ظهور وسقوط حسن الترابي: فصل فريد في تاريخ السودان السياسي (1989 – 1999م) .. يهوديت رونين .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

The rise and fall of Hasan A. al – Turabi: A Unique Chapter in Sudan’s Political

History (1989 – 99)
يهوديت رونين Yehudit Ronen
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لغالب ما ورد في مقال للدكتورة يهوديت رونين (1948م – الآن) عن "ظهور وسقوط حسن الترابي: فصل فريد في تاريخ السودان السياسي " نشر في عام 2014م بالعدد الخمسين من مجلة دراسات الشرق الأوسط The Middle Eastern Studies.
وتعمل الدكتورة رونين أستاذة مشاركة وباحثة في قسم العلوم السياسية في جامعة بار إيلان الإسرائيلية. وهي متخصصة في تاريخ العالم العربي الحديث، بتركيز خاص على المغرب العربي والسودان. وصدرت لها عدة مقالات محكمة منها مقال عن الإخوان المسلمين بالسودان، وكتب منها كتاب بعنوان "Sudan in a Civil War".
قد يرى البعض أن المقال أفرط في تبسيط النزاع بين الترابي (السياسي) والبشير (العسكري). غير أن أهمية المقال تتمثل في أنه يكشف جانبا عن كيف يفكر أو يتصور الآخرون ديناميات نظام الإنقاذ، ويبين مشاكلهم في فهم حقيقتها وقلة معرفتهم لعمق طبيعتها.
المترجم
******* ******* ******** *******
قاد العميد أركان حرب عمر حسن أحمد البشير في الثلاثين من يونيو عام 1989م انقلابا عسكريا على حكومة الصادق المهدي، منهيا بذلك ثلاثة أعوام من حكم ديمقراطي لحكومة منتخبة في غضون 18 عاما (يرى بعض الإسلاميين أن البشير كان قائداً صوريا للانقلاب، وأن التخطيط والتنفيذ والسيطرة كانت للحركة الإسلامية بقيادة الترابي. المترجم). وكان حكم البشير العسكري، الذي يعد معلما مهما في طريق السودان الوعر المليء بالمطبات بأنظمته العسكرية والمدنية المتعاقبة، هو السابع الذي يحكم السودان منذ نيله استقلاله في الأول من يناير 1956م. وفي نهاية 2013م ووجهت الحكومة بمظاهرات عنيفة بسبب زيادات أسعار الغاز والوقود، مما يعد مؤشرا على فشل النظام، وعلى جود مظالم سياسية واجتماعية عميقة، وعداء سياسي لنظام البشير. ورغم ذلك فقد ظل الرئيس ممسكا بمقاليد السلطة بقوة حتى الآن.
وكان البشير عند بداية الانقلاب قد أخفى بحرص ومهارة وتَمَرُّس شديد وجهه الإسلامي، وغَشَى كذلك الدور المهيمن الذي أداه حسن الترابي (القائد المخضرم للجبهة الإسلامية القومية، ذلك الجناح المنشق عن حركة "الإخوان المسلمين"، والقوة الثالثة في مسرح الحياة السياسية بالسودان) في تخطيط وتنفيذ ذلك التغيير السياسي في عام 1989، وفي السيطرة على شؤون البلاد الداخلية والخارجية.
وانقضت ستة أشهر من التظاهر بالاستقلال السياسي والبعد عن جميع الأحزاب قبل أن يحس النظام الجديد بثقة كافية في نفسه دعته للإفصاح عن هويته الإسلامية الحقيقية، وبدا جليا أن "مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني" ما هو إلا اسم جديد للجبهة القومية الإسلامية، التي أنشأها الترابي عند انفصاله عن حركة الإخوان المسلمين في منتصف عام 1985م( ليست هناك صلة بين تأسيس الجبهة وما سمته الكاتبة انفصال عن حركة الإخوان، إذ أن الحركة الإسلامية السودانية اتخذت موقف مستقلا عن حركة الإخوان في مصر منذ الخمسينيات، ولعل الجبهة الإسلامية مثلت وعاءً تحالفيا مثل جبهة الميثاق التي تأسست بعد ثورة أكتوبر 1964م. المترجم). وفي ربيع 1990م ظهر الترابي علنا في الساحة السياسية، وحاجبا إلى قدر ما البشير الذي كان هو – إلى ذلك الوقت – اللاعب الوحيد في الساحة السياسية السودانية، ومفصحا عن دوره الأساس في الانقلاب الناجح، ورؤيته في تحويل السودان إلى دولة إسلامية خالصة تطبق قوانين الشريعة الإسلامية، وهي المهمة التي أخفق في تحقيقها تحت حكم حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيا. وشهدت التظاهرات المليونية لمؤيدي الجبهة القومية الإسلامية التي جابت شوارع الخرطوم عند الاحتفال بمرور عام على ذلك الانقلاب على قوة مركزهم السياسي، وعلى قدرة ومهارة شديدتين على تعبئة جيش عرمرم من الناشطين المنافحين بقوة عن تطبيق الأجندة الإسلامية في المجتمع السوداني ذي الثقافات والأديان المتنوعة.
