فوانيس
د. إشراقه مصطفى حامد
فيينا – النمسا
fawanesi@hotmail.com
كم من الناس البسيطة انحازوا لي, كم منهم شدّ من أزرى ونادي في ولىّ... هيا على الحياة. الضيفة الزائرة من نواحي مدني تقاسمت معي بطريقة عابره الفكرة ولم تكن عابرة فقد تركت صداها فى روحى وهى ترشدنى ان ادلف على البنوك واسأل
الرحمة لأجل المزيد من العلم. إذن ستكون آخر محاولاتي.
خرجت صباحا إلى العمارة الكويتية حيث كنت اعمل سكرتيرة, العمل الذي كف عنى شر الجوع وذل السؤال. في طريقي قدمت طلبي الأول للبنك الاسلامى السوداني وحماس الضيفة الزائرة تحرضني ان ابدأ بهذا البنك فهو ملك للاتحاديين. فكرت فى أبى وأيام حواراته معنا وفخره بولائه للحزب الاتحادي الوطني.
قدمت الطلب لموظف الاستقبال الذي قابلني مبتسما وبتهذيب وعدني أن يولى الأمر أهمية رغم مابدأ على وجهه من علامات الاستغراب معلقا انها الحالة الوحيدة التى مرت عليه منذ عمله فى البنك. تعامله فتح طاقة أمل خلاّقه منحتنى بعض من حياة , من التماسك وعلى ضوئها غنت مهجتى..
عاودت البنك بعد يومين حسب وعده لي, لم التقيه يومها ولا بعدها مازلت احمل له في قلبي ريحان ونعناع من العرفان والامتنان. طلب منى المناوب في الخدمة أن اذهب إلى الخزينة وان المدير تبرع لي بمائتين دولار.
فغرت فاهى بدهشة كادت ان تطيح بى على الارض وانا اتمتم- مئتين دولار حتة واحدة- حسيت بانى صرت من اثرياء المدينة, شوال قمح خلتها ان حولتها الى عملة سودانية ثم ذهبت بها صوب الجامع الكبير ودعوت الشحاتين والمجزمين بائعات التسالى وذلك الطفل بائع البرتقال العطن و بائعى الكتب القديمة, اولئك الخريجين مثلى, اضطروا لبيع كتبهم لتكفيهم شر الحاجة, ماذا لو دعوتهم ودعونى على وليمة فرح وان ننثر رز الاحلام على تلك (الصوانى) التى ابتدعها حاكم الخرطوم. مؤائد فرح نأكل منها بذاد يكفى الجيران واهل البيت وعابر السبيل ثم تتشابك اصابعنا, نغنى ونرقص ونغمر بعضنا بالحب ثم نعاود تشردنا على دروب اقدارنا.
فكرة اكثر جنونا زاحمت جنون الفكرة الاولى, ( مئتين دولار كافية لنعرس, ان نؤجر غرفة جالوص زنيا زى غيرنا من الفقراء والقنوعيين). يومها ضحكنا كثيرا امين محمود- زروبا ونجوى وانا وهما يشاركننى الجنون.
أيوب كان يومها مشغولا بهوسه وعشقه لبرامج التثقيف الصحى فى جميعة امل فى امبده وكان دمى يفور كثيرا وانا ابتدىء الشجار والعتاب والدموع وبهدوئه الذى يغيظنى اكثر يبدأ فى تهدئيتى ثم سلمت المائتين دولار لحسين الدرديرى فهو حريص على المال بقدر كرمه الفيّاض. يومها عادت لى الحياة والامل بان هناك من يفكر فى امثالى وان فى هذه الدنيا متسعا للاحلام العظيمة.
ذهبت فى اليوم الثانى لصحيفة القوات المسلحة حيث بدأت تعاونى على سبيل تكوين خبرة عملية غير مدفوعة الاجر وساعدنى فى ذلك الصديق التشكيلى وراق وهو يقدمنى للصديق احمد بشارة المشرف على الصفحة الثقافية, والشاعر اسماعيل الاعيسر, سالنى يومها احمد بشارة عن تصوراتى فقلت له عمود صحفى باسم من ذاكرة المطر, هل كان صدفة ان بانتهاء جملتى انهمرت السماء وكأنها تريد ان تفرغ كل مافى احشائها لتغسلنى من كل حزن وهم؟ ومنحت الفرصة بعد كم مقال شاركت بهم ومازلت يومها فى بداية طريق العمل والاحزان.
كتبت يومها عن امتنانى لانسان لم يرانى ولم يعرف عنى سوى ماقدمته فى الورقة المهترئه التى قدمت فيها طلبى للدعم وختمت عمودى بجملة ( ويبقى الجميل للمجيد المنصورِ). على صحن فول حكيت لاحمد واسماعيل ماحدث من مستجدات شاركونى فرحتى وشدّوا معى سراج القادم من الاحلام.
ذهبت الى القوز مغبرة والتعب اقاومه بابتسامة انتصار. وجدت فى البيت محمد اسماعيل الشاعر الرقيق جالسا مع ايوب يقتسمان التأمل والهدوء, قبل ان ابدأ فى نكش ضجيجى. قلت لهم عن فكرتى الجديدة التى بزغت على صباح هذا التبرع السخى. بدأت اضج بالفكرة وتسابقنى الحروف, ( نعمل حفلة وبى دخلها اشترى التزكرة وشوية مصاريف لناس امى لحدى مالله يفتحا لى هناكِ والقى منحة او شغل). راقت الفكرة لمحمد اسماعيل ومضغ ايوب آخر (دلاقين) جنونى التى ما اهترأت. زوربا كان منفعلا ومتفاعلا مع الفكرة وبدأنا فى التفاكر من وكيف واين؟
قلت لهم ابوعركى , حافظ عبدالرحمن مختار وساورا, يمكننى مناقشتهم وطرح الفكرة لهم. كنت التقى بعضهم فى حوش الاذاعة ابان فترة تعاونى فى اذاعة البرنامج الثانى واعدادى لبرنامج الانسان والبيئية تحت اشراف الجمعية السودانية لحماية البيئية. الهادى بشرى سيكون منشرحا للفكرة قلت لهم.
ذهبت لابوعركى فى دار اتحاد الفنانين, قلت له عن فكرتى, ابدأ استعداده دون تردد ولكنه نبهنى الى نقطة فاتت على فى غمرة حماسى. ذكرنى بتجربة غنائة لنا فى الجامعة الاسلامية وكيف حاول بعض من طلاب الاتجاه الاسلامى وانصار السنة عرقلة الحفلة. فكرت فى حكمته خاصة وان اغلب حفلاته ايامها فضت عن طريق الامن.
كان محقا فما حدث فى الجامعة الاسلامية زمانها يمكن ان يتكرر و(ٍتفرتك الحفلة وتفرغ احلامى احشائهاِ).
وافق حافظ وساورا ولم يطالبوا الا بقيمة ترحيلهم.
تكون فريق من الصديقات النبيلات والاصدقاء النبيهين...قاد العمل محمد اسماعيل , خديجة كمبال ونجوى وطارق جبارة.
انضم لهم عدد مهول من نجمات اضاءات حياتى ذات زمان حميم.
عبداللطيف, حسين, لنا جعفر, رابحة, ماجدة, مصطفى السمين, اميرة الصادق, عفاف اجمل صديقاتى وامى.... العقد الفريد الذى يزين عنقى الى الابد.
نجوى واميرة ذهبن الى صالة الفروسية, المدير الانسان تبرع بالصالة مجانا تضامنا نبيلا مع صبية لم يراها فى حياته. اذن الفكرة صارت واضحة بدء من التصديق وانتهاء بييع التزاكر.
فى تلك الحجرة بالحلة الجديدة التى اقتسمنا حوشها مع ايوب الحبشى الذى كان يسكن الغرفة الاخرى, لم يكن هناك سوى ( ٍراكوبةِ) امام غرفته التى تبرع لنا بالجلوس عليها اثناء غيابه فى العمل, تبرع بها حين
رأى ذات يوم ان الشمس تصلى جبين امى وهى تعد فى وجبه تقينا شر الجوع. ايوب الحبشى اقتسم معنا المحبة والزغنى والشطة الحبشية وكانت امى تنتظره الى ان يعود لتقدم له من الوجبة النهارية التى اقتسمتها له.
