ضحوكٌ تحاكي طائر الهزار (3-4)

 


 

 

 

alshiglini@gmail.com

جزء من قصة :

فديناكَ أهدى الناس سَهماً إلى قلبي .. وَ أقتلهم للدّارعين بِلا حربُ
سبقنا أبو الطيب الشاعر قبل نيف و ألف عام حين قال ما قال. ما كُنتُ أعلم أن النفوس عميقة الغور. عصفت بي حالة أقرب لأنس النفس من النجوى. تسللت الحكايات من كل بُستان طريف تنبُت لنتسامر. تشترك السيدة معنا القص. النوادر تحكي عن عالم نحاول نحن الخروج من قبضة زمانه ومكانه. كنتُ أعلم أن قلب السيدة صفحة بيضاء لم تعلق بها نُقطة حبر. تسأل هي وتُراوغ وتطرق الأبواب الموصدة بيُسر دون أن تعرف أنتَ إلى أي ضفة تقف مراكبها. واضحة وضوح الشمس وخفية عند الاختلاف تُشعل أواره وتترُك لك النتيجة لتقولها أنتَ. تُمسك الحديث بيد الحنين والرفق وتسقي عصافيرنا الشراب الحُلو. تفتح نوافذ الدخول لاختلافات الثقافة من باب التنوع وليس من باب المُفاضلة.

(2)
سألت نفسي :
كيف تعيش هيَّ البراءة التي تُخضبها؟. كيف تعيش هيَّ الحياة الحميمة وهي منزوعة الدسم، منزوعة من حِلي الحديث و طرب العشق؟. أين هي من مقولة ترد في الغناء عن ليل العاشقين الطويل؟
كُنا جلوساً. تفرقنا على مقاعد ( القَمْرة ) التي شهدت كل الذي حدث إذ جمعتنا صدفة من ورائها أحابيل الزمان ومكر الدُنيا التي تُقرّب البعيد وتُبعد القريب.
سألت هيَّ عن حيواتنا: الأُسَّر، الإخوة والأخوات. من السرد البريء يعرف الواحد منا أكانت حياته الأسرية متوازنة تنهل من الإنسانية أم تسير مختبئة مُثقلة بخوف من التجارب. حياة الذكور وانفلات مُغامراتها منذ الطفولة. حياة الإناث والسياج الاجتماعي وأغلال العادات التي خلخلها تعليم المرأة. دُنيا ندخل نحن من فجواتها بالمُغامرات حين نفلت من قبضات الأهل. نذكر كل ذلك ونحن نستغرق في الضحك بدموع الأطفال. كسرنا كل الأسوار التي كانت تقف في وجه أن نكون حِزمة أصدقاء مُتجانسة الرغبات والأهواء والرؤى. فسيفساء ثقافات لم تكن لتجتمع إلا أيام الجامعة. كانت الرحلة فتحاً للفائف تلك الحِلي الثقافية التي بَعُدت عن أعين الإعلام فاختفى الكثير الذي طمره التاريخ بلا سِجِل وبقي في الصدور، وتلك أزمة وطن يمشي مُترهلاً عند البطن ونحيفاً عند الأطراف.

(3)
كنا متنوعي الأصول من أطراف السودان و وسطه. نتوزع على قرى وأشباه مدائن السودان. من شماله " دُنقلا " وهجرة الجيل الأول منها. من "حلفاء" و مَنْ وُلدَ هناك وشهدت طفولته النـزع القاسي من تُربة الأهل عند تشييد السد العالي في مصر وحين غطست مآذن حلفاء غرقاً تحت الماء وتفرقت نوبة مصر إلى الجبال، ونوبة السودان إلى" خشم القربة". آلاف الكيلومترات حين هاجر المُكتوون بنيران العُسرة. مشت القسوة على القلوب تطحن البشر أجسادهم والأرواح. الآثار العريقة تهوي بلا وجيع. حاولت المنظمة الدولية حماية الآثار . حفظت البعض وثَقُل عليها الكثير. أما القائمون على الأمر حينذاك فلم يعرفوا أن جُرم الغفلة هو تنمية مجتمع على أنقاض مُجتمعات أُخر تهدمت بُنيتها دون أن يرمش للماكرين جفنُ!.
بعضنا من "مدني" و "أم درمان " ومن " شندي" وقرى ريفي" الحصاحيصا " ومن " نيالا " و" الضعين".
أغرينا الصديق ( آدم ) أن يُرينا وجهاً لهذا التنوع وقد فرغنا للتو من أغنيات وسط السودان. بدأنا محاولة ضبط الإيقاع الذي لم نتعود بالتصفيق. حاولنا مرة ثم أعدناه مرة أخرى إلى أن تآخينا مع ( الجّراري ). وبدأ صوت ( آدم ) عميقاً تخضب من وهج سهول الريف وجبالها ومطرها وريح الأرض وكائنات البوادي. من أغنيات" إبراهيم موسى أبَّا " أطلتْ:
يا بنات الحي قولوا لَمْ رُوبَا
جِيتَا للخُطبة
لقيتَا مَخطوبة
يا بنات الحي
......

(4)
بيُسر وبصوته الرخيم الجهور بدأ ( أدم ) الغناء ونحن من ورائه ننسج خلفية رائعة تنوعت فيها الأصوات نعومة وخشونة، شدة ورخاوة. صورة رائعة لوطن تتجمع أشلاؤه في ( قَمْرة ) صغيرة في قطار بُخاري يسير شمالاً في موسم الشتاء. بردٌ لم يتعود بعضنا فكان الغناء تميمة دفئ ناعمة تتجول بيننا تُثري الدواخل.
ساعة لك وساعة عليك.
تقف أنت موقف المُشاهد ثم المُشارك لتلك الدُرر الثقافية التي تدفقت أمواهها مطلع سبعينات القرن الماضي. تجربة فريدة ثرية في زمانها ثم أثرت المشهد الثقافي من بعد بقوة دفعٍ وجلست مكانها في الوجدان.
أما السيدة فهي كخاصرة الرقص التي تتجمع عندها فواصل الجسد، فهي صولجان الحُكم وواسطة العقد. كاريزما انطلق بخور طيبها يغمرنا بلا استثناء. ابتسام مخبوء يتسلل إليك. نزاعٌ على كأس شربٍ معها أو يدها بمنديل تُجلي وجهك من ثلمٍ على الخد فترتبِكْ أو تنزع أنتَ عن إصبعها خاتماً ملوناً لتُجربه في الخُنصُر. نهضت الأُلفة سيدة علينا ونعمنا بالإنسانية من كل خيرها الميسور. سقتْ منابت جذورنا لتُنبت ثمارها لاحقاً.
كُنا نحنُ بمثل ما قال أبو الطيب حين أنشد:
بأدنى ابتِسامٍ مِنكَ تحيا القَرائحُ ... وَ تقوى من الجسم الضّعيف الجَوارحُ

(5)
أيصدق الفأل المستحيل حين يكون الزمان قبضة من تُراب الحنين أم أن الدُنيا عاشقة تشرب النبيذ المخلوط بشاي الحليب؟. أين أنتِ أيتها البادئة أحرُفَكِ من ضوء القمر حين تخفتُ أضواء الصناعة وينعس ساقي الخمرُ.
قال العاشق المُثقل بالعواطف و المَشاعر المُجنزرة:
ـ مَن أنتِ يا نادلة الفرح، يا بُستان ورد لا يشبه زمان الطلع؟. يحق للماسِك عصا الولاية أن يضرب الجسد وقت يشاء، أما الروح فهي طليقة تبحث عن مغامرة وسط أحراش قريبة إلى النفس، قريبة إلى العُمر، قريبة تلتف بسلوفان الحياء أول أمره ... ثم دارت فراشات ملونة بيننا.
تذكر العاشق أن القطار يقطع الفيافي شمالاً، فسقط متاع الذكريات ينزف:
أين كان في مُبتدأ بلوغه؟ ولمَ لمْ يُدرك نيران الهوى التي تستوقفكَ لتستدفئ إلا يوم ولجت تلك السيدة باب ( اَلقمرة ) بلُطف. وتعرفت بأريحية على النفوس التي تمرح بحرية كزرع استغلظ فاستوى على سوقه يُعجب.
كم هو مُتعبٌ أن ينهض العِشق في هيبة المجتمع الزراعي الرعوي وحضوره الطاغي و الغليظ على العواطف النبيلة، يمُد لها أرصفة قاسية لتمشي عليها، في حين يفتح ذراعيه وَجداً لصحاري النفوس أن تأكل من خُضرة الدُنيا!.عجباً !!

(6)
هناك على الطريق من على البعد تجري أشجار الشوك من سرعة القطار في نظر رُكابه. من بعد المياه الراقصة في خيالات الصحاري من وهج الشمس تشهد التقاء الرمل بالسماء...و من هناك يجري النيل سليل الفراديس: صاحب المحبة الحقيقية التي عرفتها الحضارات التي كانت تهبه أغلى الأنفس عرفاناً بجميله. تحركت الأرض من فعل حرارة باطنها وانفجرت تُحرِك الجبال وانفتح مجرى النيل من بحيرة فكتوريا منذ نيف واثنتي عشر عاماً. شق الأرض بمهرجان الخُضرة. حاك هو للذين يسكنون من حوله قلائد من نور. هناك فرق بين حجر الجرانيت وحجر الماس المتلألئ.
الفرقُ بينٌ لكن الزمان أخرس لا يسمع!.
قال العاشق لنفسه:
لو صببت الماء في صحراء عُمري أو سقيتني من رضابها فسأنهض عابداً يحمل سلال فاكهة الصحاري، أرحل عبر السهول والوديان والجبال وأستمتع بدهشة العُمر و أُربت على رؤوس الطفولة إلى أن يسألني أحدهم ببراءة:
- من أنت سيدي وما اسمك وأين بيتك و ما اسم أمك؟
أنك تَضيع أيها العاشق في أجنحة الرب التي تطويك في أحابيل القص.

(7)
توقف القطار على مهل. شريان يمشي يغزي عُروق الأمكنة النائية في الريف، تتبعه أسباب التجارة: أسماء وحاجات تصلح أن تجد من يشتري. وتفرق الباعة يستجدوننا أن نشتري. سيدات كاد ينكفئ بهم العُمر من ترهُل أحماله يفرشنَّ بضاعة قليلة الحيلة مما تعتاده محطات السفر. نظرة في سواد الأعين تجدها تتعفف عن السؤال وإلحاح الحاجة.
قالت له السيدة وهو يفاصلها في ثمن حزمة من أراك للسواك:
- يا ولدي البِتقدر عليهو أدفعو!
أسفَ هو من المجادلة وظهر وضيعاً أمام سيدة نبيلة تقول: الرزق على الله .
دفع ثمن البضاعة كاملاً وبث لها من الحديث أعذبه ليُنسيها أن الوجه الذي ترى كالقلب الذي يُحب الدُنيا من بعد عشق جاء بلا ميعاد. ألا يُحدث العشق في النفس ما يُحدِث؟!.
تلك الروح التي تُرفرف في ذلك الزمان لا تشبه الدُنيا الكالحة.

عبدالله الشقليني
14 مارس 2019

 

 

آراء