------
لماذا لا يُعير الناسُ أهميَّةً للتغيير الذي حدث على المستوى التكنولوجي ويتحدثون عن التغييرات السياسيّة وكأنها هي التي حَدَثَت؟! كأنها هي الفاعلة، وكأن عالم اليوم، المشحون بالثورات إلى آخر قطرة دمٍ، إنما حدث لدوافع سياسية ومعيشيّة فقط، ولمطالب الحريّة والعدالة دون النظر، أو مجرّد التفكير، في أن ما يحدث هو انعكاس طبيعي لثورة التكنولوجيا؟!.
نعم، وبالتأكيد، ما يحدث هو ثورة جسديّة حقيقيَّة، أي أنها أشرقت، أو أغربت، بدواعٍ جسديَّة تتعلَّق بالتشديد الساحق الذي أعملته سياسات العالم لتجريد الجسد من دمه ومائه وبسمته وضحكته وفرحته، صحيح! لكن هنالك بعد آخر:
تمّ مسحُ الزمان والمكان بصورةٍ فظيعة، بل تمّ مسح الحدود السياسيّة والثقافيَّة والدينيَّة، تمّ مسح الذكر والأنثى، تمَّ مسح الصغير والكبير، مُسِحَ الكاتب المبجّل والدكتور والبروفيسور، مُسِحَت مقامات رئيس التحرير وسكرتيره ومدير تحرير الصحيفة، مُسِحت الصحيفةُ ذاتها، مُسح رئيس الجمهورية ونائبه، مُسِح الشيخ ومريديه. أصبح لكل شخصٍ الحق، كل الحق، في انتقاد من يريد، على مسند الفضاء الرافض للجاذبيّة الأرضيّة.
إننا نُواجه عصراً غيرَ مُفَكرٍ فيه، عصرٌ قَتَل كلمة (الجيل) وسلطة (العمر) وتبعية الفكر والآديولوجيا؛ عصرٌ انهارت معه كل القيم في الوقت الذي ترابطت فيه كل القيم العالمية.
لكن، على عكس ما نظن، وبفبركةٍ إعلاميَّةٍ، ظهرت آيديولوجيا جديدة تُسمَّى (آيديولوجيا الشباب) التي ألبسها الإعلام التافه سلطة ليست في يدها منذ (هرمنا) وإلى سلطة الحركات الشبابيَّة في مصر التي سحقت حركة الإخوان المسلمين عبر هيمنة جميع رموز التمثيل والدراما المصرية دفاعاً، مشروعاً، عن وجودهم، ولكن بسذاجة انصياعهم لحركة سوق رأس المال العالمي.
في عالمٍ كهذا، علينا أن ندرك أن لا عمرَ يُحدّد ولا جيل يَحكم. إن الفكر الجديد، والثقافة الجديدة التي يمكن أن تُدرِك مآلات سيطرة النظام العالمي؛ إن التشرّد الذي أشعل حركة الـ(99) في أمريكا ذات العماد لم تنتم لجيل، وعندما عايشت الحركة الثقافية في كينيا أو يوغندا فلم يكن الأمر أمرَ شباب أو بتاع، كانت المواجهة تتم ضد الفكر التافه وضد العنصرية والطبقية. إلا أن ما حدث، بعد اندلاع الثورات العربيَّة، أورث، في سوداننا، سلطةً لمن يدّعون أنهم (حركات شبابيَّة)، لدرجة أن جميع الأحزاب المعارضة والحكوميَّة، ظلّت تردد أن مطالب (الشباب) من أولوياتهم. هوي ها؛ شباب شنو؟ أي نعم كل حراك العالم، منذ البدء، كان، ولا زال، على يد الشباب، والتضحيات الجسام تمت على يدهم، منذ الجامعات وإلى المظاهرات التي استشهد فيها الكثير، بل كان لهم اليد العظمى، كذلك، في تخريب العالم منذ الحروب العالمية انتهاءً بحروب الجنوب والشرق والغرب والشمال السوداني.
