عبقريات الإنقاذ … بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 

"عبقريات" الإنقاذ: ثنائية السوق الحرة.. وظاهرة الإحتكار.. فى نظام إقتصادي واحد!؟

تمر علينا يوم غد الذكرى السادسة و العشرين لإنتفاضة السادس من أبريل المجيدة التى أطاحت بحكم الطاغية جعفر نميري. أود أن أتوجه بهذه المناسبة العزيزة على وجداننا بالتهنئة الحارة الى الشعب السوداني الأبي الصامد بصورة عامة، و الى الشباب منه بصورة خاصة، و الى أولائك الذين لم يشهدوا ذلك الحدث منهم، و الذى هز أركان حكم الطاغية، بصورة أخص. كما أسال المولى عز وجل أن تمر علينا الذكرى القادمة و شبابنا، و بالأخص الذين لم يعاصروا ذلك الحدث، قد تمكن من الإطاحة بدولة الفساد و الإستبداد التى جثمت على صدر شعبنا البطل لأكثر من عقدين من الزمان.
كما أود، بهذه المناسبة السعيدة، أن أبدى غضبى و إستيائى الشديدين تجاه التجاهل المتعمد الذى أبدته بعض أجهزة الإعلام، العربية و العالمية، و أخص بالذكر منها قناة الجزيرة، ذائعة الصيت، وذات النفوذ و التأثير الكبيرين على الرأي العام العربي، التى تجاهلت تماما إنجاز الشعب السودانى، الذى أطاح بحكمين عسكريين وهو أعزل من السلاح، سابقا بذلك الشعبين التونسي و المصري، اللذين أشارت إليهما تلكم القناة بأنهما أول من أطاحا بحكم عسكري على مستوى المنطقة العربية، متناسية بشكل متعمد أن الشعب السوداني قد سبق كليهما فى هذا المجال بأكثر من ربع قرن من الزمان، وبهذا تكون قد ساهمت فى طمس حقائق التاريخ الذى لا يزال شهوده أحياء يرزقون.
وهاهو الشعب السوداني يواجه الدكتاتورية العسكرية الثالثة ، وهي تعتبر الأكثر قمعا و دموية فى تاريخه الحديث، وهو أكثر عزما و تصميما على الإطاحة بها، و أكثر إصرارا على أن يكون نظام التوجه الحضاري آخر حكم عسكري يمر على البلاد، مستلهما فى ذلك إرثه المتراكم على مدى ثلاثة و أربعين عاما من النضال ضد الأنظمة العسكرية الدكتاتورية المستبدة.
لكن الدكتاتورية الثالثة، التى أسمت نفسها بدولة التوجه الحضاري، تختلف إختلافا نوعيا عن سابقتيها، كما أشرنا الى ذلك فى المقال الأول من هذه السلسلة من "عبقريات"، سواء كان ذلك من حيث المنهج، أو الأسلوب، أو الأداء، و بالأخص فى أسلوب الثنائيات الذى رافق أدائها منذ البداية، وميزها عن غيرها من الدكتاتوريات، و كاد أن يصبح ماركة مسجلة لها تحت إسم "عبقريات الإنقاذ".
أحد الثنائيات التى إتصف بها حكم الإنقاذ قد ميز مسار العمل الإقتصادي منذ تسلمه السلطة قبل ما يزيد على العقدين من الزمان. لقد دشن حكم الإنقاذ عهده بسياسة إقتصادية مركزية و متشددة، كان سمتها الأساسية، كما كن يبدو على السطح،محاربة الفساد و المفسدين، و إنتهى به الأمر فى نهاية عهده، الذى بدأت شمسه فى الغروب بإذن الله تعالى، ك"أفضل" نموذج للفساد المالى و الإدارى فى العالم. وبعد أن إنتهج قادة النظام أسلوبا متطرفا فى مركزية إدارة الإقتصاد فى بداية عهدهم ، وصل بهم درجة إعدام مواطنين تملكوا "العملة الصعبة" من حر مالهم، بزعم المتاجرة فى العملة، ليتضح للشعب لاحقا بأن نفس هؤلاء القادة غارقون فى تجارة العملة و الفساد حتى أذنيهم، حتى بلغ بهم الخوض فى بحوره مدى أجبرهم على تكوين "مفوضية" خاصة لمحاربة الفساد، لأول مرة فى تاريخ السودان الحديث.