ولم ينقض وقت طويل بعد ذلك حتى تبوأ الترابي مكانه في مقدمة رجال النظام الممسكين بزمام الأمور، واتخذ قرارات صعبة متنوعة في شتى المجالات، وشن حملة تطهير (بدعوى الصالح العام) لعدد كبير من العاملين في الخدمة المدنية وضباط الجيش، وأحل محلهم أصحاب الولاء للجبهة القومية السودانية. وبلغت تلك الحملة ذروتها في اليوم الأول من عام 1991م حين أعلنت القيادة الثنائية (البشير والترابي) عن تطبيق قوانين الشريعة على كل أجزاء السودان عدا الجنوب. وكانت تلك هي ذروة التعاون السياسي بين القائدين. غير أنه ثبت مع مرور السنوات أن ذلك التماسك واللَّحْمَة السياسية لم تكن إلا مجرد مظهر زائف، إذ سرعان ما بدأت التصدعات في ذلك التحالف في الظهور. وتراكمت سحب المشاكل والعوائق الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية (في حرب الجنوب المزمنة). غير أن القائدين حرصا على كتمان خلافهما، وعلى الظهور للناس بمظهر متحد وفعال، رغم أن كل منهما كان يحاول سرا ضخ المزيد من المؤيدين في الجيش وفي مجلس الوزراء تدعيما لموقف كل منهما.
ومع مقتل نائب الرئيس المعين في 1998م في حادث طائرة بالجنوب بدأت المواجهة العلنية بين قائدي السفينة الإسلامية. وبلع الصراع السياسي بينهما ذروته في 12/12/1999م حين قام البشير بإعلان حالة الطوارئ، وأزاح الترابي من سلطته التنفيذية، مغرقا إياه في لجة السياسة السودانية، ومذكرا بالحكمة السودانية الدارجة التي تقول بأن "رئيسين غرقوا المركب".
وعلى الرغم من تلك الصدمة التي تلقاها الترابي بفقدانه لموقعه القوي في هرمية رئاسة النظام، وعدم قدرته على استعادة ذلك الموقع، إلا أنه ظل شخصية سياسية وايديلوجية مؤثرة. أما بالنسبة للبشير، فقد استغل لأقصى درجة السقوط السياسي للترابي لمصلحته، وبسط سلطته منفردا على البلاد.
ويتناول هذا المقال طرفا من التاريخ السياسي للسودان الحافل بالأحداث في أخريات سنوات القرن العشرين، ويناقش بعضا ما ترتب عليها من آثار أبعد من المحيط السياسي، شملت كل أوجه الحياة في دولة السودان الفاشلة. واعتمدت هذه الدراسة في تشريحها للعلاقة الخاصة بين البشير والترابي (أكبر أعمدة السياسة السودانية) على مصادر سودانية وعربية، وعلى أعمال أكاديمية منشورة.
**** ***** *****
شكلت عملية تطبيق قوانين الشريعة، التي بدأ العمل بها في بدايات 1991م، والتي لطالما تطلعت لها قيادات الجبهة الإسلامية القومية ومؤيدوها المتحمسون منذ سنوات طويلة خلت، علامة للحظة سياسية - دينية تأسيسية لقيادة السودان الثنائية. وكان القائدان سعيدين بانتصارهما، والذي يعدانه تصحيحا لما كانا يرونه من إغفال معيب تمثل في تعليق تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية التي كان الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري قد طبقها في سبتمبر 1983م، ثم تم تعليق تطبيقها ووضعت جانبا بعد أن أزيح نميري عن سدة الحكم في عام 1985م. وذكر البشير في خطاب له ورد ذكره في صحيفة "الإنقاذ الوطني" في السادس من يناير عام 1991م بأن السودان قد أضحى دولة عظمى بقربه من الله، مؤكدا بذلك ليس فقط مشاعره الدينية العميقة، بل شعوره بالارتياح السياسي لانتصار الإسلاميين في الصراع العنيف بين مؤيدي ومعارضي قوانين الشريعة.
لقد كان مطلب إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية رسميا هو أهم شرط للحركة الشعبية منذ تجدد القتال في الجنوب عام 1983م ضد نظام نميري لبدء أي مفاوضات مع حكومة الشمال. (يجب التذكير بأن قوانين الشريعة كانت قد أعلنت في سبتمبر من عام 1983م، بينما كان التمرد قد بدأ في مايو 1983م. المترجم) ولم يكن بوسع حكومة سور الدهب العسكرية الانتقالية (1985 – 1986م) أو حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيا (1986 – 1989م) القبول بمثل ذلك الشرط المسبق بسبب عواقبه السياسية الوخيمة، خاصة عند رفض الجبهة الإسلامية القومية له. فقد كان بإمكان تلك الجبهة أن تستخدم كلمة "الجهاد" من أجل إعادة العمل بقوانين الشريعة، وأن تهدد فرص الصادق المهدي السياسية في البقاء كرئيس للحكومة إن لم يستجب لمطالبها. وبالفعل نجحت الجبهة بقيادة الترابي في نهاية المطاف في الانقلاب على نظام الصادق الديمقراطي.
وبدأ العمل بقانون عقوبات جديد في 22 مارس 1991م، حل محل قانون العقوبات الجنائية الذي أدخله نميري في 1983م. وتواصلت مجهودات النظام لترسيخ أفكاره وتوجهاته والإسلامية كما وضعها له منظر الجبهة الأيديولوجي حسن الترابي لتشمل كل مناحي الحياة في البلاد. وفي ذات الوقت سعى النظام لتوسيع قاعدته السياسية بتقديم بعض المزايا الاقتصادية والاجتماعية لمجموعات متزايدة من السكان. وعمل معسكرا الترابي والبشير المتنافسان بشدة لمنح بعض أتباعهما الكثير من مفاتيح الثروة والقوة والسلطة.
كذلك تم منع وسائل الإعلام المملوكة للدولة من تداول أي إشارة للتنافس السياسي بين قائدي النظام، بل تم نشر نفي متكرر في ربيع 1991م لوجود أدنى خلاف على السلطة بينهما، وتم التأكيد في ذات الوقت على صلابة طبيعة قيادة النظام، خلافا لما سرى من شائعات تقول بعكس ذلك، والتي كانت تؤكدها التغييرات المتكررة لقيادات الجيش والأجهزة السياسية (بحسب ما جاء في "الإنقاذ الوطني" يوم 17 إبريل 1991م على لسان القيادي محمد الأمين خليفة). وعلى الرغم من كل تلك الجهود، لم يعد بالإمكان التستر على تلك الخلافات بأكثر مما حدث، وتسربت الانتقادات الحادة للبشير التي كانت تتداول في "مجلس الثورة السري" (وهو مجلس سري أنشأه الترابي كان الكثيرون يعتقدون بأنه هو المحرك الفعلي لكثير من القرارات الداخلية والخارجية بحسب ما جاء في "الوفد" بتاريخ 19/5/1991م)، مما شكل تهديدا متزايدا لنفوذ البشير.
وفي سياق تلك المنافسة بين القائدين، والاتهامات المتبادلة بين معسكريهما، قامت حكومة الجبهة الإسلامية القومية في سبيل تحسين صورتها العامة وازالة تهمة التشدد عنها بتكوين "المجلس الوطني الانتقالي" في فبراير من عام 1992م. وكانت مهمة اختيار أعضاء ذلك المجلس من اختصاص البشير (وليس الترابي)، في دلالة واضحة على أن البشير كان يملك في ذلك الوقت نفوذا وسلطة سياسية تفوق ما عند الترابي، وتتيح له سطوة قوت من وضعه السياسي. وضاعف من هيبة ومكانة البشير السياسية نجاح الجيش في إخماد محاولة انقلاب عسكري على نظامه، والقيام بهجوم كاسح على قوات التمرد في الجنوب، رغم أن ذلك الهجوم لم يفض إلى أي تغيير جوهري أو كلي في مسار الصراع العسكري بين الشمال والجنوب (بحسب اعتقاد بعض الإسلاميين لم يكن البشير هو من أختار أعضاء المجلس الوطني الانتقالي. المترجم).
وفي تلك المرحلة لم تكن صورة المشهد السياسي وردية بالنسبة للترابي. فقد كان البشير قد أحكم قبضته على السلطة كرئيس للوزراء ووزير للدفاع، ولم يكن للترابي – المنظر الأيديولوجي للسلطة وأكبر ساستها - سوى منصب الأمين العام لـ "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي"، الذي أقامه الترابي في الخرطوم ليكون بديلا لـ "منظمة التعاون الإسلامي" في جدة. وتعرض الترابي في 26 مايو من عام 1992 لمحاولة اغتيال في مطار أوتاوا بكندا على يد أحد المعارضين السودانيين الذي لجأوا لكندا، وكان من أبطال لعبة الكاراتيه. وقضى الترابي شهرا في كندا لتلقي العلاج (وربما لأسباب أمنية أيضا) قبل أن يقفل عائدا للخرطوم، حيث وجد أنه من العسير أن يتعافى سياسيا وأن يحتل ذات المكانة الأرفع التي كان يتسنمها في بدايات عهد الإنقاذ.
وانتهز البشير فرصة الأوضاع السياسية القائمة آنذاك ليؤكد سلطته فأقدم على حل مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني في 16 أكتوبر 1993م، وصار رئيسا للجمهورية، وأدخل الكثير من التغييرات في هياكل الدولة والعاملين فيها وفي مجلس الوزراء (يزعم بعض الإسلاميين أن حل مجلس قيادة الثورة كان من بنات أفكار الترابي في محاولة منه لتخفيف المظهر العسكري للنظام، والدفع باتجاه إعطاءه وجها مدنياً، وكان من بين تلك الإجراءات الطلب من العسكريين أن يتخلوا عن الجيش وأن يمارسوا السياسية كمدنيين، أو يتمسكوا بالجيش وترك السياسة. المترجم). ولتحسين صورة النظام وإزالة الشكوك حول طبيعته العسكرية الاسلامية المتشددة تخلى عن وزارة الدفاع وعين لها في 20/10/ 1993م نائب رئيس الأركان (حسان عبد الرحمن علي) وزيرا. ولضمان سيطرته على تلك الوزارة المهمة عين مع (الفريق) حسان ضابطا كبيرا آخر هو منصور عبد الرحيم محمدين، لضمان التوازن، وليراقب كل منهما الآخر. وأثبت ذلك التكتيك نجاحه فأعاد تطبيقه في عدد المرات، ففي تعديل وزراي أجراه في فبراير من عام 1995م قام بتعيين ستة وزراء دولة جدد، وأحكم بذلك سيطرته على الجهاز التنفيذي بصورة أقوى.
وكان البشير، اعتمادا على غرائزه ومواهبه السياسية الحادة، يدرك النشاطات المتزايدة المعارضة لنظامه التي كان يقوم بها الساسة السودانيون بين عامي 94 – 1995م، خاصة تلك التي كان يقوم بها حزب الأمة وزعيمه الصادق المهدي الذي أعلن "الجهاد المدني" بحسبانه وسيلةً من وسائل إسقاط النظام. وكان البشير يدرك أيضا خطورة تزايد اشتعال الحرب الأهلية في جنوب السودان، وما سببته من استنزاف لموارد الدولة. لذا أعلن عن حملة جهادية لـ "الدفاع عن العقيدة والوطن"، والوطن هنا بالطبع يعني النظام الحاكم. وقام النظام بالتصدي لمظاهرات خرجت في خريف 1994م باسم التحالف الوطني الديمقراطي (المكون لممثلين من قوات حزب الأمة، والاتحادي الديمقراطي، والشيوعيين والنقابات العمالية والمهنية والحركة الشعبية). وكان ذلك التحالف هو الجهة المنظمة الوحيدة التي تعارض النظام، إلا أنها لم تكن متحدة ولا متماسكة.
كان النظام الحاكم يعتمد على قوات الدفاع الشعبي (الميليشيا التي أنشأتها الجبهة القومية الإسلامية عام 1990م، وتتكون في غالبها من شباب الإسلامين المتحمسين الذين حاربوا الحركة الشعبية بالجنوب) لقمع الاضطرابات في الخرطوم. وكان ذلك الاعتماد يدل دلالة واضحة على الطبيعة المتطرفة لتلك الاضطرابات السياسية والدينية والاجتماعية – الاقتصادية. وظل الترابي منزويا نسبيا عن الأضواء السياسية، منتظرا على هامش الأحداث، ومتحينا – فيما يبدو –للحظة المناسبة التي يعاود فيها المشاركة الفعالة في الأحداث.
وتزايدت الضغوط على الخرطوم، وأحيت الأخيرة قضية مع مصر كانت قد خمدت طويلا بخصوص السيادة على حلايب. وكانت إثارة تلك القضية تمثل عرضا أو متنفسا لإظهار عداوة أعمق بين نظاميين مختلفين في التوجهات الدينية والسياسية. وبدا أن علاقات السودان قد ساءت مع مصر والولايات المتحدة، وتجمدت مع إيران. وكان على السودان القتال على جبهات أجنبية متعددة في آن معا. وزاد الطين بلة للنظام تعاون "التحالف الوطني الديمقراطي" مع دول الجوار مثل أوغندا وأريتريا وإثيوبيا، إضافة لانضمام تلك الدول لجبهة تقودها الولايات المتحدة للإطاحة بالنظام، الأمر الذي شكل تهديدا جديدا محتملا للنظام السوداني. وزاد من موقف السودان سوءً صدور قرار مجلس الأمن في مايو 1996م قضي بمقاطعة (اقتصادية) تهدف للضغط على السودان لتسليم اثيوبيا ثلاثة من الإسلاميين المصريين الذين تتهمهم بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس ابابا في يونيو من عام 1995م، ويعتقد أنهم قد فروا للسودان.
وفي مارس من عام 1996م أجرى النظام انتخاب برلمانية أفضت لانتخاب البشير رئيسا لخمسة أعوام، والترابي رئيسا للبرلمان. ومثل ظهور الترابي في حفل الافتتاح يوم 1/4/1996م عودة مكتملة الأركان إلى مركز المشهد السياسي في الخرطوم، إذ أن ذلك كان أول منصب رسمي له منذ أن جاءت الإنقاذ في يونيو 1989م. وكانت وظيفته كرئيس للبرلمان تمثل تغيرا في تكتيكاته، فقد كان قبل تسنمه لذلك المنصب يدير الأمور من وراء ستار. ورغم أن الكثيرين عبروا عن رضائهم عن تلك الانتخابات، إلا أن الأحزاب الشمالية والجنوبية المعارضة التي قاطعت تلك الانتخابات منذ البداية رفضتها وعدتها محض دعاية و"مسرحية ضعيفة الحبكة والإخراج" كما جاء في صحيفة الوسط بتاريخ11 مارس 1996م، وSudan Democratic gazette اللندنية في أبريل 1996.
وأتاح منصب الترابي الجديد له قدرا كبيرا من النفوذ، خاصه وأنه منصبه كان – بحكم الدستور – هو المنصب الثاني في الدولة، وبمقدوره أن يحل محل الرئيس عند وفاته. وكان الرئيس مسؤولا أمام البرلمان، الذي كان له أن يستجوب الرئيس أو يجبره على الاستقالة. وبدا أن هنالك صراعا خفيا بين القائدين، أجبر البشير على تغيير الوزارة في أبريل 1996م وحشدها بمن يوالونه، وقام بتعيين الزبير محمد صالح، أحد كبار الضباط المقربين منه، كنائب أول له لترجيح كفته في صراعه الخفي ضد طموحات الترابي. وقام أيضا في يناير 1997م بتغيير وزير الدفاع الفريق حسان عبد الرحمن علي بضابط آخر هو عبد المعروف المجذوب بعد أن تزايد الضغط العسكري في حرب الجنوب. وقام بتغييرات أخرى في صفوف قيادات الجيش والأمن في أكتوبر 1997م. وعقب وفاة الزبير محمد صالح في حادث طائرة بالجنوب في 12/2/ 1998م سعى كل من الترابي والبشير لملء المنصب الشاغر بأحد المواليين لهما. غير أن البشير حسم الأمر لصالحه بتعيين الإسلامي المتشدد علي عثمان محمد طه (وأحد المقربين قديما من الترابي) كنائب أول له.
