صلاح أحمد إبراهيم في “غضبة الهبباي” (1965): أواه لو أثأر للشعب الذي لا يعرف الذل وقد أذله الهوام

 


 

 

كنت محرراً للصفحة الأدبية بجريدة الميدان، لسان حال الحزب الشيوعي، في 1965 حين صدر ديوان "غضبة الهبباي" لصلاح أحمد إبراهيم. وافتتنت به. وكان دون عرضه على صفحتي بالميدان خرط القتاد. فلم يفصل الحزب صلاح من صفوفه وسمع منه بعد الفصل قولاً ثقيلاً فحسب، بل قرأ في نفس الديوان قصيدة "أنانسي" التي هجا فيها أستاذنا عبد الخالق محجوب هجاء مقذعاً عذباً ووصفه لعمر مصطفي المكي، رئيس تحرير الميدان، بأن انتهازيته متمكنة منه تمكن شلوخه. ولهذا كان عرض الديوان في الميدانtough sell a باللغة. ولم اترهب مع ذلك خاصة بعد أن قرأت لرفيقنا عبد الرحمن عبد الرحيم الوسيلة كلمة في الميدان شوى فيها صلاح وديوانه شياً. وتوكلت وكتبت المقالة الأولى ومرت ولكن توقف النشر بعد ذلك. ولم أقبل منها ذلك ناظراً لصيت الأحزاب الشيوعية الحاكمة وغير الحاكمة مع مبدعيها آنذاك. وجلست إلى أستاذنا عبد الخالق محجوب. وعاد لي بعد أيام بقرار عودتي للنشر ورسالة من المكتب السياسي عن "هذه الصفحة" (أي صفحة الادب) قال فيها إن ليس للحزب نظرية في الإبداع ولا نقاداً معتمدين والأمر متروك للنظر الزمالي الحر. ما تنشللالو "كلنق أب صلعة" كما كانت تهفو له أفئدة الرفاق.

وقف بنا الحديث في المرة الماضية عند مدى جدية صلاح أحمد إبراهيم في قوله للرجعيين في مقدمة ديوانه "غضبة الهبباي" (1965) أن لا يقروا عيناً وأن يكفوا عن الانتصار له لأن التقدمية هي الحق والمنطق والتاريخ بعد أن لمحنا للاتجاهات الرجعية في أدبنا: جذورها وحاضرها وطبيعة التحدي الذي تمثله بالنسبة لحركة التقدم في أدبنا.

انحدر إلينا الاتجاه الرجعي في الأدب من صلب الأيام من ديوان جعفر باشا حكمدار السودان، عبر الدعاية المأجورة لتسفيه ثورة المهدي، حتى العكوف على باب وزارة الاستعلامات (في عهد طلعت فريد في عهد الفريق عبود) وتمريغ عفة الأدب لقاء عطاء الوزارة وعصافيرها. وفي مواجهة هذا الاتجاه انحدر إلينا تقليد أصيل القسمات يزدري السلطة السياسة التي تسحق الشعب، ويضن على موهبة العطاء الأدبي من أن تبتذل، وأن تتسكع في أروقة السلطان بغية الجزاء والشكر الفانيين، ويستوعب ألم الأهل والقبيلة والعاطفة، ويخلق منها أدباً يجلو ظلمات الحياة ويكشف بذرة التقدم فيها.

جاء في "طبقات ود ضيف الله" أن إسماعيل بن الشيخ مكي الدقلاشي الفقيه الشاعر "إذا ركب تحوشه الفقرا شايلين النشاب. الفرس ما بتنشاف من كثرتهم شايلين التهاليل بالنغمات الحسنة. وناس البلد والصادر والوارد والنسا والرجال شايلين معاهم التهليل على نغمتهم. ودخل على الملك سليمان ود دكين قال له (أي الملك للدقلاشي) أنت لحنت في شعرك الفلاني. قال له الشيطان قاعد فوق راسك أخبرك بذلك. قال نقتله. أعمامه قالوا لا. لا نقتل ولد شيخنا غرقان وسكران وبطران دمه يخربنا. شكاه على الفقيه محمد ولد نوفلي قال أنا ما بقدرو حافظ الكتاب وشايلو الشباب".

