صفقة نخب .. (الانتخابات مقابل الاستفتاء) …. بقلم: خالد التيجاني النور

 


 

 

tigani60@hotmail.com

 

لا شيء يثير حيرة، بل والتوجس كذلك، عند الرأي العام السوداني أكثر من حالة الحكمة التي هبطت فجأة على شريكي السلطة والثروة، أو ما يعرف باتفاقية نيفاشا، حتى بلغ الامر عند قادة الطرفين تسجيل اعتراف نادر بأن مشاكساتهما العبثية أثارت فزع المواطنين ونشرت أجواءً من التشاؤم بسبب

أن الطرفين المستأمنين على قيادة البلاد إلى بر الأمان هما من يقودانها  بصراعهما فعلاً إلى حافة الهاوية وإلى مستقبل مجهول.

 

وخروج قادة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إلى العلن بمبادرة لوقف التوتر بينهما، وإقرارهما بالتأثيرات السلبية لسلسلة للتوترات بينهما التي كرَّت مسبحتها على نحو غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وإعلانهما العودة للحوار المسؤول والجاد لحل خلافاتهما أمر يستوجب الترحيب به وتقديم كل الدعم المطلوب للطرفين لتتحول هذه المبادرة المطلوبة بشدة فضلاً عن الحاجة الوطنية الماسة لها، من خانة مجرد إبداء النيات الحسنة إلى فعل سياسي راشد يجنب السودان وأهله ويلات الإنزلاق لما هو أسوأة، وقديماً قالت العرب الحرب أولها كلام. ومعظم النار من مستصغر الشرر، والذين يستبعدون عودة الحرب الأهلية للبلاد عليهم مراجعة المعطيات التي يبنون

عليها هذه الظن إذا استمرت حالة الفراغ القيادي بعيد النظر والراشد والمسؤول القادر على تجنيب البلاد هذا المصير المشئوم.

.

ومع الترحيب الواجب بنية الشريكين المعلنة إصلاح حال علاقاتهما المتوترة بالعودة إلى الحوار لحلحلة خلافاتهما العالقة، إلا أن الحذر واجب في التعاطي مع هذا التطور المفاجئ، ويجب أن يقرأ في إطاره الموضوعي حتى لا يفاجأ الرأي العام بانتكاسة أخرى خاصة وأن البلاد لا تملك ترف الوقت لهذه المناورات الحزبية الضيقة وقد أزف موعد الاستحقاقات المصيرية المماثلة أكثر أهمية في اتفاقية السلام، ويعزز هذا التوجس رصيد طويل من الاتفاقات المماثلة التي لم يحترمها هذا الطرف أو ذاك لسبب أو لآخر.

 

ولعل إدراك الشريكين لرصيد الثقة المتداعي في أوساط الرأي العام في التزامهما باتفاقاتهما حاولا إرسال إشارة تفيد ان الأمر هذه المرة مختلف حيث عهدا إلى ممن يعدون في جناح الصقور من الطرفين بمهمة الإعلان عن الاتفاق الجديد، ومع ذلك لم يسلم هذا التطور من إنذار مبكر باحتمال تعثره حيث بادرت الحركة الشعبية من خلال مؤتمر صحافي عقدته بعد

الإعلان عن المبادرة الجديدة إلى الاحتفاظ بخط رجعة حين أعلنت ما يشبه الإنذار بأن الاتفاق الجديد رهين بحلحلة الخلافات العالقة في غضون ثمانية وأربعين ساعة، معتبرة أن عودتها إلى استئناف نشاطها البرلماني تنتظر الاتفاق على الموضوعات محل الخلاف المتعلقة بمشروعات قوانين الاستفتاء، والمشورة الشعبية، وقانون الأمن الوطني، والقضايا الخلافية الأخرى.

 

ومهما يكن من أمر فإن مجرد إبداء النية لنزع فتيل التوتر الحاد بينهما الذي طغى على الساحة السياسية وأصبحت تداعياته تمثل خطراً حقيقياً على

المضي قدماً في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وأكثر من ذلك على تحمل مخاطر جمَّة على الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، مجرد إبداء النية لتجاوز هذا الوضع لن يكون كافياً ما لم يتحل الطرفان بالمسؤولية الكاملة والشفافية في إدارة الاستحقاقات المصيرية المتبقية في اتفاقية السلام، لأن من شأن عدم التعاطي بوضوح مع هذه المرحلة الحساسة أن يؤدي إلى خلق المزيد من أسباب التوتر المفضية إلى تعقيد أوضاع معقدة أصلاً.