إلا أن منح السلطة التفاوضيَّة لهم لهو في عداد الخوف الإعلامي، أو، ربما، التباهي الإعلامي بأننا: شغالين بيكم. على ما يُدعَى بالـ(الحركات الشبابية) رفض هذه السلطة، وعليهم بالابتعاد عن آليات العمل السياسي تماماً، وعليهم أن يُدركوا أن ما يحتاجه الشعب هو المعلومات والمعرفة، وليس التبجّح بالنضال ضد أية سلطة. قال أستاذنا محمود محمد طه أن الشعب السوداني شعب أصيل ولكن تنقصه المعلومات. إن الذكاء الذي عايشته في هذا الشعب، إن كان من شعب في هذا العالم، يفوق ما عايشته في رحلاتي في إفريقيا وأوربا. لا لشيءٍ سوى لشعوري العميق بالأمان، منذ أن لَمِسَت قدمي جنوب السودان في جوبا ومنها إلى الخرطوم. الأمان يا حبيبي الأمان!
عثرنا أخيراً على ثورةٍ في التكنولوجيا من الممكن أن تُخرجنا من هذا الهم والغم، لم يعد للدول من سلطات، والحدود السياسية أضحت أكذوبة؛ الغابة كامنةٌ في الكلّ، والنهرُ جارٍ في عروق الجميع. وإن كان من بركانٍ حقيقيٍّ فإنه بركان الجحيم الغامر لكل حدثٍ إنسانيٍّ يحدث الآن. انفضح خواء السياسيين وغَربت شمسهم. فإن كان من حلٍّ فإنه يكمن في الاستماع الحقيقي لما يُكتب ويُدوَّن في الفضاء الذي يُسَمَّى فضاءً سائباً.
نعم، تمَّ إفقارٌ كليٌّ للعالم في حادثةٍ لن تتكرر في التاريخ، صَحِبَ ذلك ثورةً تكنولوجية ألغت الزمان والمكان بطريقةٍ لن تحدث مرةً أخرى في التاريخ أيضاً (الحمد لله) لأن الرأسماليَّة حملت جرثومة موتها في داخلها بالتنافس التجاري على ابتكارات التكنولوجيا، ذلك لَحَم العالم المُجبر على الإفقار، ذلك لَحَم قلوب الناس، ذلك ما أشرَقَ مادة الحب القديمة التي تعمل، منذ الأساس، وبقوانين الطبيعة، على الخلق والجمع بين البشر. إنهم يظنون أنهم لماكرون، والله خير الماكرين.
إن الاستعمار، بكل أشكاله، زَرَع هذه اللغة التي نتخاطب بها جميعاً في عقول الناس، ودرَّسها، وهذه غنيمة حرب (كاتب ياسين)، لكن الحدث الجديد هو أنني الآن، وفي هذه اللحظة، أخاطب الكبار والصغار، أخاطب الكون كله، بهذه الأزرار الصغيرة على كمبيوترٍ صغير. إن الاستعمار، والحروب العالميَّة، والدكتاتوريات، جميعها، في ظني الشخصي، لهي عمليات معانقات حبٍّ سريَّة، تُفَتِّت التفكير القديم، وتخلق تفكيراً جديداً في كلِّ حين، وإنها الجحيم الأرضي الذي تحدث عنه أستاذنا محمود محمد طه؛ جحيم التعليم الذي أُرِيدَ به الخير؛ النار الفاتنة، والحفرة السحيقة التي يُبعث منها الإنسان.
علينا أن نُفكِّر في التاريخ بحياةٍ أكثر، علينا أن نتنَفسَّه بدلاً عن شتمه واعتباره ملكاً للأجيال التي تعيش فيه. وتعيش لأجله. إن الحب، هذه المادة الطبيعية الأساسيَّة، هي ما يُشكِّل رأس السهم الذي يُقلِقُ الريح، ويُشكّكها في معنى حركتها، هو الذي يُشَكِّك في تكوين النار للصخر والجبال، وما يُعين النهرَ على أن لا يكون النهر ذاته مرتين.
إن النظر في قوانين الطبيعية؛ تشكيل البذرة للشجرة، انعكاس ضوء الشمس وتحليق الطيور عبرها، ظلال اليد العاملة على الخشب، وافتراس الحيوانات لبعضها البعض، يُشير، بسلاسة، إلى أن أبشع الكائنات، وأقلّها إدراكاً للقانون، هو هذا الإنسان الذي يُصر على تدمير هذا القانون. وبسلاسة.
ــــــــــــ
نُشر بصحيفة الرأي العام (6 فبراير 2014)
eltlib@gmail.com