ضعوا أيديكم في جمر السياسة واصبروا على أذاه

 


 

 


لماذا خفت صوت الحركات الشبابية التي فجرت ثورات الربيع العربي عقب انتصار تلك الثورات؟ لماذا تقدم الصفوف اسلاميون وسلفيون من الطراز العتيق؟وفي البلدان التي قامت بإجراء انتخاباتها البرلمانية لماذا خرج الثوار الحقيقيون بأنصبة انتخابية ضئيلة لا علاقة لها بحجم التضحيات التي قدموها والادوار التي اضطلعوا بها في إنجاح تلك الثورات؟
قد يقول البعض بوجود عوامل محلية لتفسير تلك الظاهرة  مثل التطمينات المهادنة التي بذلها هذا الحزب الاسلامي او ذاك بإباحة الخمور والتعري للسواح أوبتغلغل العامل السلفي في حياة الافراد  أو تقدير عامة الناس للتضحيات القتالية التي بذلها البعض دون غيرهم في التصدي لقوى النظام المهزوم.
وهي اجتهادات مقبولة وصحيحة في معظم الاحوال ألا ان ذلك لا يغني عن العثور على عامل مشترك يفسر ظاهرة مشتركة بين كل ثورات الربيع العربي وبكلمة أخرى ما هو العامل (المشترك) الذي قاد الى خفوت الصوت الشبابي عشية الانتصار.ولابد ان يكون ذلك تفسيرا مشتركا للاحداث يتجاوز الخلفيات والتنويعات المحلية ليغدو عاملا مشتركا بين كافة ثورات الربيع العربي. واذا استطعنا ان نضع ايدينا عليه فانه يعطينا التفسير الكامل لتلك الظاهرة الغريبة وما لم نضع ايدينا على ذلك العامل المشترك فاننا لن نحسن الاستفادة من درس الربيع العربي ولا نستفيد من موعظته بل وسوف نكرر اخطاءه باستسلام كامل  للمصير.
اعرف تماما ضيق العقل المفكر بالتفسير الأحادي لتقلبات التاريخ وظواهره فلكل حدث ملابسات وعوامل متعددة لا بد من استقصائها لنصل لتفسير كامل للحدث. فهنالك دائما عدة اسباب تتضافر في مابينها لتخلق حدثا او تسهم في تفسيره  ولا اريد هنا ان افسر الظاهرة التاريخية بعلة وحيدة دون غيرها من العلل وانما اريد ان اضيف الى كل تفسيرات المفسرين وكل تأويلات المتأولين سببا واحدا مشتركا يمكن اضافته الى الاسباب المتجمعة في أيديهم وهو سبب سيجدونه موجودا وفاعلا في كل الحالات. والذي اقصده هوغياب التنظيم السياسي من أجندة ووسائل عمل الشباب الثائر. وذلك انهم ركزوا على "الشعب يريد اسقاط النظام" دون ان يحددوا حتى السمات العامة لمن يخلف ذلك النظام.فالشعب يريد اشياء عديدة على رأسها اسقاط النظام القائم ولكن الحياة لاتنتهي عند تلك النقطة وانما تستمر وتستمر معها مطالب الشعوب  في الحكم الراشد النظيف وتحريك عجلة النهضة والتقدم وفتح فرص التعليم امام الاجيال والارتقاء بالخدمة  الصحية وغير ذلك كثير.والتعرض لما بعد الثورة –ما بعد اسقاط النظام –هو الثورة الحقيقية وعليه مدار كل شيء ومن شأنه ان يحول المشاركين من مجموعة مغامرين الى حزبيين وطنيين لهم رؤيا سياسية وبالنتيجة الي حزب سياسي 
ما هو التنظيم السياسي؟
يقول العلم السياسي ان العمل السياسي هو تنظيم الناس لتحقيق أهداف عامة وبصورة تهدف لاستلام السلطة كوسيلة نهائية لتحقيق تلك الغايات. ويحتوي هذا التعريف الموجز على ثلاثة اشتراطات هي:
1-    ان يتم تنظيم المؤيدين حول اهداف عامة تشمل أو تهم  كل أو غالبية اهل البلاد  وفي ذلك يكمن الفرق بين الحزب والنقابة من حيث ان اهداف النقابة ليست عامة ولا شاملة لغالبية المواطنين وانها بالاساس ترمي لخدمة اعضائها على سبيل المثال برفع اجورهم اوتحسين بيئة عملهم أو اعفائهم من ضريبة معينة وهي اهداف تخص اعضاء النقابة دون غيرهم من الناس بينما تتسع اهتمامات  الحزب لتشمل كافة الشئون الداخلية والخارجية
2-    التنظيم بدوره يعني جمع المؤيدين بالطرق الديموقراطية المتعارفة للمشاركة في أنشطة الحزب أو في تمويل تلك الانشطة والالتزام بخطه السياسي في المناقشات العامة كما في الانتخابات بمختلف مستوياتها.وهنا نتبين الفرق بين الحزب السياسي ومنظمات المجتمع المدني ففي  حالة الحزب يكون الوصول الى السلطة  هدفا نهائيا يحقق كل  مبادئ الحزب وبرامجه أما ناشطو المجتمع المدني فيسعون الى تحقيق مطالبهم الآنية على يد السلطة القائمة دون سعي لإحلالها او اخذ مقعدها. مثال ذلك الحركة المطلبية المعروفة باسم"لا لقهر النساء" فهذه يمكن للسلطة القائمة الاستجابة لجزء كبير من مطالبها بإلغاء قانون النظام العام مثلا ومثلها الحركات المطالبة باحترام حقوق الانسان وتلك المطالبة باطلاق سراح المعتقلين.
3-    الطموح الى استلام السلطة بالطرق الديموقراطية سواء باكتساح الانتخابات العامة او الحصول على نصيب كبير منها يؤهل الحزب للمشاركة في ائتلاف ثنائي او متعدد الاطراف. والمثال الاوضح هو احزاب الخضر في اوروبا حيث تسهم محدودية الهدف في تحجيم تلك الاحزاب وترهن مشاركتها في الحكم بالوضع الائتلافي حيث تحتاج الاحزاب الكبيرة لبضعة اصوات تعطيها الاغلبية.

وعلى عكس هذه الصورة نجد ان شباب الثورات رغم تنظيمه الدقيق لفعل الثورة لم ينظم نفسه في جماعة سياسية فاعلة ذات اهداف عريضة وطموح للاستيلاء على السلطة مركزا على اسقاط النظام دون ان يتجاوز ذلك الى ما بعد اسقاط النظام. وبمجرد سقوط النظام اصبح الشباب الثوري بلا اجندة سياسية وبلا فاعلية واصبح سهلا على الاتجاهات المناوئة ان تلحق بهم الهزيمة وتطردهم من الساحة . وهو امر طبيعي جدا فليس لمنظات المجتمع المدني والنقابات أي قدرة على مواجهة حزب سياسي واضح الاهداف لكونها لاتمتلك قدراته في التحبيذ والتحريض.
لقد حدث شيء من ذلك عقب ثورة اكتوبر 1964 فقد خرجت احزابنا السياسية من بياتها الشتوي وطردت جبهة الهيئات (شبه التنظيم السياسي لثوار اكتوبر) من الحكم وعدلت ميثاق الثورة وحصرته في اجراء الانتخابات ورويدا رويدا حلت جبهة الهيئات ونادى المنادون بتطبيق قوانين الخدمة المدنية على افرادها بحيث لا يجوز لهم الاشتغال بالسياسة الا اذا تقدموا باستقالاتهم من الخدمة.
في تلك الايام كان الكل يتحدث عن انتكاسة الثورة الاكتوبرية اذ جاء الحزبيون وطردونا من الشوارع  واستولت عليها كتائبهم وحاصروا حكومة سر الختم الاولى خاصة حين ابدت الرغبة في تمديد عمرها لبضعة اشهر اخرى حتى تتفرغ للاعداد للانتخابات.وكان الاكتوبريون في ذلك الوقت بلا تنظيم سياسي وكانوا مجرد افراد وموظفين خرجوا لمناجزة الدكتاتورية ولفترة قصيرة وضعوا أيديهم في جمر السياسة وعندما احرقتهم عاد كل منهم الى مستقره: القاضي الى منصة القضاء والافندي الى مجال افنديته والطالب الى دروسه وحين اجريت الانتخابات لم يكن للثورة من ممثلين نعطيهم اصواتنا وفازت الاحزاب التقليدية  بنصيب الاسد وحقق حزب الترابي تقدما طفيفا ولكنه ذو مغزى.
درس انتكاسة ثورة اكتوبر مضافا اليه الدرس الحالي للربيع العربي ينبغي ان يلهم شبابنا بعض الحكمة ويقودهم الى الخيار الصحيح بتنويع نشاطهم من الثورة الى ما بعد الثورة وذلك بخلق الهياكل التي تضمن لهم الفاعلية في كل الاوقات.وليس عندي لهم  من نصيحة محددة سوى تكوين احزابهم الجديدة اوالاقتراب من احزابهم السياسية القائمة وممارسة الضغط عليها لتتقبل افكارهم التحديثية او الانسلاخ منها والانضمام الى القوى الجديدة في البلاد التي قد تبدو ضئيلة وهامشية في الوقت الحالي ولكنها تمتلك المستقبل دون شك. والواقع انه ليس اضر بالديموقراطية من انصراف الشباب المثقف عن احزابها فقد اصيبت احزابنا الكبرى بفقر الدم السياسي لقلة من يدخلها وينشط فيها من الشباب المثقف واصيب الشباب المثقف بعدم الفاعلية لعدم انخراطه في حراك جماهيري عن طريق عضويته في تلك الاحزاب .وليس لأحد منا ان يحتج بأن الاحزاب غير مجدية ولاتتمتع بالديمقراطية الداخلية فمن واجبه والحال كذلك ان  يذهب الى احد الاحزاب الصغيرة اذا اصابه اليأس من صلاح الاحزاب الكبرى ووواقع الحال ان العزوف عن تلك الاحزاب والضعف الذي طرأ عليها بسبب ذلك هو الذي قاد الوطن الى مأساته الحالية. وكثيرا ما اتخيل خيبة الامل الكبرى التي ستصيب شبابنا متى قام بثورة ناجحة ليصطدم بعدها بواقع سياسي كالذي يعيشه شباب مصر او تونس هذه الايام.
ارجو ان اوضح انني لا ادعو الشباب ليتحول بكامله الى سياسيين متفرغين وانما الى ناشطين سياسيين منتمين الى الاحزاب التي تعبر عنهم وتخدم مصالحهم وان يلتزموا بكل واجبات العضو الحزبي النشيط وعلى راسها واجب الدعم المالي وتنفيذ خطوات الحزب التاكتيكية بالحضور والمشاركة في العمل الجماهيري إظهارا لهيبة الحزب وانجاحا لقدراته في الحشد والتنظيم.
وفي الختام اقول لمن يريد ان يدخل يده في جمر السياسة المشتعل ان عليه الصبر على الجمر اطول ما يمكن حتى لايسلم نصره لمن لايستحق.



Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]

 

آراء