 

ويحتاج المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إلى قيادة واعية وشجاعة وشفافة لإدارة هذا الوضع، وفي الواقع فإن الأجندة الخفية غير المصرح بها علناً تبقى هي السبب الاساس وراء حمى التوتر والنزاع المُسْتَعِرِ بين الطرفين،

ولذلك لم يكن المتحدثون باسم الطرفين موفقين عند إعلان المبادرة الجديدة بمحاولتهما إلقاء اللوم على الإعلام في التصعيد الحاصل، صحيح أن مسؤولية الإعلام السوداني، على وجه الخصوص، في هذه المرحلة الحاسمة حساسة ودقيقة للغاية وهو ما يتطلَّب أن يتسلَّح بوعي كبير وإدراك عميق

لما يجب عليه القيام به للمساعدة في قيادة البلاد إلى بر الأمان، ولكن يخطئ المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حين يعتقدان أن الإعلام قادر على القيام بدور بنَّاء وإيجابي في حين يفشل المسؤولون من الطرفين على تقديم نموذج المسؤولية المطلوب، وحين يحاولان استخدام وسائل الإعلام التابعة لكل طرف في حشد التأييد الأعمى لمواقفهما المتصلِّبة والمحفِّزة على التوتر، وإذا أراد الطرفان حقاً دوراً إيجابياً مسؤولاً للإعلام فينبغي عليهما أن يكفا عن ذلك، فضلاً عن ضرورة الإلتزام باتفاقاتهما، وهذا أيضاً لا يعفي وسائل الإعلام المختلفة ألا تتحول إلى مطية سهلة ومجرد أبواق لصراعات السياسيين في وقت مطلوب منها أن تكون معبراً حقيقياً عن ضمير الأمة وعن الأجندة الوطنية، وليس مجرد معبر لطموحات السياسيين وأجندتهم الحزبية الضيقة

.

ولعل السؤال الذي يدور بخلد الكثيرين ما الذي طرأ وجعل الشريكين وبدون مقدمات منطقية، وقد ظلا حتى اللحظة الأخيرة يتبادلان الاتهامات المدمرة للعملية السلمية، يعلنان فجأة عودة الوعي إلى خطابهما السياسي ويعربان عن اعتزامها وقف حملاتهما المتبادلة والعودة إلى الحوار الهادئ، بل ويريان في ذلك سبيلاً واسعاً لحلحلة القضايا العالقة؟. يبدو الأمر وكأنه إعادة اكتشاف للعجلة، ولكن من المهم أن يطلع الطرفان الرأي العام على المبررات الموضوعية والمعطيات التي قادت إلى هذا تطور لئلا يظن أنها ليست سوى اتفاق عابر، وليس تغييرا حقيقياً في السلوك السياسي، على غرار ما شهدت به محاولاتهما السابقة في هذا المضمار، لأن من شأن ذلك أن يبعث طمأنينة مفتقدة في أوساط المواطنين السودانيين بشأن مستقبل البلاد واستقرارها، فمما لا شك فيه أن المبادرة الجديدة حملت بعض الأمل لكنها لم تبدد تماماً تلك الشكوك التي تساور المواطنين، وترسخت في أذهانهم بفعل الممارسة السياسية غير الراشدة التي حفلت بها علاقات الطرفين في السنوات الماضية من عمر شراكتهما السياسية.

 

وثمة احتمالات عديدة عند قراءة الأسباب التي دعت الشريكين إلى هذه

التوبة السياسية، وأحد هذه الاحتمالات هي أن من تبقى من عقلاء المؤتمر الوطني والحركة الشعبية أدركوا أن صراع الإرادات الفالتة الجاري بين الطرفين لا يلبث أن يتحول إلى معركة كسر عظم حقيقية لن تؤدي نتيجتها سوى إلى الفناء المتبادل لفرص الحزبين في الحفاظ على المكاسب الكبيرة التي حققتهما لهما اتفاقية السلام الشامل، ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه من

ناحية نظرية لا توجد خلافات مبديئة بين الطرفين، وطابع خلافاتهما إجرائي أكثر من كونه سياسي، فضلاً عن أن الخيارات الاساسية حسمت اصلاً في اتفاقية نيفاشا وتحولت إلى استحقاقات دستورية، وبالتالي ليس هناك مبرر موضوعي لخلافات بهذه الحدة، فمن المقبول أن تكون هناك وجهات نظر متباينة، ولكنها بكل الحسابات لا ترقى لأن تكون سبباً في ذهاب ريح اتفاقية من المؤكد أن الحركة الشعبية تدرك أكثر من المؤتمر الوطني أنها فرصة

تحقق مطالب تاريخية للجنوبيين ومن ثم لا يمكن التفريط فيها ولا تبديدها، ومن الجائز القول إن أغلب هذه الخلافات مفتعلة وليست حقيقية، والمنطق يؤكد أنه لا يوجد سياسي عاقل يبدد مكاسب أساسية بسبب خلافات فرعية.

وبعيداً عن اللغو السياسي الذي يتفوه به نافخو الكير في الطرفين، فإن ما يجمع الطرفين في الواقع أكثر بكثير مما يظنه الكثيرون، والأمر الذي نشير إليه في هذا الخصوص أن مصالحهما الحقيقية التي كفلتهما لهما اتفاقية نيفاشا تقتضي تعاونهما على تحقيق هذه المصالح، بينما يؤدي التنافر غير المبرر إلى الإضرار بهذه المصالح المرجوة، والمعلوم أنه لم يتبق من اتفاقية السلام الشامل إلا استحقاقان دستوريان مهمان هما الانتخابات العامة والاستفتاء على تقرير المصير.

 

وليس سراً أن كلاً من الشريكين يضع نصب عينيه على واحد من هذين الاستحقاقين وليس كليهما، فالمؤتمر الوطني معنيٌّ بالدرجة الأولى بالانتخابات العامة ويرى فيها السبيل المعبد إلى استمرار سيطرته على السلطة، خاصة في ظل الضعف الظاهر على منافسيه من القوى السياسية الشمالية التي لا تبدو مستعدة لمنازلته، وهناك أهمية استثنائية في هذه الانتخابات بالنسبة للمؤتمر الوطني فهي ستؤمن له حال فوزه به فضلاً عن المشروعية السياسية الداخلية، مشروعية دولية ظل يبحث عنها مند عشرين عاماً لتطبيع علاقته مع المجتمع الدولي، وهو هدف قد لا يتحقق له كاملاً بالطبع إذا استمرت الأزمة في دارفور باقية على حالها من غير حل إلى موعد الانتخابات، ولا توجد مؤشرات تدل على أن تغييراً درامياً سيحدث بشأنها في غضون الفترة المتبقية خاصة بعد التأجيلات المتكررة لاستئناف مفاوضات الدوحة، بالإضافة إلى تلك التداعيات   المتعلقة بملف المحكمة الجنائية الدولية التي عادت مجدداً لتصبح لاعباً أساسياً في الساحة السودانية وينتظر أن يكون لها نصيب في تشكيل التطورات السياسية الداخلية في الفترة المقبلة،

 

أما الحركة الشعبية من جهتها فأجندتها تحمل بنداً واحداً هو ضمان تنفيذ الاستحقاق الدستوري المتعلق بالاستفتاء على تقرير المصير، وهذا بالطبع لا يعني سوى أمر واحد هو أن الحركة الشعبية اتخذت قرارها بالفعل في هذا الشأن وأصبح خيارها المحدد هو جعل الاستفتاء سبيلاً مفضياً إلى إقامة دولة مستقلة في جنوب السودان عبر بوابة العمل على حث الجنوبيين للتصويت لصالح الانفصال عند الاستفتاء على تقرير المصير، وقرار الحركة الشعبية في هذا الخصوص قرار أصيل يتعلق برؤيتها السياسية  لمستقبل الجنوب، وتتماشى في الوقت نفسه مع توجهات الرأي العام الجنوبي الغالب، وأعني بذلك أن الأسباب التي يسوقها قادة الحركة في تبرير قرارها المضي قدماً في اتجاه تحقيق استقلال الجنوب المتعلقة بمسألة احتجاجها على ما تعتبره عدم توفر أسباب الوحدة الجاذبة كما سعت لها اتفاقية السلام، لا تعبر في الواقع عن حقيقة موضوعية، فدواعي الانفصال أكثر جاذبية للحركة الشعبية ولأكثر الجنوبيين استناداً على الخلفيات التاريخية المعلومة في هذا الخصوص، وتحقيق استقلال الجنوب تدفعه عوامل نفسية وعاطفية عميقة بأكثر مما تفرضه حقائق أو حسابات سياسية موضوعية،

 

وكما هو واضح فإن أجندة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ليست متناقضة، ولا شيء يدعوها لذلك فاعتبار المؤتمر الوطني الانتخابات أولوية بالنسبة له لا تتعارض بالضرورة مع اعتبار الحركة الشعبية الاسفتاء على تقرير المصير أولويتها، يمعنى أن كلا من الشريكين يحاول اللعب في

نصف الملعب الخاص به، وهذا يفترض عدم وجود سبب موضوعي للصدام بينهما، والمؤتمر الوطني هو من شرعن إمكانية انفصال الجنوب في دولة مستقلة، ولم يعد ذلك مجرد موقف سياسي ولكنه استحقاق دستوري يتمتع بالشرعية الكاملة، والاحتجاج بأن اتفاقية مشاكوس الإطارية تضمنت ما يشير إلى أن جعل الوحدة جاذبة هي مسؤولية الطرفين، يبقى مجرد دعوة للحض للمحافظة على وحدة السودان وفق شروط، وإلا لكان الأمر يتطلب ألا يتضمن الاتفاق نفسه بنداً غير استفتاء يؤكد على الوحدة فقط، أما وقد أتاح خيار الانفصال فذلك يعني أن الأخير مشروع مثله مثل الحفاظ على الوحدة.

 

ولذلك فإن محاولة المؤتمر الوطني إبان التوترات السابقة النعي على الحركة الشعبية انفصاليتها يبقى مجرد تلاعب سياسي، خاصة إذا أشرنا إلى أن الوحدة الجاذبة ليست مجانية وقد حفلت الاتفاقية بالكثير من الشروط اللازمة لتوفيرها لتصبح حجة على الحركة الشعبية، ولكن الثابت أن المؤتمر الوطني لم ينهض لهذه المهمة بما تستحقه، ولذلك لا يمكن تفسير احتجاجه على توجهات الحركة الشعبية إلا من قبيل المزايدة السياسية، ولا ينطلق ذلك من موقف مبدئي. ولذلك لن يكن صعباً على المؤتمر الوطني في إطار المبادرة الجديدة للحوار تلبية مطالب الحركة الشعبية في هذا الخصوص.

والأمر نفسه ينطبق من ناحية أخرى على الحركة الشعبية فقرارها جعل استقلال الجنوب هدفها الرئيس يعني بالضرورة أن الاستحقاق الانتخابي يتراجع في سلم أولوياتها، ولا يوجد منطق أن تخوض انتخابات وهي تعلم سلفاً أنها بعد أشهر قليلة من تلك الانتخابات تخوض معركتها الأهم وهي الاستفتاء على تقرير المصير وتبعات تحقيق الاستقلال بعد التصويت لصالح الانفصال، وفي الواقع فإن إتجاه الحركة جنوباً جاء على حساب أطروحتها للسودان الجديد وهو ما يجعلها بالضرورة غير جاذبة في الساحة الشمالية، وكما لم يفعل المؤتمر الوطني ما يجعل الوحدة جاذبة حقاً للجنوبيين فإن الحركة لم تفعل ما يجعل الشماليين يحتفون فعلاً بأطروحتها لسودان جديد ، ولذلك ليس هناك ما يجعلها تهتم بساحة ليس لها فيها رصيد حقيقي.

وبهذه المعطيات يمكن فهم المبادرة الجديدة لشريكي نيفاشا بأنها لا تعدو أن تكون وليدة صفقة بين عقلاء المؤتمر والحركة الشعبية شعارها (الانتخابات مقابل الاستفتاء)، وبما أن استمرار التوتر حول خلافات جانبية لا يمكن أن يحقق لأي من الطرفين مصالحه الحقيقية فإن البديل الوحيد لذلك هو التفاهم على الكف عن عملية عض الأصابع المتبادلة.

 

وفي الواقع فإن هذا السناريو يتماشى مع العقلية السياسية التي أنتجت اتفاقية نيفاشا، فهي اتفاقية نخب لتقسام السلطة والثروة بين طرفين وفق معادلة فرضتها موازين القوة في الساحة السياسية السودانية، بموازاة حسابات القوى الدولية، ومأزق اتفاقية السلام أنها ظلت تعبر عن صفقة محصورة بين النخب وفشلت في التحول إلى حل وطني شامل لأزمات السودان ولذلك بقيت أزماته تتفاقم حتى بعد الاتفاقية.      

 

 

عن صحيفة إيلاف السودانية

 

آراء