ومن أهم المحطات في مسيرة ذلك الصراع بين الترابي والبشير، الاعلان في ذات الشهر الذي عين فيه علي عثمان محمد طه عن قيام جسم سياسي جديد هو "المؤتمر الوطني" ترأسه البشير، وعين له الترابي أمينا عاما (بحسب أحد المؤرخين السودانيين فإن المؤتمر الوطني كان قد بدأ على نسق المؤتمرات الشعبية في ليبيا عام 1992م، ثم أخذ شكل الحزب الحاكم في 1993م. وكان أول أمين للمؤتمر الوطني هو العقيد حسن حمدين (1993م)، ثم السفير الشفيع أحمد محمد، ثم د. غازي صلاح الدين وحسن الترابي في أعوام 1994 و1995م، و1997م، على التوالي. المترجم). وهنا أيضا عمل القائدان المتصارعان على حشد أنصارهما في الحزب الجديد (الذي ضم أيضا بعض الأفراد القلائل من غير أعضاء الجبهة الإسلامية القومية، مثل زين العابدين الهندي، أحد قدامى الساسة في الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض) الذي نُصب نائبا لرئيس "المؤتمر الوطني". وكانت تلك إحدى وسائل الحكومة لنزع الشرعية السياسية عن التحالف الوطني الديمقراطي وشق صفوفه. ومن أهم الشخصيات المؤثرة التي تقلدت مناصب رفيعة في قيادة المؤتمر الوطني كان غازي صلاح الدين، الذي تقلد وزارة الثقافة والاعلام في الوزارة الجديدة التي تكونت في 8/3/1998م. وفي 25/6/1998م أجاز البرلمان دستورا جديدا بديلا عن الدستور الذي كان انقلاب 1989م قد أوقف العمل به. وكانت تلك إحدى مجهودات الحكومة من أجل تحسين صورتها في مجال الديمقراطية، مع احتفاظها بأجندتها الإسلامية والعسكرية.
وكانت واحدة من أهم مظاهرة الشقاق بين البشير والترابي (وربما بين الترابي وتلاميذه السابقين. المترجم) كانت قد ظهرت في خلال اجتماع لمجلس الشورى بالخرطوم في ديسمبر 1998م، حين تقدم عشرة من أعضاء ذلك المجلس بمذكرة للقيام بإصلاحات هيكلية في أجهزة الدولة العليا. وعرفت تلك المذكرة فيما بعد بـ "مذكرة العشرة". واقترح أولئك الأعضاء انتخاب مكتب تنفيذي يرأسه البشير يقوم بتدعيم العملية الديمقراطية في الحزب الحاكم الوحيد المسموح له قانونا بممارسة نشاط سياسي. وكان المقصود الفعلي من تلك المذكرة هو تحجيم سلطات الترابي السياسية. وكان البشير على ما يبدو يعلم عن تلك المذكرة قبل عرضها، وقيل إنه ربما كان هو من اِبتدَرَها. ووصف الترابي المذكرة بحسب ما ورد في صحيفة "الشرق الأوسط" في الأول من يناير 1999م بأنها مؤامرة، وأنها "انقلاب أبيض". وسارع (وهو السياسي المصادم) بتقديم مذكرة مضادة معارضة تقترح تكوين مكتب تنفيذي. وقام بعد ذلك بخطوات أخرى عدت معادية لمعسكر البشير، مثل اعتراضه على الميزانية المقدمة للبرلمان، وتخليه عن اقتراحه السابق بالتخلي عن رئاسة البرلمان ربما للاستعداد لتولي منصب تنفيذي. وأفسد بذلك الترابي ما كان يعتقد أنه خطة من البشير لتعيين أحد الموالين له (أي للبشير) كرئيس للبرلمان. ولكنه حاول التقليل من شكوك ومخاوف البشير حوله بالتصريح بأنه لا يرغب في تولي أي منصب تنفيذي، وسفه ما زُعم في بعض الأوساط من أنه يطمح لتولي منصب الرئيس.
وعند تلك المرحلة تحول النزاع الخفي بين القائدين إلى العلن، وبدا أن كل واحد منهما يصر على هزيمة الآخر، وأن المعركة صفرية المحصلة. وقام الترابي بعقد لقاء مع الصادق المهدي في سويسرا في مايو 1999م، زعيم حزب الأمة وأحد أهم أركان التحالف الوطني الديمقراطي المعارض. وجاء في صحيفة الحياة (5/5/1999م) أن الترابي كان قد عقد اتفاقا في ذلك الاجتماع مع الصادق لتقاسم السلطة، إلا أن البشير واجه تحرك الترابي بقرار كون بموجبه لجنة لرئاسته لدراسة عقد محادثات سياسية مع كل أطراف المعارضة.