ويروى عن مكي الدقلاشي أنه قد اعترته حالة من الجذب حين ظلم الملك حواراً له فدخل المسيد ينشد:

من يومي قمت سموني الهائم صابونا لأب جناً قايم

يا كاشر (الخادم) جيب السلطية (الحربة) نطعن بيها أهل الحرية (مصطلح في التبذل والمروق من شرع الدين)

ثم أومأ للملك بأصبعه فزاغ الملك وقال لأصحابه لولا أني زغت كان أصبعه يقد رأسي. ورد مظلمة حوار الشيخ مكي الدقلاشي.

فمنذ طفول الشعر في بلادنا نلمح بذرة تقليد لصيق بها: تقليد عفة الشعر وترفعه عن الصغائر. فالشعر وليد حالات الجذب الصوفي. وهي حالات من السمو والامتزاج الطليق الشفيف النقي بالذات الإلهية. وحيالها تتضاءل كل سلطة سياسية. ويضحى التعامل المادي بيعاً وشراء طبعاً مرذولاً وعملاً قبيحاً. وشعر ينشأ من الاستغراق والمكابدة الصوفية، ومن جوهر الزهد الصوفي، جدير بأن ينحاز للمقهورين والمستضعفين وأهل الظلامات في وجه السلطة السياسية. ويرغم ما تلقى حركة الشعر المتقدم في بلادنا من روث التهم الصفيقة من قبل الرجعيين والتقليديين لقطع أواصرها من التربة السودانية، ورميها بأنها وحي دخيل، فالحركة هي الامتداد الأصيل للشعر الصوفي السوداني من حيث عفته وصلفه ترفعاً عن متاع الدنيا ومن حيث انتمائه للمكدودين والمجدودين من الناس.

وصلاح أحمد إبراهيم استمرار لذلك التقليد.

وتبرز سمة البطر عند صلاح في "غضبة الهبباي" حين يقدم نفسه لفلنتينا تريشكوفا (رائدة الفضاء السوفيتية في 1963) يقول:

أنا الذي ليس له أن يملك الأرض

ولا أن يقبل الأجر

ولا أن يقرع الأجراس في بيع ولا شراء

.....................................

سيد الجميع، خادم الجميع، بهجة الأسلاف والمعاصرين والأبناء

....................................

مملكتي الساحة، صولجاني الكلمة، مقعدي الحكمة، جيشي الإصغاء

.......................................

أنا صلاح الشاعر

وحين يقدم صلاح نفسه كما فعل فهو إنما يقتبس من فن المدائح الصوفية يتضرع المادح فيها ويتوسل ذاكراً اسمه راجياً من نبي الأمة الشفاعة لنعيم مقيم في الآخرة. ليست هذه كل ما يربط صلاح بذلك التقليد الأصيل في شعرنا السوداني. ففي قصيدته الطويلة " 21 أكتوبر" تتضح قسمات ذلك البطر بالشعب والسمو والمكابدة. فيعكس عذاب الإنسان المغترب وشعبه أذله الهوام يعيش أيامه الحاسمة الرائعة الثائرة. فيعتلج وجداً متصوفاً فدائياً:

أواه لو ألوك كبد البغي

لو استّل حلقه بقبضتي

أواه لو اثأر للشعب الذي لا يعرف الذل وقد أذله الهوام

لو تنمو برأس غضبتي القرون كي تبقر بطن البغي، لا أرفع من دمائه هامتي

حتى يقول لي الشعب كفى

رويت من الغول اللئيم غِلي

(ملحوظة جدت لي وأنا أنقل النص عن الأصل أن ما وصفه صلاح هنا "غارة" في مصطلح الصوفية).

