" شفت فيك الدنيا نايرة
أنت أكتر من جميل" (الكابلي)
" ياظل المطر يا دعاش الدرت"
(في وجدان كردفاني)
لو أبصرتنا في رحابة الدنيا مجموعة ذات مساء مررنا من يميننا سينما أم درمان اجتزناها، ويوسف الفكي على يسارنا أضحى، ونحن نمشي ، والمكتبة التي تبيع الكتب العربية وبعدها حانة مدندنة. وفي الركن تماما صيدلية: هل كان اسمها عقباوي، ها قد صار على يسارنا : الآداب: مكتبة الأرباب عبد الله، نضّر الله وجهه الشهم، من هذا الكشك استنار كل المهتمين بالثقافة وبالدين:المجلات والكتب والدواوين،ماترجم حديثا وما صدر هنا. سلسلة مواقف، ثورة في الثورة، جاهلية القرن العشرين، الآداب، المجلة، الأزهر، الفكر المعاصر، الحرية، ثورة على الفكر العربي، الوجود وجود الماجد بشير الطيب، ريش الببغاء. قصة حب ، أنا وهو لمرافيا. الأعمال الكاملة للسياب، مجلة حوار وشعر ومواقف المجلة.
عبد القدوس، مربوع القامة، متين البنيان، شعره منسدل إلى الوراء، وجهه متهلل، ينماث الفرح من حوله كأنه هالة. يعديك بالتفاؤل.
الكلام إيقاعه الرضا والسلام والتصالح مع النفس، عندها أتذكر تماما خطر في بالي أن هذا أجمل ما في الدنيا وأن صاحبي ورفقته ومحمد يوسف موسى، الذي سيكون بيته مربعنا هذا المساء،هم من اجتمعت فيهم محاسن الكون ومشينا ، انعطفنا قبل أن نبلغ منزل عبد الله حامد الأمين،صار نادي حي البوستة الثقافي على يسارنا، حين سمعنا جيلي يقرا شعره لأول مرة. في قبالتنا بيت الشاعر الماجد محمد يوسف موسى، بين: عذّبني وزيد عذابك، وبين ياصوتها لما سرى، تكمن إنسانية محمد، مهما تعذب، سيظل دائما بشوش الوجه، جليل الحضور، مؤنسا برتبة نديم.
في اليوم التالي سيكون ملتقانا حول وجبة الغداء في منزل عبد القدوس، يا أناقة المجلس وروعة الترحيب، لم نكن أكثر من ثلاثة، عند رجل مثلي، يؤثر دائما الامتناع عن زيارة الناس في بيوتهم إلا نادرا، فأجمل ما في البيت الذي أزوره يجب أن يكون ذلك الجمال في أهله وأحلى ما في البيت يجب أن يكون مسلك أهل البيت وحضورهم وليس طعامهم. الجمال الموجود داخل نفوسهم يحول طعامهم إلى أحلى مذاق في الدنيا وأعظم نكهة: نكهة الإنسانية.
ولهذا حين رحلت سيدة البيت أم الأولاد: وكنت ُ بعيدا، أتيت للقاء عبد القدوس وهو لزيم البيت، كنت منهارا ومتوترا، ولكن من الوهلة الأولى استقبلني الرجل بثبات، وعلى وجهه الذي يكاد يضيئ، سمة السمو الروحاني وجلال أهل الله، صفتْ نفسه تماما، فلكأنه روح، سمات الرضا تشع من عينيه وقد زانهما صفاء عجيب، بياضهما صارأكثر بياضا ونقاء.
هذا عبد القدوس محب للدنيا والمتصالح معها، يستقبل أتراحها وبلاياها، بمثل ما كان يتذوق أفراح ها. الصخور تبقى في حال فيضان الماء وانحساره، وقد تتفجّر منها الأنهار.
واضح أن البلايا تصقل معدن النفس وتجلوه مثلما تفعل النار بالذهب.