وبحلول شهر سبتمبر من عام 1999م ازدادت شقة خلاف القائدين اتساعا بعد أن انتصر جناح الترابي في "المجلس التشريعي" بفوزه برئاسة "المكتب القيادي" للمؤتمر الوطني المكون من ستين عضوا. وتم بعد ذلك حل مكتبين في قيادة الحزب كان يرأسهما البشير نفسه. وفي أكتوبر من عام 1999م لم ينجح أربعة من كبار مؤيدي البشير (ومعارضي الترابي) في إعادة انتخابهم لعضوية المجلس الاستشاري، وحل محلهم أربعة من مؤيدي الترابي (ذكر بعض الإسلاميين أن الكاتبة هنا ربما تكون قد خلطت في الأمر. فقد عقد المؤتمر العام للمؤتمر الوطني في أكتوبر 1999م، حيث حشد الترابي الآلاف من مؤيديه في عضوية المؤتمر، وأسقطوا أصحاب مذكرة العشرة في انتخابات قيادة المؤتمر. المترجم).
وشجعت تلك الانتصارات على مستوى الحزب الحاكم الترابي على السيطرة على مراكز السلطة في الدولة، فقدم في نوفمبر 1999م اقتراحا في البرلمان لتعديل عدد من بنود الدستور. وشملت تلك التعديلات تعيين رئيس لمجلس الوزراء له سلطات تنفيذية واسعة، مما يعني فعليا تقليص سلطات البشير كرئيس للجمهورية، وانتخاب ولاة الأقاليم انتخابا مباشرا (وليس تعيينهم من قبل رئيس الجمهورية)، ومنح البرلمان سلطة عزل رئيس الجمهورية. غير أن البشير طالب الترابي – دون أي استجابة - بأن يؤجل أو يخفف من تلك التعديلات المقترحة. ونشر مؤيدو البشير في الحزب والحكومة شائعة تفيد بأن مجريات الأحداث بالخرطوم تنذر بقرب القيام بانقلاب تدبره جهات سياسية تتبع للترابي، وتأتمر بأمره. وبلغ الصراع بين القائدين في اكتوبر – نوفمبر من عام 1999م نقطة اللاعودة.
وفي ليل 12/12/1999م عجل البشير منافسه بالضربة الأولى، فأعلن – في خطوة دراماتيكية - في مؤتمر صحفي أذيع من خلال القنوات الإعلامية الرسمية حالة الطوارئ بالبلاد لمدة ثلاثة أشهر، وحل البرلمان (مركز سلطة الترابي)، وأعلن أنه قد "وصل لنهاية الطريق" مع منافسه اللدود، وأن "رئيسين غرقوا المركب". ولم يكن بوسع الترابي فعل شيء تجاه ذلك الإعلان المفاجئ غير أن يصف ما حدث لراديو باريس يوم 14/12/ 1999م بأنه "خيانة" و"انقلاب".
ومع مطلع القرن الواحد وعشرين، وبعد منافسة سياسية استمرت لعقد كامل مع الترابي القوي، خرج البشير أخيرا منتصرا بإزاحته لأقوى منافس سياسي له وبدا له أن مسرح السياسة السودانية سيكون "مسرحا لممثل واحد فقط". غير أن الأمر تتطلب منه القيام بحملة أمنية ضد قادة وأفراد معسكر الترابي، وحزبه الجديد (المؤتمر الشعبي). وكان البشير قد سمح بقيام ذلك الحزب الجديد في بدايات عام 2000م، ربما لأنه كان يفضل أن يواجه حزبا علنيا (يمكنه تشديد الرقابة عليه) أكثر من مواجهة جماعة سرية يصعب تتبع ما تقوم به. وتم في الأعوام التالية اعتقال الترابي لعدد من المرات ولفترات طويلة بتهم شملت التحريض، وقللت فترات الاعتقال المتطاولة في تلك السنوات من تأثير الترابي في الحياة السياسية بالبلاد.