قصائد كثر في الديوان تحمل هذا الألم العميق بمأساة شعبه والفرح العميق بانتصاره. وجدت الديكتاتورية العسكرية من صلاح ورفقته من الشعراء من يقول لها قولة السلف الصالح: "الشيطان قاعد فوق راسك" حين وحلت في التآمر على الشعب. فبخلت أن تمد يد الواجب لباتريس لوممبا يكيد له المستعمرون (كانت مظاهراتنا لأجل إنقاذه تهتف: "يا للعار قتلوا الجار"). قال صلاح:

في مفرق المياه بين نيلنا والكونغو

أقول، والصوت به أنين:

كيف يمد العون للصديق

من لم يكن في أرضه طليق

لقد وجد الشعب في صلاح ورفقته الغرقى السكارى بحبه ممن نشأتهم سموهم "الهائم صابوناً للبجنا ً قائم" من يقول بقول صلاح في غربته بغانا:

سلام على موطني في البلاد على أهله الخيرة الطيبين

ملاذ الغريب، سياج الضعيف، الحماة، الأباة ليوث العرين

أنا منهم، وبهم، ولهم، وخدامهم لو همو يأمرون

يعذبني أنهم في العذاب، ويؤرقني أنهم نائمون

وحين انتصر الشعب في أكتوبر امتلأت نغمة صلاح فخامة وبطرااً وذوباً وانتماء للشعب. فيمسك صلاح ببوق العاج في يوم النصر فيقول:

هاته، وأدع لي الشعب، أبي الشعب، أخي الشعب، ونور العين والقلب، وروح الروح، سلواي ونجواي

(عاد صلاح هنا لبوق العرضة الذي كان يصدح خلال استعراض الخليفة عبد الله، سيد الأجمعين، قوات المهدي في موضع حي العرضة الحالي. كان صلاح قريباً من جده المؤرخ الأنصاري المحارب محمد عبد الرحيم وشرب تاريخ المهدية منه)

وبعد أن يتأمل الشاعر مواكب الشعب الثائرة يجد لذة مسكرة في سرد الأماكن التي انحدروا منها لشوارع الخرطوم: من الديوم، والبقعة، وشمبات، وبحري، والجريف وبري إلخ. وهي لذة كالتي يجدها الصوفي في نظم الأماكن التي تنقل عبرها ليصل لشيخه، أو لزيارة قبر خاتم الرسل (أو في المسدار الذي يرسم خارطة طريق العاشق أو الغاوي من ظمأ الرحلة إلى خصوبة لقاء المحبوبة، كخاطرة لي متأخرة). ويتأمل الشاعر كل هذا فيقول:

هاته (أي بوق العاج)، وأعلن عزمت اليوم أن أنشد حتى النجمة الأولى من الفجر الأناشيد لمولاي

وأدع لي الشعب، أميري الشعب، وأجلسه على القلب، أبايعه على السهل على الصعب، واصفيه نواياي

هات لي بوق العاج

صلاح مجذوب بشعبه، بطران به، غرقان في حبه، لا يصدر في شعره عن اعتزاز وثقة وإلهام مجرد. إنما ينطلق صلاح لتضميد جراح شعبه بفهم عميق لأفق الاشتراكية طريقاً له. فيقول

طوبى للرائد من عاش العمر غريبا

في الغاب، بلا ناب، وسط ذئاب

وانحترت وانبترت هنا. فلم تسعفني المخطوطة الرثة نقل بقية الشعر. ولا اعرف إن كان هذا المقال الأخير أم ثمة مقالاً آخر. أرجح ذلك. فأذكر أنني قلت في موضع من هذه المقالات إن اقدار استاذنا عبد الخالق محجوب وعمر مصطفى المكي، اللذين أفرط صلاح في هجائهما، لا تحتاج مني إلى دفاع.

وانتظر حتى أغشى دار الوثائق لاستكمل عدة المقالة عن "غضبة الهبباي".

عدلت في لغة المقال عن اصله قليلاً للإبانة.

أنشر بعد هذا ملابسات الإفراج عن مقالاتي عن صلاح أحمد إبراهيم بتدخل قيادي من أستاذنا عبد الخالق محجوب من براثن تحرير جريدة الميدان التي عطلت نشرها.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء