طالبان وبوذا وسينما سنار

 


 

 



boulkea@yahoo.com


عندما قرّرت جماعة طالبان هدم تمثال بوذا تقرّبا لله سافر وفد اسلامي يترأسه الشيخ يوسف القرضاوي لأفغانستان لأقناعها بالعدول عن قرارها. و بعد عودة الوفد علق القرضاوي على ما راه  في تلك الزيارة بالقول : " لقد التقى الوفد الإسلامي خلال الزيارة بعلماء طيبين لكنهم يعيشون في الماضي ولا ينتمون للحاضر ولا يعرفون شيئًا عن العصر ومشكلاته". وكتب فهمي هويدي الذي كان عضوا في ذلك الوفد كتابا عنونه ب " طالبان : جند الله في المعركة الغلط".

وفي مشهد دراماتيكي مثير أختلط  فيه الجد بالهزل والعقل بالجنون والأسى بالذهول وقف جمع من الناس يشاهدون عملية هدم المبنى الضخم العتيق الذي أحتوى سينما سنار منذ عام 1955. وعند بدء الهدم أنطلق هتاف بالتهليل والتكبير من حنجرة مشروخة لواحد من كبار المتنفذين في حكومة ولاية سنار ثم أتبعه بالقول : "لقد هدمنا الصنم", وكأنما الجمع محتشد في قلب قدس الأقداس (مكة) يوم الفتح يشاهد سيوف جند الله وهى تطيح برؤوس هبل واللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى.

ولمّا سئل والي سنار عن سبب هدمه لسينما المدينة أكتفى بالقول : " إني أتقرّب إلى الله بعملي هذا". ونحن من جانبنا نقول أنّ هذا الوالي – اذا صدق في قوله ولنا في ذلك شك كبير – رجل طيب يعيش في الماضي ولا ينتمي للحاضر ويجهل مشكلات البلد وهو بلا أدنى شك محارب في معركة غلط.

يمثل موقف والي سنار هذا نموذجا ساطعا لنوع الفكر الذي تعتنقه الأنقاذ ويحكم مسارها وهو فكر لا يختلف عن فكر الطالبان في النوع وأن قلّ في الدرجة. هو فكرأحادي شمولي مغلق يسعى للتقرّب الى الله بالهدم لا بالبناء. بالكبت لا ببسط الحريّات. بالتعصب والجمود لا بالأنفتاح والمواكبة.

أجابة السيد الوالي تعبّرعن أزمة مرتبطة بالمنظومة الفكرية التي تقود أهل الحكم الأنقاذي. وهى منظومة ترتكز على أطلاق الشعارات الفارغة من أية محتوى و تستهدف مخاطبة عواطف الناس لاعقولهم وتقوم في كل ذلك بأستغلال "الدين" أداة لدغدغة المشاعر ولكسب التأييد والمساندة.

لم يكلف حضرة الوالي نفسه بالأجابة على السؤال التالي : كيف يقرّب هدم السينما العبد من الله سبحانه وتعالى ؟ وأكتفى بأطلاق هذه العبارة المبهمة التي تؤكد عجزه عن الدفاع عن موقفه البائس.

اذا كان حضرة الوالي يقصد بعبارته الغامضة هذه أنّ هناك ممارسات خاطئة تتم في السينما فأنّ الحل لمثل هذه الأشكالية لا يكمن في هدم السينما من أساسها . ولو كان علاج المشاكل يتم بهذه الطريقة العشوائية لتوّجب على الأطباء قطع رؤوس كل المرضى الذين يشتكون من الصداع.

أهل المنطقة جميعا يعلمون أنّ السينما التي أنشأها أفاضل الناس في مدينتهم قبل أكثر من نصف قرن من الزمان كانت تلعب بالأضافة الى دورها التثقيفي والتعليمي والترويحي دورا هاما في العمل الأجتماعي بمدينة سنار. وقد كانت ساحة رحبة لأستضافة الأنشطة الخيرية التي ساهمت في بناء ودعم المدارس والمستشفيات وفي أنجاز العديد من المشروعات المرتبطة بأنسان المنطقة.

يعلم الوالي أنّ السودان ككل وولاية سنار على وجه الخصوص في حاجة للتقرّب الى الله بأمور أكثر فائدة ونفع. فماذا فعل الوالي وحكومته لحل مشكلة الفقر ؟ ولرفع المعاناة عن كاهل المزارعين ؟ ولتوفير خدمات التعليم والعلاج ؟ وغير ذلك من المشاكل الأهم التي يجب أن تنصب فيها جهود حكومة الولاية.

غير أنّ الحرب على الثقافة والتنوير والمعرفة وأدواتها لم تبدأ مع هدم سينما سنار بل كانت في صلب برنامج الأنقاذ الحضاري المتناقض. وهو البرنامج الذي ازدادت معه نسبة الأميّة في السودان وشنت فيه حرب غير معلنة على القراءة والكتاب وتضاعفت فيه أعداد الفاقد التربوي بصورة مذهلة.