لم يتضجر يوما من اصاحبنا وصاحبتنا الذين تتسع الغرفة والحوش بهم. يسمعنا نتفاكر ونحكى عن احلامى والسفر و... ثم حكانى يوما انه ينوى الهجرة الى استراليا وتبادلت معه الافكار التى كان البعض
يظن بانى بها ( بسقط حجرو)
كنت على وشك ان اتراجع عن حلمى وان اظل بلا امل فى وظيفة تحفظ ماء الحياة فى امى واخواتى وفىّ, كنت اتلاشى كنجمة تقاوم ضباب روحها واتمسك بآخر قشة أمل فى بحر الحياة القاسى.
تكون فريق من الصديقات النبيلات والاصدقاء النبيهين...قاد العمل محمد اسماعيل , خديجة كمبال ونجوى وطارق جبارة.
انضم لهم عدد مهول من نجمات اضاءات حياتى ذات زمان حميم.
نجوى واميرة ذهبن الى صالة الفروسية, المدير الانسان تبرع بالصالة مجانا تضامنا نبيلا مع صبية لم يراها فى ياته. اذن الفكرة صارت واضحة بدء من التصديق وانتهاء بييع التزاكر..
قبل الحفلة بيومين اتصل موظف بالبنك وطلب التحدث لى عبر الرقم الخاص بالشركة التى كنت اعمل بها وتنازلت عنه لنجوى بموافقة المدير والذى بدأ متحمسا للفكرة اذ انى لا اجيد فنون الابتسام وجادة اكثر من اللازم.
أخبرتنى نجوى وبها شىء من كدر بان المدير يريد مقابلتى ثم اردفت ( بيكون داير قروشو اللى اتبرع بيها ليك, خلينا ندبر مانقص منها ورجعيهم بسترة وانسى موضوع السفر ده).
بكيت يومها بحرقة كما لم ابكى فى حياتى, ليس على افتراض ان حلم السفر قوز رمل وانهار وانما كيف استطيع ان اعيد ماصرفناه للاستعداد للحفلة القادمة بعد يومين, من تكاليف التصديق, الكراسى. الساوند و......
حسين الديرديرى كان كعادته شهما – ماتشيلى هم رقبة اخوك سداده واعتبرى المائة اللى انصرفت فى شنطتك- وانا لم افعل سوى تبرعى بسخاء بحنان الاخت. لم ينتبه حسين بان شنطتى كانت من دمورية
مصبوغة, خرمتها الايام كما تفعل مع روحى. تذكرت محمد اسماعيل وتعبه وكده فى الحصول على التصديق بعد لاى وجهد وكم عاد فى المساء منهكا ولم يتناول مايسد به رمقه, جرجرت اقدامى, ذات – الشده السوداء-
وذات القميص الاخضر الزرعى الذى تناوب فى ارتدائه ايوب وامين.
دندنت فى الطريق لاهزم همى- يالاخدر الزرعى يالزرعوك فى قلبى, ظل طعم الاغنية فى حلقى اقاوم به مرارة ماسوف يحدث وحديث نجوى يعاد صداه فى اذنى ويدى تقبض على الفرحة التى لم تكتمل.
دمعة عنيدة وقفت على احداقى, رافقت الموظف الى مكتب المدير واقاوم الهزيمة بخطوات اقرب الى الانهيار ولكنها مسنودة باليقين.
رحب بى المدير السيد عبدالمجيد منصور ببشاشة مما خفف قليلا من ربكتى من المكتب النظيف والموكيت الذى لم اراه فى حياتى الا فى المسلسلات المصرية. اتفضلى اقعدى, قال هاشا..
اقعد ووينّ قلتها فى سرى وهو يصافحنى ويدعونى مجددا بمنتهى الانسانية ان اجلس الى حين الانتهاء من بعض المكالمات المهمة.
للحظة جرتنى اشواك الذكرى المريرة وصورة ذلك الرجل الثرى الذى حاول اجهاض انسانيتى التى يلدها الناس الطيبين كل يوم فى روح جديدة, تتجدد فى
صفقة ليمون, عصفورة وليده تشدّ اجنحتها وتحلق.
أنهى مكالماته سريعا عكس توقعاتى ثم نادانى لاجلس فى الكرسى المواجه للمنضده الانيقة التى يجلس عليها. جلست وكلى خوف ويدى تقبض على المائتين دولار, اقدامى تصطك
وهو يفاجأنى بالسؤال لماذا تريدين السفر؟
قلت فى سرى المبلغ معى ولن يكون هناك سفر ولا يحزنون.