عبد القدوس قيمة إنسانية نادرة، الحياة عنده تتساوق الثقافة في مجاليها مع السلوك الاجتماعي المغروس في الواقع.
حين جاء إلى الجامعة انتمى إلى السنة التحضيرية المؤدية إلى كلية الطب، ولكنه قضى عامه ذاك في محاضرات الأدب الإنجليزي وقراءة الشعر العربي والإنجليزي، وكان ذهابه لدراسة الطب في موسكو هو نتيجة عامه في السنة التحضيرية، من أول عهده في روسيا دأب على ملاقاة المعاشيين في موسكو، في الحدائق والمنتديات يستعين بهم على تعلم الروسية، ثم قراءة نصوص الشعر الروسي، وانتهت به أعوامه الموسكوفية إلى ذخيرة رصينة من الثقافة ومعرفة عميقة بالأدب الروسي ولا سيما عيونه في القرن التاسع عشر، وعندما تسمعه ينشد الشعر الروسي -مثل شابو أيضا- يدلك الإيقاع البارز لموسيقى الشعر على حسن تذوق له ودراية به.
يأتي إلى الخرطوم موظفا إداريا في الخارجية، خارج نطاق السلك الدبلوماسي: بيت الكلاوي، ( قارن عبد القدوس في سموقه الثقافي بمن ولجوا الخارجية دبلوماسيين في العهد العزيز حتى اليوم) ولم يكن احتفال عبد القدوس بالقراءة، يقترن برغبة في الكتابة والنشر، لقد مكث مليّا، يعيش حياته غير محتفل بذلك، لا يأبه، وضعه دبر أذنه وأشاح عنه! وبرز فجأة بمقالات ساخنة عن الرواية وكيفية تناولها لقضية الجنس في نماذج عالمية، وذلك في مواجهة قصص أحمد محمد الأمين في عود الكبريت، وشعر حمدي الذي لا يعرفه إلا قلة من المثقفاتية، بمنهج مبتدع وقدرة الشجاع على إصدار أحكام متفجرة قائمة على معرفة وتعمق ووعي.
وعلاقة موسم الهجرة بنص لوليامز!
كان أبناء جيله يومئذ سبقوه إلى النشر والشهرة فهو: جيل محمود محمد مدني وعيسى الحلو ومحمد عبد الحي، ومحمد المكي إبراهيم ولعل قوله: جيلي أنا، يتخذ زينته عند عبد القدوس الخاتم.
وبعدها أشرف على صفحة الأيام الثقافية، وأخذ بيد بعض النوق الكحيانة الظالعة التي لم يتوان بعضها في التنصل من قيم الوفاء وهو: عبد القدوس: رهين بيته، يتحرّش به خيال المآتة الهمبول.
وجاء إلى الإذاعة في برنامج متابعات أدبية الأسبوعي، والتقينا في تلك الرحاب بفضل رعاية الخاتم عبد الله وعجيمي وفيصل عريبي وأحمد العوض الشايقي الأصيل وطبعا أريحية محمد سليمان أنبل أهل الإذاعة ومنهم الفنيون المسؤولون عن الاستديوهات والتسجيل، حظونا نحن المساكين بعونهم ونبلهم في حين اصطلى بنيرانهم المتعجرفون من مثقفاتية الأفندية:"التسجيل اليوم مستحيل، الاستديو معطل". وكل واحد منهم كيّف استديوهه بطلاسم ومطبات لايعرفها غيره.
بعض المتعاونين كانوا يلجون دار الإذاعة مثقلين بوزن زائد من الشعور المتضخّم الموهوم بالأهمية، ويرونها هالة من فوق رؤوسهم.
عبد القدوس يأتي بوداعة الزهاد وننصرف معا ومعنا أصدقاؤنا الفنيون حتى نجتاز الضريح الذي فاح طيبه عابقا لنحتفي بفول أنيس فول زمان في أقرب مكان أو بتاع. ويستطيع من شاء منهم أن يصرف مستحقات عبد القدوس يوم الخميس القادم، بتوكيل منه أو توصية شفوية للصراف. لله من فتى أريحي السماحة. وكان طه الكد ىحيّاه الغمام مثله تماما في الإيثار على النفس بنصيبه من صفحة الأيام الأدبية.
( ثم أوصدت أبوابها في وجوهنا منذ 28 عاما حسوما) ( باسم الله)
فجأة ذهب عبد القدوس إلى لندن، في السبعينات، موظفا في سفارتها، وهناك حصل على درجة بكالوريوس في الاقتصاد، وأشرف على تحرير الملف الثقافي،للجريدة العربية في لندن: وقدّم فيه خالد الكد مترجما لبعض قصص جيمس جويس وغيره، وكان موفقا جدا، ترى عنده امتياز الترجمة وزهوها حين تتحول إلى إبداع في نسيج حي.
لم ترتق تلك الجريدة ولا غيرها من اللندنيات إلى ذلك المستوى، وبالطبع أُوصد الباب بعده في وجه القلم السوداني.!
ومن مرائي لندن البهيجة التي تروقه مليّا حين تتبدّى له من وراء زجاج النوافذ، انتقل إلى الخليج مترجما سنين متوالية إلى أن عاد.
اهتم بعيد عودته بكتابة تاريخ الترجمة والمترجمين في السودان وهوأحدهم وخير نموذج لهم، وهو تاريخ حافل، واضح منذ أيام الإنجليز، فقد ترجموا كل ما يتصل بالدولة والعلوم ثم خرجوا بتجربتهم إلى بلدان الأعاريب، وهيأة الإذاعة البريطانية فضلا عن المجال الثقافي والأكاديمي، وأتمنى أن يكون أنجزه على نحو ما.
وشرع في كتابة سيرته الثقافية، ولقد رجوته أن يشمل ذلك بنماذج من النصوص العالية التي راقته أو توقف عندها ويترجم ما ورد في لغات أخرى كالإنجليزية والروسية.
وأحسبه سيكون تاريخا ثقافيا لمرحلة عاصرها وثقافيين عرفهم، مثل متابعته للأغنية الحديثة ورموزها وفرائدها منذ الخمسينات، ومقدرته على نقدها وتمييز خصائصها ونقلاتها وتطورها بل وقيمتها.
اقترن ذلك بعكوفه في الوقت نفسه على إعداد كتابه الثاني الذي تكرّمت مؤسسة عبد الكريم مرغني ومديرها الرجل الشهم بطبعه، وكان عبد القدوس حريصا على صدور الكتاب في أقرب وقت، لما كان يساوره من حدس كاليقين.
لعل ذلك من النفحات التي ورثها من جده الشيخ المكاشفي رضي الله عنه.
وهو طبعا سيقدم سردا وافيا عن والده شيخ الإسلام وعالم العربية الشيخ محمد الخاتم الذي تذوق عبد القدوس العربية ومتونها وسحرها على يديه.
وتمنيت أن يقف عند خاله التجاني عامر، فهو شاعر مجيد ، راجع قصيدته: شارع الأربعين، ومؤرخ، و منشئ مجلة العاصمة التي تضمنت دعوته إلى الاشتراكية السودانية، التي كانت تبدو في المرآة نفخا في الرماد ولكنه الآن في قلب البديل وعدالته الاجتماعية.
حين شاركنا في إصدار مجلة ثقافية من الخرطوم ازدان عددنا الأول بمقال تاريخي لعبد القدوس عن شاعرية محمد المكي، وكان العدد اليتيم أي الوحيد، فقد دار مُترار الرماد حول نفسه وأوقف المجلة الصادرة من مؤسستهم، في موقف استضام شبيه بمارسة العادة السرية. لايخونون إلا أنفسهم.
ولكننا سعينا إلى استثمثار ذلك المقال في كتاب عن شعر محمد المكي الذي يبدو في مرآتي الآن بوصفه أهم شاعر عربي بدءا من جيله وحتى الآن، ويتسق ذلك مع موقفي من تطور الشعر العربي والشعر السوداني معا، أن التجاني بلغ قمة الشعر العربي في القرن العشرين، ومن بعد على خط النهج في الرعان يأتي عبد الله الشيخ البشير فهو أهم شاعر سوداني بعد التجاني، ومن بعده على المنوال نفسه تأتي منقادة مكانة شعر ود المكي، وشعره هو الأولى بالتقدمة والإجلال من نثره المتمثل في حدود بحث منشور في مجلة الآداب عام 1965،تناسوه نصف قرن، ويقيم له أولاد الحكومة وصحابة الترابي، ندوة عن ظل الفيل ويتعامون عن عاجه أو سنه، ولطالما ارتبط شعر مكي عندهم بالجبهة الديمقراطية فازوروا عنه!
والكلام عن الشعر ماء ساخن لا تلغو فيه الضفادع ولا تلجه!
وأضفنا إلينا عبد السلام نور الدين الذي أكرمنا بموافقته وهو قطعا أعرف بالشعر وبشعرمكي من حسن أبّشر الذي كتب مقدمة المجموعة الكاملة وهي مقدمة بائسة مثل مقدمة الطيب صالح لديوان غابة الأبنوس فقد كان علي المك أعرف بصلاح وبشعره وبالشعر من الطيب صالح أو ط.ص.
وشابٌ باحث كتب رسالة جامعية عن قضية في شعر مكي، يمكن أن ينشر بعضها في الكتاب. ولكننا للأسف لم نوفق، وليست ظروفنا تعلة.
الغريب في الأمر أن ذلك العدد اليتيم حوى مقالا عن شعر تاج السر الحسن كتبه د. علاء أغا ثم طوره بمعنى زاده، وأخرجه في كتاب منشور، بدون أي اقتراح منا.
وإني لموقن أن أوراق عبد القدوس تحتوي على نصوص نقدية إلى جانب المقال المنشور في المجلة الموؤدة!.
لعلنا أو لعل غيرنا يستفيد منها في إصدار كتاب مماثل.
عبد القدوس تجده ملازما بيته بين البررة أي ذريته الكريمة، بين أكداس كتبه، وورقه وقلمه الملون الغليظ الخط، في مجالسه، ويالك من مجلس، بضحكاته المجلجله وأوابده الساخرة، وحضوره الآسر، ويالها من مذاكرة ومؤانسة، لن نجد اليوم، هكذا كنت أقول بين وبين نفسي وبوعي بالوعي: لن تجد إلا قلة نادرة تذاكرك الآن في شاعر لبناني معاصر انطوى ذكره أو شاعر مصري مثل الهمشري و عبد الرحمن صدقي أو رونق الشعر وحركة النفس في شعر الخميسي الوجداني وشعر صالح جودت، على تباين الرؤى الاجتماعية بين الشاعرين أو قصيدة أو قصة لكاتب ما ليس له غيرها وأين نُشرتْ أو كتاب صدر في الخمسينات الخ
ظللت متى جئت وأقمت أزور عبد القدوس في رابعة النهار وأتلبّث عنده، كان لقاء عبد القدوس نعمة ورحمة وفيض تراحم، ومنادمة روحانية ثقافية، وبشرى من جراح الحياة وفق ما قال الناصر قريب الله الذي كنا معا نقف عند شعره غير المنشور.
وكان الماجد كبلو من الأصفياء القدامى الذين يحرصون على زيارته باسم الوفاء والإخاء والمعرفة المؤكدة بالقيمة الإنسانية لعبد القدوس، ويفتقدهم ويسأل عنهم إن طال غيابهم وأختم الكلام برفع العزاء والامتنان إلى كبلو.
" إنت أحلى من الأماني لما تغمرني وتعربد
من "جميله" جديدة تمًّ لما في الكتمان
تِتْتًنّى وتزغرد".
aelbadawi@hotmail.com