وبعد فوز البشير في الانتخابات الرئاسية في أواخر 2000م، وبعد سجن الترابي في يناير 2001م، شعر البشير بأنه قوي بما يكفي للبدء في مفاوضات مع حركة تحرير السودان. وتلك خطوة كانت تلقى الترحيب من أمريكا والدول الغربية والعربية والإفريقية الأخرى. غير أن الحرب اشتعلت في منطقة أخرى بالبلاد (في دارفور). ولما كان للترابي علاقات وثيقة بـ "حركة العدل والمساواة"، أحد أهم الفصائل الدارفورية في تلك الحرب الأهلية، وبزعيمها خليل إبراهيم، رأى البشير أن يطلق سراح الترابي في أخريات عام 2003م عله يكون "قد وعى الدرس" وأنه قد يساهم في إقناع "حركة العدل والمساواة"، بعدم جدوى الحرب. غير أن الترابي فعل نقيض ذلك تماما، فأعاد البشير اعتقاله في مارس من عام 2004م، وحظر نشاط حزبه.
وعلى جبهة الجنوب استطاعت الحكومة تحقيق نصر بتوقيعها اتفاقية السلام الشمال مع الحركة الشعبية في يناير 2005م. وفي 9 يوليو في ذات العام أعلن عن قيام "حكومة الوحدة الوطنية" التي أدخل فيها عددا من الجنوبيين. وبهذا استقرت الأوضاع للبشير فأطلق سراح الترابي مجددا، مؤملا أن يساهم في تهدئة الأوضاع في دارفور بحكم علاقاته التي سبقت الإشارة إليها. غير أن تلك الحركة شنت هجوما جريئا على العاصمة يوم 10 مايو 2008م هز سمعة النظام العسكرية والسياسية. واتهمت الحكومة الترابي وجماعته بتحريض الدارفوريين وبث الفرقة بين قبائلهم. ورد معسكر الترابي بنفي ذلك، واتهموا الحكومة وحلفائها بارتكاب مجازر وتطهير عرقي. وأعلن الترابي صراحةً عن تأييده لتسليم البشير لمحكمة العدل الدولية بلاهاي. وعلى إثر ذلك تم اعتقال الترابي مجددا في 14 يناير 2009م في سجن كوبر لمدة شهرين كاملين.
وتم في أبريل من عام 2010م انتخاب البشير لدورة رئاسية جديدة، محرزا نحو 68% من الأصوات. ووصف الترابي تلك النتيجة بأنها "مزورة"، وقضى بقية العام في الهجوم اللفظي على البشير ونظامه، فقام البشير بسجنه مرة أخرى في يوم 19/1/2011م، ولم يطلق سراحه إلا في يوم 3 مايو من ذات العام تحت ضغوط من عائلته وأتباعه الذين زعموا أنه تعرض لتسميم في السجن أدى لمرضه.
وفي بداية عام 2011م، وفي غضون ثورات الربيع العربي التي هددت بسقوط حكام دول مجاورة للسودان، زاد الترابي من هجومه على نظام البشير ودعا الشعب للإطاحة به. وبعد سقوط نظام القذافي وبعد انفصال جنوب السودان ضاعف الترابي من هجومه على النظام ورئيسه، وانتقد التفريط في وحدة البلاد، وعد ذلك "غلطة سياسية وجرما شنيعا"، وكرر الدعوة للجهاد وإسقاط النظام في عامي 2012 و2013م.
وفي خريف 2013م (حين اكتملت هذه الدراسة) قامت مظاهرات عنيفة ودموية في شوارع الخرطوم ضد إخفاقات الحكومة في مختلف مناحي الحياة. وكان الترابي من مناصري المتظاهرين.
____ ____ ___
وعلى الرغم من إزاحته من السلطة في 1999م، بقي تراث الترابي الأيديولوجي والسياسي واضحا وباقيا عند كثير من الدوائر في السودان وفي بعض المجتمعات الإسلامية في خارجه. وظل شخصيةً محترمةً ومؤثرةً في نظر الإسلاميين والدوائر السياسية – الإسلامية (العالمية) في الثمانينات والتسعينيات. ويمكن وصفه بأنه أمهر شخصية (إسلامية) كاريزمية بارعة في التكتيك السياسي، وأكثر الإسلاميين تأثيرا في مجال التشريع الإسلامي بالسودان. وكانت له مقدرات هائلة على تجنيد وحشد وتعبئة الجماهير، وأستطاع أن يجعل جبهته الإسلامية القومية القوة السياسية الثالثة بالسودان في عام واحد فقط.
ولسوء حظ الترابي، كان قد واجه خصما سياسيا له ذات المهارة في المكائد السياسية، وله رغبة قوية في البقاء بالسلطة. غير أنه (كما قال البشير) لم يكن هنالك مكان لرئيسين في مركب السودان التي تطفو بِالْكَاد فوق مياه السودان المتلاطمة الأمواج.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء