بيتر هولت Peter M. Holt ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي تقديم: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الثاني والأخير من مقال طويل لبروفيسور بيتر هولت عن "عائلات الأولياء الصالحين والإسلام في السودان" تم نشره ككتيب صغير في عام 1967م ضمن سلسة "أوراق الشرق الأدنى" التي أصدرتها جامعة بريستون. وكان المقال قد قُدم في شكل محاضرة ألقاها الكاتب ضمن برنامج دراسات الشرق الأدنى بجامعة بريستون في يوم 11/10/1966م. عين البروفسور المؤرخ هولت (1918 – 2006م) عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. وعاد بعد ذلك إلى بلاده وعمل في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بين عامي 1955 – 1982م إلى حين تقاعده. ونشر الرجل في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالا أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان: The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle 910-1288/1504-1871. تعلم هولت اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم كتابين من الألمانية والفرنسية (انظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (http://www.independent.co.uk/news/obituaries/professor-p-m-holt-426133.html) ******* ******* ******** ******* دخلت الطريقة السمانية السودان النيلي على يد رجل يقال له الشيخ أحمد الطيب بن البشير (المولود في عام 1742 أو 1743م)، كان قد التحق بتلك الطريقة في المدينة على يد مؤسسها (الشيخ محمد بن عبد الكريم السمان) في عام 1758م. والشيخ أحمد الطيب بن البشير هو ابن حفيد الولي الصالح محمد بن سرور، الذي أتينا آنفا على صعوبة تتبع أصل سلالته. وبذا يعتبر الشيخ أحمد الطيب بن البشير من عائلة أولياء صالحين راسخة ولكنها صغيرة نسبيا وغير مشهورة، إذ أنه لم يرد من أفرادها في كتاب "الطبقات" غير محمد بن سرور. غير أن تلك العائلة وجدت في عهد الشيخ الطيب انتشارا جديدا وقويا، فاق ذلك الذي صادفه نسل غلام الله الذين أتوا بعد أبناء جابر الأربعة. وآب الشيخ الطيب للسودان قُبَيلَ عام 1776م بعد قضاء سنوات طويلة بالحجاز ومصر. وفي السودان نال الشيخ شهرة عظيمة بحسبانه معلما صوفيا وصاحب كرامات ومعجزات. واتخذ من أم مرحي بشمال أم درمان (حيث كان هنالك مسجد وقبر الشيخ محمد بن سرور) مقرا رئيسا له. ولكنه قام بزيارات مطولة لسنار وما جاورها من القرى أصابت في البدء نجاحا كبيرا، تلبية لدعوة زعيم الهمج ناصر (ولد بادي أبو شلوخ). وربما حدثت تلك الزيارة في الفترة بين عامي 1785 و1798م. وفي غضون أيام زيارته لسنار وُفق الشيخ الطيب في علاج أحد إخوة الزعيم ناصر، فأمر له الزعيم بقطعة أرض واسعة بالقرب من سنار، أقام فيها الشيخ لسبعة أعوام متصلة. ولكنه غادرها (مغاضبا) بعد أن دخل في نزاع مع ولي صالح آخر في المنطقة، وعاد إلى أم مرحي إلى أن توفي في عام 1824م. ولا شك أن الشيخ الطيب كان في سنوات حياته بالسودان