شرحت له وضعى وانى من اسرة على قدر حالها, قدرى بانى الكبرى ولابد من تحمل المسئولية خاصة وانى تخرجت بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف ولكنى لم ولن اجد عملا لاسباب يطول شرحها
وان قرارى بالسفر لم يكن بديهيا بل انه امر الامرين.
سالنى عن المجال الذى انوى التخصص فيه, قلت له الاعلام الانمائى, اريد ان ابحث عن الوعى البيئى لدى المرأة السودانية وقد تحصلت على القبول.
قدم لى عرضا جيدا ان اعمل فى الصحافة وان يجد لى مكانا آمنا وعملا كريما فى مجالى, واردف بثناء على مقدراتى. اشاد بمقدراتى الصحفية وانه من المؤسف ان تفقدنى بلادى وهى فى امس الحاجة لامثالى. كدت ان اضحك بسخرية وانا اقاوم دموعى والحنظل الذى دشر حينها فى حلقى.
قال لى انه قرأ عمودى الصحفى وان اسلوبى ادبى جميل وانه يتنبأ لى بمستقبل باهر فى هذا المجال.
شكرته وكنت على وشك ان اسلمه المبلغ الا انه فاجأنى بسؤال لاحق..
عاوزة تسافرى متين؟
قلت له حين يتوفر لى المبلغ المطلوب
ناقص ليك كم؟
ناقص لى كم؟ كان اول رقم قفز على لسانى الف دولار..
امشى اعملى التاشيرة وتعالى بكرة استلمى المبلغ..وربنا يوفقك يابنتى..
هكذا بعصا موسى سحرنى هذا الانسان, ابى الذى انجبه النيل خالدا فى وجه بلادى النضر الممتلى عافية وناضح جمال, اسمه عبدالمجيد منصور..
خرجت وانا اتصبب عرقا, اطلقت لدموعى العنان قبل مغادرتى مكتبه,
متأثرا ودعنى على امل اللقاء واسجى لى من الوصايا الابوية مايكفينى عمرا واجيالا.
وعدته بانى ساحقق ما ساخرج له وانى لن اتراجع لان ابوته الحنينة ستكون سياجا آمانا لى فى غربتى.
سرت راجلة حتى العمارة الكويتية, دخلت المكتب وعلى اقرب كرسى انفجرت بالبكاء, بكيت بتشنج, بحرقة ودون توقف, حسين يحاول ان يهدىء من نحيبى, نجوى ترتجف وتوشك على الانهيار وهى تتلعثم ( يازولة مئتين شنو بكره بتعوضيهم وبتشتغلى وبيكون ليك شأن) ..
كوب ليمون بارد طلبه حسين لاجلى, درجة حرارة جسمى مرتفعة كطمى البكاء فى حياتى..
بصوت منتحب حكيت لهم ماحدث وصوتى يتهدج ويلهج بالشكر الى الله والى هذا الرجل النبيل..
كنت احكى وطمى النيل يحاصر المكتب وعمال الشركة وذلك الديامى الوسيم يحطيوننى بهالة من الحنان والانسانية..
ادمعت عيونهم, انعجن وجه حسين وهو يقاوم دمعة اخوية صادقة ولمع وجه احمدين العامل وهو يذكرنى..
ربنا مابينسى مواقفك معانا.. نسيت يوم اديتنيى قروش كتيرة عشان بتى تتمتحن للجامعة...
كانت من تبرعات جمعتها هنا وهناك وحين يأس قدمتها له وعزائى ان ابنته ترجلت نحو كلية الآداب لتدرس اللغة الانجليزية..
سافرت فى وجوه كل الذين حولى, ثم انفجرت ضاحكة وانا اطلق اغنية من قلبى..
يازمن وقف شوية واهدى لى لحظات هنية..
وقد كانت..
لحظات الملح, الدموع والعزيمة..
ثم سالتهم..
انتو الداير يسافر منو؟
انا غايتو مامسافرة..
وبدأت اسطورة مقاومة جديدة.
---------------------------
فصل من أنثى الأنهار- من سيرة الدمع والملح والعزيمة المتوقع صدورها هذا العام