لقد كتبت في السابق مقالا في هذا الخصوص جاء فيه :" لم يقتصر أهمال المشروع الحضاري للأدوات الثقافية على الكتاب وحده بل أمتد للعديد من مواعين الثقافة ومنها السينما- على سبيل المثال- التي تم تحطيمها بالكامل. لقد تحّول مبنى مؤسسة الدولة للسينما الي ثكنة عسكرية لقوات الأحتياطي المركزي وتحوّلت سينما النيل الأزرق الى "فرع الأعلام العسكري" وأغلقت دور السينما في العاصمة والأقاليم أبوابها. والسينما وسيلة للتثقيف لا غنى عنها وقد لعبت أدوارا مهمة في نشر الثقافة العالمية في سودان ما قبل المشروع الحضاري".

أنّ المشروع الحضاري الذي جاء الى الحكم على ظهر دبابة وأراد أصحابه أن يعيدوا "صياغة الأنسان السوداني" ونجحوا في ذلك ولكن بالمعنى السلبي للعبارة, كان حصاده التحولات الجذرية السالبة في القيم العليا للفرد والمجتمع. ولن أتحدث في هذا الأطار عن الفساد الذي أضحى الحديث عنه – من شدة أستشرائه - لا يثير دهشة أحد حيث أصبحت الرشوة "أكرامية" والمحسوبية صارت "ولاء" والسرقة باتت "شطارة". ولكن فيما يخص موضوعنا يجدر الأشارة الى أنّ أخطر التحولات التي أحدثتها تلك الصياغة السالبة هى تحول الدين الى طقوس شكلية وشعارات يتم أستثمارها لأنجاز أغراض دنيوية وفي هذا الأطار يمكننا فهم العبارة التي أجاب بها الوالي على سؤال هدم السينما.  

وعلى الرغم مما أوردناه عن القواسم المشتركة بين الأنقاذ والطالبان في المنطلقات الفكرية وما ذكرناه من أنّ الخلاف بينهما ليس نوعيا الا أنه يجب علينا تحريا للدقة التأكيد على أنّ الطالبان أكثر صدقا في التماهي مع هذه القناعات بينما أهل الأنقاذ أكثر متاجرة بها. وهو ما دفعنا الى التشكيك في صدق عبارة الوالي. وقد وجدنا عند الأستاذ عبد الرحمن محّمد أبراهيم الخبراليقين عن الأسباب التي أدت الى هدم السينما وبما يؤكد شكوكنا حيث كتب في صحيفة الوطن بتاريخ 11/4/2011 يقول : 

"وعرفنا أنّ أحد تجار سنار المقرّب جداً من الوالي اشترى عشرات الدكاكين بمليار ويقال إنه يطالب حكومة سنار بما يوازي هذا المبلغ ولم يدفع للدلالة «قرشاً» بل شطب ديونه للحكومة وانتهى الأمر. وحتى لا يتهمنا الوالي بعدم المنهجية وصدق الأقوال فقد سمعت ذلك «الفيلم» منذ أكثر من سنة. ونقول للأخ والي سنار إنّ أهل سنجة وقفوا في وجهه عندما أراد بيع أراضي سينما سنجة وهدمها ولكن أصحاب تراخيص الأرض من كبار تجار سنجة رفضوا وظلت سينما سنجة في موقعها الفريد الراقي تطل على النيل الأزرق ولكنها بلا عمل".

يبدو أنّ حضرة الوالي لم يكن أمينا في عبارته التي أطلقها بعد هدم مبنى السينما فقد كان حريا به القول : " أني أتقرّب الى المال بعملي هذا". فمن الواضح أنّ الموضوع تقف خلفه مصالح ( دنيوية) لتجّار مقرّبين منه . وأنّه في سبيل ضمان تلك المصالح لا بأس من أقحام حديث (سماوي) و المتاجرة بأسم "الله" في هذه القضيّة وهذا هو ديدن كل من ينتمي لمنظومة الأفكار التي ينطلق منها أهل الأنقاذ ومن لفّ لفهم وليس والي سنار بأستثناء في هذا الخصوص.

السينما وسيلة  للتثقيف والتعليم والترويح. والسودان في الوقت الراهن الذي تتزايد فيه  جيوش العاطلين عن العمل والمحبطين الذين لا يجدون ما يملأ فراغهم, في حاجة ماسة الى مثل هذه الأداة الحضارية ولدورها المهم. وعلى القائمين على أمر الثقافة النظر في هذا الأمر بجديّة وصدق بعيدا عن المتاجرة بالشعارات. ومن أراد من أهل الحكم التقرّب الى الله بحق  ففي السعي لحل مشاكل البلاد والعباد الأهم ( الحرية و الغذاء والعلاج والتعليم والأمن الخ) متسّع له لبلوغ تلك الغاية.

 

آراء