قد أفلح في تأسيس طائفة من المريدين والتابعين للطريقة السمانية. وبقيت زعامة الطريقة في نسله من بعده. وعن طريق أحمد الطيب تحولت عائلته من عائلة ثانوية إلى أهم عائلة أولياء صالحين في السودان. ولم يفلح أحد في تكرار مثل ذلك الإنجاز سوى شيخ أصغر منه كان من معاصريه، وهو محمد عثمان الميرغني في بدايات ومنتصف عقود القرن التاسع عشر. ومن المعلوم أن عائلة الميرغني كانت تقطن في وسط آسيا (كان أحد أباعد أسلافهم يدعى ميرخورد البخاري)، ولكنهم سكنوا مكة والطائف بالحجاز في منتصف القرن الثامن عشر. وكان عبد الله بن إبراهيم الميرغني (المتوفي في عام 1792 أو 1793م) من كبار رجال الصوفية البارزين، وكان يزعم لنفسه نسبا شريفيا. وظهر نعي للرجل في صفحتي 240 – 241 من الجزء الثاني لـ "كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لعبد الرحمن الجبرتي. وكان محمد عثمان (حفيد عبد الله بن إبراهيم الميرغني، المشهور بعبد الله المحجوب) من تلاميذ أحمد بن إدريس الفاسي الذي تأثر بكتاباته وتعاليمه أهل التصوف المجددين، وكذلك أهل الإصلاح والتشدد من الوهابيين ((انظر المقال المترجم بعنوان "أَبْنَاءُ الإمام الغائب: نسب عائلة الميرغني". المترجم). وقام محمد عثمان الميرغني، وهو في السادسة والعشرين من العمر، بطلب من معلمه أحمد بن إدريس الفاسي، بجولة دعوية (في الأصل دعائية) لمناطق مختلفة في السودان في عام 1818 أو 1819م، أي قبل عام أو عامين من الغزو التركي – المصري. وقضي الميرغني وقتا في دنقلا وفي كردفان (وكانت وقتها تحت إدارة حاكم مكلف من قبل سلطان دارفور)، وفي سنار، عاصمة سلطنة الفونج. وقوبل الرجل بمعارضة شديدة في كل من كردفان وسنار، ولكنه رغم ذلك كسب بعض المؤديين. وعقب وفاة أحمد بن إدريس الفاسي، أعلن محمد عثمان الميرغني عن طريقته الصوفية الخاصة، سماها البعض "الميرغنية"، ولكنها عرفت بصورة واسعة بالطريقة الختمية. وتوفي محمد عثمان الميرغني في عام 1855م، وخلفه على زعامة الطريقة ولده (من أم دنقلاوية) الحسن. وحفيد الحسن (السيد/ علي الميرغني) هو الزعيم الحالي لطائفة الختمية (قد يكون تاريخ وفاة محمد عثمان الختم مختلفا عما أتى في هذا المقال، فقد ذُكر في مواضع كثيرة أنه توفي عام 1268هـ. وتوفي السيد على الميرغني في 1968م، وخلفه ابنه محمد عثمان في زعامة الطائفة. المترجم). وجذبت طائفتا السمانية والختمية الكثير من المؤيدين على حساب الطرق الصوفية الأقدم. وكان هذا هو ما أفضى لبعض العداء والتوتر في العلاقات بين تلك الطوائف. ولعل ذلك الشقاق كان سببا في هجر الشيخ الطيب لمنطقة سنار وأوبته لموطن أسلافه في أم مرحي. غير أن طائفة الختمية كانت قد نالت نصيب الأسد من ذلك العداء. ولا عجب، إذ أن مقدم محمد عثمان الميرغني للسودان كان في نفس أعوام الغزو التركي – المصري للبلاد، وكان كثير من السودانيين يرون ارتباطا ما بين الحدثين المتزامنين. وورد في مخطوطة كاتب الشونة (في نسختها الصادرة من القاهرة ؟ عام 1961م) أن أحمد بن إدريس الفاسي قال بأن ما حاق بالسودان سببه هو أن أهله أساؤوا الأدب مع محمد عثمان الميرغني. ولكن بعد أن استقر الأمر للحكم التركي – المصري بالبلاد، ازدهرت طائفة الختمية وازدادت أعداد أتباعها. وفي هذا كتب المؤرخ اللبناني نعوم شقير في كتابه "تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته، 1903م" ما نصه: "ومما ساء الأهالي أيضا، وعلى الخصوص رؤساء الطرق تمييز المرغنية على سائر الطرق الصوفية في السودان حتى كثر أتباعهم وعظم جاههم، وهذا وإن لم يكن صريحا من أصل الحكومة بمصر، فهو مسبب عنها، فإن الحكام وأهل النفوذ من رؤساء الأقسام ليسوا من أهل السودان، وعاداتهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات تختلف عن عادات أهل السودان فمالوا إلى مخالطة المرغنية للمشاكلة أولا، ولانتساب المرغنية إلى مكة المشرفة ثانيا، وبسبب ذلك مال عليهم عساكر الشايقية عموما لتقربهم من رجال الحكومة، ودخلوا في سلكهم حتى صار كل سر سواري يهدي اليهم مرتبه ومرتب رجاله شهريا في كل سنة، فازدادت بذلك صولة خلفاء المرغنية وصاروا يتطاولون على رؤساء الطرق الأخرى بالشتم والاهانة، فحقدوا عليهم وعلى الحكومة التي كانت سبب (سببا) في تعظيم شأنهم". واضمحلت، على وجه العموم، مكانة رجال الدين (الفُكيا إن صح جمع فكي) والبلاد تحت سيطرة الحكم التركي – المصري، رغم أن ذلك النظام كان متسامحا معهم، ودأب على تقديم العطايا لخلاويهم. غير أن الحكم التركي – المصري أنشأ طبقة هرمية رسمية من "العلماء"، ورفع من قدرهم وهيبتهم، وأسند إليهم بعض الوظائف السياسية، مؤثرا إياهم على الفُكيا وسهلت الحكومة على السودانيين الراغبين السفر لمصر والالتحاق بالأزهر. وأفضى ذلك لتعرض الخلاوي السودانية التقليدية لتحدٍ صعب من مفسرين ثِقات للعلوم الإسلامية، رغم أن غالب السودانيين ظلوا منجذبين بشدة لتعليم الخلاوي التقليدية. وظل ذلك التنافر والشقاق بين "العلماء" وفُكيا الخلاوي لنحو ستين عاما، وظل شقاقا محتملا أكثر منه حقيقيا. وكانت الاختلافات بين المجموعتين في بعض الحالات مُعَمّية أو مخفية. ومن أمثلة ذلك عائلة فكي في كردفان اسمه بشارة الغرباوي، ذي أصول دنقلاوية (وينسب أيضا للبديرية الدهمشية. المترجم). وكان بشارة قد تلقى العلم على يد شيخ يقال له إبراهيم البولاد، واتسعت شهرته في القرن السابع عشر. وحصل بشارة على منحة أرض من بادي الثاني سلطان الفونج (1644 – 1680م)، أكدها لورثته السلطان بادي الرابع في عام 1732 أو 1733م. وأستقر من أبناء الجيل الرابع لأحفاد بشارة تاجر اسمه عبد الله في كردفان. وعمل من بعده ولده إسماعيل، المعروف بالتقوى وسعة العلم، بتدريس العلوم الدينية. وارتبط إسماعيل لفترة من الوقت بالشيخ أحمد الطيب. ولم تنقطع تلك الصلة إلا بعد مقدم محمد عثمان الميرغني لكردفان، حين هجر إسماعيل شيخه أحمد الطيب ومال للميرغني وغدا من أكبر أتباعه. ثم أنشأ في كردفان عام 1842م طريقة متفرعة من الطريقة الختمية ولكنها مستقلة عنها اسماها "الإسماعيلية"، كان كل أتباعها في كردفان. وبلغ من سمعة وتأثير تلك الطريقة على مريديها أن أطلقوا على شيخها إسماعيل لقب "الولي"، أي الرجل الصالح صاحب "البركة". وعلى غير عادة الأولياء الصالحين لم يزعم إسماعيل لنفسه قط نسبا شريفيا، بل اكتفى بنسب عباسي (أي جعلي). وترك إسماعيل الولي من بعده ولدين، خلفه أكبرهما (محمد المكي) على زعامة الطريقة في عام 1863م إلى أن توفى عام 1906م (أنجب إسماعيل الولي بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبيديا 13 ولدا و6 بنتا. المترجم). وكان محمد المكي من أوائل المؤيدين للمهدي في دعوته بكردفان. أما الأبن الأصغر أحمد فقد كان له مسار ومصير مختلف جدا. فقد سافر لمصر لتلقي العلم الشرعي في الأزهر، وبقي فيها لاثني عشر عاما متصلة، ثم عاد لكردفان للعمل بالتدريس. وخلافا لأخيه الأكبر، كان أحمد ينكر الدعوة المهدية إنكارا تاما، بل وحاربها وكتب في دحضها بيانا شهيرا (مانفستو) في عام 1882م. وعين بعد ذلك أحمد المكي قاضيا ومفتيا في غرب السودان المصري إلى أن قتل مع بعض أتباعه في معركة ضد أنصار المهدي. وأدي ولده إسماعيل الأزهري (1868 – 1947م) دورا بارزا كقاضٍ شرعي خلال سنوات الاستعمار الباكرة، وتسنم وظيفة مفتي السودان. وصار حفيده (إسماعيل الأزهري) أول رئيس للوزراء في السودان في يناير 1954م، وقاد البلاد حتى تم لها الاستقلال. ويمكن لنا أن نلحظ الدور الذي أداه إسماعيل الولي في أسلمة كردفان، الذي يعد مثالا خاصا لظاهرة شائعة. فقد انتشر الإسلام في كردفان، وفي دارفور ووداي أيضا، بفضل مجموعات نوبية مستعربة (أي جعليين ودناقلة) من مناطق نهر النيل. وأبقت كثير من العائلات والجماعات في الغرب على تقاليد اسلافهم التي تعود لعصور بعيدة. وتوجد على سبيل المثال بعض أساطير المنشأ (foundation legends)، تلك التي ورد فيها أن حكيما غريبا أقبل من جهة النهر لنشر التمدن والتنوير في أوساط الأهالي الأصليين، وتزوج من فتاة من العائلة المالكة. ولعل هذا قد حدث مع العائلة المسلمة التي كانت تحكم مملكة تقلي في جبال النوبة، وسلالة الكيرا الذين أتى منهم سلاطين دارفور. وهناك أيضا الدولايب في شمال كردفان الذين يدعون أنهم من نسل (الشيخ) غلام الله عن طريق أحد أولاده (ركاب)، وليس عن طريق أسلاف أولاد جابر. وبعد ستين عاما من الحكم التركي – المصري، هددت حركة المهدية، ثم أطاحت لاحقا، بحكم الخديوي للسودان. وكانت أسباب قيام تلك الحركة متداخلة ومعقدة. غير أن واحدا من تلك الأسباب كان بلا ريب هو أنها كانت وسيلة من وسائل احتجاج القيادة الاسلامية المحلية التقليدية بالبلاد ضد النظام الحاكم الذي قام بإضعاف مكانتها وهز وضعها في المجتمع. وبهذا الفهم، فقد كانت حركة المهدية هي في الأساس حركة فُكيا، وكان من المناسب جدا أن يقود تلك الحركة رجل دين صالح تلقى العلوم الشرعية في الخلاوى على يد شيوخ تقليدين. وظهر في المشهد محمد أحمد المهدي بحسبانه ممثلا لعائلة آخر الأولياء الصالحين في السودان. وعند دراسة تاريخ عائلات الأولياء الصالحين الأربعة الذين أتينا على ذكرهم (غلام الله وأحمد الطيب والميرغني وإسماعيل الولي) نلحظ أن ظهورهم جاء على مرحلتين: ففي المرحلة الأولى كان مؤسس العائلة (أي أول ولي صالح فيها، وليس أول سلف مشهور فيها) قد عرف بين الناس بأنه ولي صالح، وربما يزعم لنفسه نسبا شريفيا. أما في المرحلة الثانية فقد تعود هيبة وسمعة العائلة بعد غياب امتد لأجيال، ويظهر في العائلة من يقوي تلك السمعة ويدفع بها للأمام. وهذا ما ظهر في عائلة المهدي. فقد عرفت عائلته بالتقوى منذ ستة أجيال سابقة، قبل أن يعد محمد أحمد هو "مؤسس" تلك العائلة، التي كانت تقطن بالقرب من دنقلا وتزعم لنفسها نسبا شريفيا. ولا يعرف شيء عن أفراد تلك العائلة قبل ظهور عبد الله والد محمد أحمد المهدي. كان الرجل يعمل في صناعة المراكب، ويذهب عبر النيل لمناطق قريبة من الخرطوم بحثا عن الأخشاب. وعمل أولاده في ذات الحرفة بعد وفاته، عدا محمد أحمد، والذي سلك طريق تعلم القرآن والعلوم الشرعية في الخلاوي، وصار صوفيا على الطريقة السمانية. غير أنه شاقَّ شيخ طريقته محمد شريف نور الدائم. ومنذ ذلك التاريخ بدأ رويدا رويدا في الانعتاق والاستقلال من الطرق الصوفية وشيوخها حتى يوم 29 يونيو 1881م، حين أعلن للناس أنه "المهدي المنتظر". وأحرز المهدي في السنوات الأربع التالية انتصارات ميدانية حولته من قائد لمجموعة صغيرة من المسلمين الأتقياء في بقعة صغيرة بعيدة من أرض السودان المصري إلى قائد دولة إسلامية ذات سيادة، في وقت تزامن مع اهتزاز حكم خديوي مصر (نتيجة لثورة عرابي وما تلاها من احتلال بريطاني). وكان لانتصار محمد أحمد المهدي وتأسيسه لدولته أعظم الأثر على عائلات الأولياء الصالحين بالسودان. فقد دفعت تلك الثورة للأمام بأفراد ومجموعات لم تكن لها في الماضي سوى أهمية ضئيلة، وأحدثت تفاعلات متباينة في أوساط عائلات الأولياء الصالحين المعروفة. وكان أوضح وأكثر المستفيدين من نجاح حركة المهدية هم أقرباء محمد أحمد المهدي، والذين صاروا يعرفون في النظام الجديد بـ "الأشراف". غير أن ظهورهم في تلك المرحلة لم يدم طويلا. ففي غضون سنوات المهدي لم يتح لهم المجال لاحتكار السلطة. فقد عين المهدي له ثلاثة خلفاء كان ثالثهما هو الوحيد من أقرباء المهدي (وهو خليفة الكرار محمد شريف). ولم يكن من بين طبقة هؤلاء الأشراف من له سلطة أو نفوذ حقيقي في الدولة الجديدة سوي ثلاثة أو أربعة رجال فحسب. غير أنهم لم يكونوا محبوبين من العامة، ربما بسبب تفاخرهم بين الناس بكونهم مجموعة أو طبقة تمت بصلة القرابة لقائد الدولة. بل خطب المهدي في الناس قبل عشرة أيام فقط من وفاته منددا بهم. لذا لم يكونوا في أفضل حال لاستلام دفة قيادة الدولة بعد وفاة المهدي في 22 يونيو 1885م. وانتقلت قيادة الدولة المهدية إلى الأول من بين الخلفاء الثلاث (الخليفة عبد الله بن محمد)، رغم محاولات الأشراف في عامي 1886 و1891م الاستيلاء على السلطة، التي كانوا يرون أنهم أحق الناس بها. وكان ذلك التحول في السلطة عن عائلة المهدي (الشريفية) وانتقالها لفرد من العامة يشابه مصادفةً وبصورة غريبة ما حدث في دولة الموحدين (السلالة الأمازيغية التي حكمت بلاد المغرب بين عامي 1121 و1269م. المترجم) قبل ظهور دولة المهدية بنحو 750 سنة. ففي تلك الدولة تولى السلطة بعد وفاة مؤسسها محمد بن تومرت المهدي خليفته عبد المؤمن بن علي. ولما أزاح الخليفة عبد الله أي منافس له من الأشراف، غدا بمقدوره تكوين سلالة حاكمة سودانية كان أصلها من خارج حدود السودان المصري، وتحديدا بين وداي وبرنو (ولاية تاريخية في غرب أفريقيا). وكان جده قد توجه شرقا لأداء فريضة الحج، وفي الطريق لمكة، طاب له المقام مع بقارة التعايشة في دارفور وتزوج من إحدى فتياتهم. وكان والد (الخليفة) عبد الله معروفا بشدة التدين وبالعمل عرافا يتنبأ للقبيلة بنجاح أو فشل ما عزموا عليه من غزوات. وقام عبد الله بنفسه بأخذ عائلته شرقا في وقت ساده الاضطراب الذي أعقب ضم الخديوي لدارفور في 1875م. ثم التقى بمحمد أحمد قبل أن يعلن الأخير مهديته، وصار أحد تلاميذه أتباعه، وحثه على إعلان المهدية. وبعد أن استقر للخليفة أمر حكم الدولة، قرب إليه أفراد قبيلته التعايشة، ومنح أقربائه على نحو خاص أعلى الوظائف. وعمل أخاه غير الشقيق يعقوب كوزير له، وكانت له سلطات واسعة في كثير من الأمور الإدارية. وكان الخليفة في سنواته الأخيرة يعد ولده عثمان لخلافته. وكان عثمان (الذي يحمل اللقب الشرفي "شيخ الدين") فيما يبدو شابا ذكيا مستشرفا للمستقبل، وكان يعمل مع عمه يعقوب كواحد من أهم مستشاري الخليفة المقربين، خاصة عند اقتراب الجيش الإنجليزي – المصري، الذي قام في نهاية المطاف بإسقاط نظام سلالة الخليفة، ليس بالضرورة بسبب ضعف داخلي في الدولة المهدية، بقدر ما هي بسبب القوة العسكرية والتقنية الضاربة التي كانت تتمتع بها القوات الإنجليزية – المصرية بقيادة كتشنر. وقُتل يعقوب في ساحة القتال عام 1898م، وقُتل الخليفة في العام الذي يليه. أما عثمان شيخ الدين فقد أُسر (في المعركة مع الخليفة في أم دبكيرات)، ومات في محبسه في سجن رشيد بالدلتا المصرية في 1900م. وكما أسلفنا فقد كان الفُكيا وعائلات الأولياء القديمة هم أكثر من أيدوا المهدي في بدايات دعوته. وجلب هؤلاء الكثير من الأنصار للمهدي. فقد كان محمد المكي قد دعا محمد أحمد لداره في الأبيض، عاصمة إقليم كردفان حتى قبل إعلانه للمهدية. وكان هنالك الفكي المنا إسماعيل، أحد شيوخ السمانية الذين كان الجيل الخامس من أسلافه قد هاجروا للغرب من مناطق الجعليين. وأرتبط الفكي المنا بمجموعة من البقارة الذين أتوا للاستقرار في كردفان من دارفور. وكان في عائلته عدد من الفُكيا في بعض قبائل الرحل (مثل الجِمع والجوامعة). ولهذا تيسر للفكي المنا أن يجمع حول المهدي عددا كبيرا من رجال القبائل المختلفة. وكان له في بدايات الثورة المهدية قوة ونفوذ، غير أن طموحه تصادم مع طموح الخليفة فقتله المهدي في 1883م (انظر المقال المترجم بعنوان: "الفكي المنا: فكي وأمير في كردفان" بقلم أ. ر. بولتون. المترجم). وفي الشرق انضم للحركة المهدية رجال البجا القاطنين في تلال البحر الأحمر الذين كانوا من أتباع المجاذيب. وكما ذكر الرحالة السويسري بيركهاردت فقد كان المجاذيب قد بسطوا منذ القرن الثامن عشر نفوذهم (الديني) في أوساط البجا القاطنين بين الدامر وسواكن. ولما أقام الحسن الميرغني في منتصف ذلك القرن مركز طائفته بالقرب من كسلا، أشعل ذلك نار المنافسة بين المجاذيب والختمية على نيل تأييد قبائل شرق السودان المصري. ولما ظهر المهدي، أختار الميرغنية (الختمية) الثبات على الولاء لحكومة الخديوي، بينما آثر المجاذيب الوقوف في صف المهدية. ووضح ذلك جليا عندما أرسل المهدي التاجر عثمان دقنة أميرا على منطقة الشرق، وقابله ممثل المجاذيب في المنطقة (شيخ الطاهر الطيب المجذوب) بكل حفاوة. وكان ذلك الشيخ هو من استقطب آلاف البجا لصفوف جيش المهدي. لقد أفلح عثمان دقنة في إشعال حرب عصابات طويلة في سواكن وتلال البحر الأحمر كما هو معروف في تاريخ المهدية. غير أنه يجب أيضا ذكر أن من أهم أسباب النجاحات الأولى لعثمان دقنة كان هو قرار شيخ الطاهر تأييد المهدية. وبدأت مع المهدية مرحلة جديدة من تاريخ عائلات الأولياء الصالحين بالسودان. ورغم أن المهدي لا يمكن أن يوصف بأنه "قائد وطني" إلا من باب التعميم الفضفاض، إلا أنه كان يختلف عمن سبقوه من الفُكيا في اهتمامه الواضح بالجوانب السياسية، وفي منظوره الشامل والواسع لغاياته. وكان محمد أحمد باتخاذه للقب "المهدي" قد نسب لأفعاله "سلطة إلهية مباشرة"، الشيء الذي جعله متفوقا على حكومات الخديوي (المصري) والسلطان (التركي)، الذين دأب على وصفهما بالكفر. وقنن المهدي لثيوقراطية إسلامية (عبر منشوراته وأحكامه القضائية) صنع لها هيكلية إدارية، وعين على رئاستها بعض كبار أنصاره. وكان يؤمل أن تعم ثيوقراطيته تلك كل أرجاء العالم. غير أن ذلك كان أمرا نظريا محضا. فمن ناحية عملية لم يقم المهدي بالنظر جديا إلى أبعد من حدود السودان – المصري القديم. وفي واقع الأمر لم تشمل حدود الدولة المهدية في أفضل أيامها كل مناطق السودان – المصري. ورغم ذلك فيجب القول بأن المهدي وخليفته كانا قادة سياسيين أصحاب سيادة على مستوى تصغر بالمقارنة معه كل إنجازات المجاذيب حكام الدامر السابقين. وكان من نتائج المهدية استقطاب إسلام السودانيين وتوزعهم على مجموعتين: الأنصار (أتباع المهدي) والختمية (أتباع الميرغني). وتراجع أتباع عائلات الأولياء الصالحين الأخرى (رغم قدمها) إلى خلفية المشهد. ولم يكن ذلك الانقسام واضحا عند بدايات العهد الإنجليزي – المصري. فقد خبا نجم عائلتي المهدي والخليفة في تلك السنوات الباكرة، وحصدت عائلة الميرغني وأقربائه ثمار سبق ولائهم للخديوي، ونالوا تعويضات مجزية عما حاق بهم من تشريد ومعاناة في عهد المهدية. وكان الفضل في عودة السلطة والنفوذ الديني والسياسي لعائلة المهدي بعد غياب امتد لنحو أربعين سنة يعود لعبد الرحمن بن المهدي (الذي ولد بعد موت والده من أم كانت أميرة في دارفور). وقضى عبد الرحمن فترة صباه وشبابه الباكر في فقر وشظف بالغين، وظل – مع بقية أفراد عائلة المهدي – محل شك وارتياب من حكومة العهد الثنائي التي ظلت تتوجس خيفة من عودة المهدية مجددا. ولم تكتب كاملةً بعد قصة التاريخ الداخلي لعودة حظوظ عائلة المهدي، إلا أن بعض ملامح تلك العودة وأسبابها واضحة الآن. كان الرجل قد شرع تدريجيا في العشرينيات والثلاثينيات في تكوين ثروته، أساسا من القطن المزروع في أراضي زراعية واسعة منحتها له حكومة السودان. وقامت الحكومة أيضا برفع الحظر عن ممارسات أنصاره الدينية، مما مكنه من تجميع عدد كبير من الأتباع المخلصين. وكانت غالبية هؤلاء الأنصار من رجال القبائل البسطاء، إلا أنه كان قد جمع حوله بعض المتعلمين من رجال المدن المتغربين، كان معظمهم من أبناء الجيل السابق للعائلات التي ساندت المهدي. وما أن أتت الحرب العالمية الثانية حتى كان السيد عبد الرحمن المهدي يحظى بذات الهيبة والتقدير التي كان يحظى بها منافسه السابق السيد علي الميرغني. وعلى مثل هذه الخلفية لعائلتي أولياء يتبعهما أنصار كثيرون، وبينهما خلافات مبدئية حادة، ظهرت الوطنية السودانية. فقد وجدت الحاشية المغرمة بالسياسة المحيطة بزعيمي الطائفتين فيهما خير وسيلة لتوصيل أهدافهم ومطامحهم للجماهير، وتحصلت في المقابل على تأييد تلك الجماهير لهم كقيادات وطنية. غير أن عبد الرحمن المهدي، على كل حال، لم يكن قط أداة طيعة في أيادي معاونيه من الساسة. فقد ذكر طرفا من قصة تحوله من طائفة دينية إلى حزب وطني، وقال بأنه رفع في عام 1924م مبدأً ظل ينافح عنه طوال السنين، وهو مبدأ "السودان للسودانيين"، وهو ذات المبدأ الذي تبنته الحركة الاستقلالية في السودان، إلى أن نالت البلاد استقلالها. وقال أيضا: "لقد ظللت أداوم على الترويج لذلك المبدأ، وحرصت على أن أجمع حولي عددا من المتعلمين، بينما كان الأنصار، كما هو العهد بهم، هم السند الشعبي الذي اعتمدت عليه في الترويج لذلك المبدأ". ويبدو أن انهماك عائلة المهدي في السياسة الوطنية ما زال متواصلا. فالسيد الصادق المهدي (حفيد السيد عبد الرحمن المهدي المتوفى في 1959م) هو رئيس الوزراء الحالي (1966م). وعلى الرغم من أن هوية وأدوار عائلات الأولياء الصالحين قد تغيرت وتبدلت في غضون العقود الخمسة الماضية، إلا أنه، بالنظر إلى ما جرى من قبل، فإنه من الجَليّ أن تلك العائلات قد شكلت عاملا عظيما ومهما وباقيا في المجتمع السوداني. ولعل أهم دورين لها في الحاضر والمستقبل هما: تكوين الجماعات السياسية، وأسلمة جنوب السودان. لقد أدت تلك العائلات بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر – كما أسلفنا – دورا مهما في مد حدود الأسلمة جنوبا. وتمددت الآن كثيرا حدود الأسلمة التي وقعت في بدايات في القرن التاسع عشر. ولن يكون من المستغرب إن تواصلت تلك الظاهرة (التي ميزت عمليات الأسلمة في السودان النيلي وكردفان ودارفور) في الجنوب أيضا.