تتساءل الأرواح المتلهفة للتغيير، هل نحن نحمل الفكر الذي يشجع للسلام، أم نحمل سلاحاً للدمار والخراب؟

عندما تشتد الصراعات وتتصاعد أصوات الحروب، يتساءل الكل كيف ومتى سينتهي هذا الجحيم؟ ومتى ستعود الحياة إلى مسارها الطبيعي.؟! بعد أن جربنا كل أصناف الحروب والدمار، وعشنا في أحضان الأزمات، هل تلوح في الأفق لحظة صفاء ترسم الحياة بألوان الأمل والسلام.؟!
تتناوب الأيام وتتبدل المشاهد، من دماء وأشلاء وآثار عميقة خلفتها الحروب على المجتمعات والأفراد. ينبغي علينا الاستفادة من التجارب السابقة واستخلاص الدروس التي تعزز قدرتنا على مواجهة التحديات بحكمة واقتدار. تنشأ مراصد التنبؤ في عقولنا، تهمس لنا بالأخطار المحتملة والتحديات المرتقبة، مدعومة بالتجارب الشخصية والجماعية وذاكرة المأساة والصعوبات. نستلهم التجارب لنعرف العواقب المحتملة لقراراتنا وأفعالنا. فالوطن ليس حدودا جغرافية موحاة من السماء، بل صنعة بشرية، يلتقي فيها الجميع على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات. فلا لون ولا قبيلة ولا دين يميز بين الناس، فالكل سواسية في الحقوق والواجبات لا لونك ولا قبيلتك ولا دينك ولا شكلك ولا إقليمك يجعلك أفضل من غيرك هيّا بنا لبناء الدولة القيمية التي تقوم على ثلاث ركائز أساسية( القيم الإنسانية وكرام الإنسانية وحقوق الإنسان) كما قال شاعرنا الراحل المقيم محجوب شريف "وطن بالفيهو نتساوى
نحلم نقرأ نداوى
مساكن كهربا وموية، تحتنا الظلمة تتهاوى
وتطلع شمس مبهورة بخط الشعب ممهورة."

في غفوة الليل الهاجع، ترتسم لوحة فنية من الأمل والتسامح، تتداخل فيها ألوان السلام وأنغام الخير. في أحضان العشر الأواخر من رمضان، لا تبحثوا عن أشجار تسجد أو أنوار تملأ الأفق بضيائها. بل ابحثوا عن الخير في دفء وطن محتاج للسلام، وفي لمسة أب حنون، وفي نظرة أخ أو اخت تبتسم بفرح صادق، وفي حضن أم تمنحكم الأمان والطمأنينة. ابحثوا عن السلام في بساطة الحياة، وفي عيون الأطفال البريئة الخائفة من صوت الدانات، وفي قلب كل نازح متلهف يترقب الفرج والرحمة، وفي كل نفس تتوسد الصبر وتتغلب على تحديات الحياة. تجولوا في أروقة السياسة وابحثوا عن السلام بقلوب مفتوحة وأيد ممدودة. فالبحث عن السلام ليس مجرد كلمة تقال، بل رحلة شاقة من العمل والعطاء.
رحلة تحمل في طياتها معاني الحب والتآخي، وتسهم في بناء مجتمع يسوده التعاون والأخاء، وينعم فيه الجميع بالسعادة والرفاه .

abudafair@hotmail.com

 

آراء