و حينما عجز هذا الأسلوب المركزي فى معالجة القضايا المعقدة للإقتصاد السوداني، إن لم يكن قد زادها تعقيدا، إنتقل "هؤلاء الناس" الى النقيض تماما فى إدارة دفة الشؤون الإقتصادية للبلاد، أي الى أسلوب و نهج الإقتصاد الحر، و السوق المفتوحة. لقد كان المنظر الأول لفلسفة السوق الحر هو السيد عبد الرحيم حمدي. من المعروف أن السيد حمدي يعتبر أحد غلاة المتطرفين الإنقاذيين الذين تخلو قلوبهم من أية رحمة، أو شفقة، على الفقراء و المساكين، الذين يزعم "هؤلاء الناس" بأنهم لم يقوموا بإنقلابهم المشؤوم إلا لإنقاذهم من براثن الفقر و الجوع.
لكن النموذج الإقتصادي الذى إنتهجه السيد حمدي لم ينتج عنه سوى المزيد من الفقر و المسغبة بالنسبة لكادحى السودان و فقرائه. و تعتبر السياسات الإقتصادية التى طبقها، هي الأسوأ من حيث توفير السلع الضرورية و الخدمات الأساسية بالنسبة لأولائك الكادحين من الطبقات الفقيرة. صحيح أن سياسة التحرير الإقتصادي التى إنتهجها السيد حمدي قد وفرت السلع الإستهلاكية فى السوق، لكنه وفرها للشرائح الغنية و المرفهة، ولم تتوفر للشرائح الفقيرة و الكادحة. لقد كانت معادلة إقتصادية صعبة بالفعل. ففى الوقت الذى تئن فيه أرفف المتاجر بمختلف أنواع السلع الضرورية و الكماليات، إلا أنها تعتبر فى حكم العدم بالنسبة لفقراء الشعب لأنها، و ببساطة شديدة، تقع خارج دائرة قوتهم الشرائية. لذلك فقد تمثل جوهر سياسة التحرير الإقتصادي و السوق الحرة فى خلق ما يسمى بالإستهلاك الإستفزازي، الذى عمق الفوارق الطبقية بين شرائح المجتمع السوداني، وقضى على أفضل خصاله المتمثلة فى التكافل الإجتماعي.
لقد تطرف السيد حمدي فى تطبيق نموذجه الإقتصادي حتى توهم بأنه سيخلق جنة الله على أرض السودان، و إن كان ذلك بثمن باهظ لا يتمثل فقط فى سحق الطبقات و الشرائح الفقيرة من المجتمع السوداني، و إنما أصر على تطبيقه حتى و إن قاد ذلك الى تمزيق البلاد و تفتيتها الى دويلات و "كنتونات" صغيرة، أو أي جزء يتبقى من البلاد تحت سيطرة حكام الإنقاذ. إن ’النصيحة‘ التى وجهها السيد حمدي الى رفاقه من قادة الإنقاذ هي: "طبقوا سياسة التحرير الإقتصادي، و أن لا تأخذكم رحمة أو شفقة بالشعب السوداني، ما دامت هذه السياسة تحافظ على مصالحكم الحزبية و الشخصية، و أن لا تأخذكم فى ذلك لومة لائم، حتى و إن تمزقت البلاد تماما، فلنحكم قبضتنا على ما تبقى منها، أو ما أصبح يعرف ب"مثلث حمدي"، حتى يتسنى لنا تحرير الإقتصاد بأكمله"، و لكن على طريقة و أسلوب التوجه الحضاري، وتمكين أزلام النظام و سدنته!!
وكعادة ثنائية أهل الإنقاذ، فقد تم كل ذلك، و تحت نيران مكثفة من الضجيج الإعلامي، حتى يخفوا ما كانوا يطبقونه من سياسة إقتصادية أخرى مناقضة تماما لسياسة التحرير الإقتصادي و السوق الحرة المعلنة، و لكن فى سرية تامة، تحسدهم عليها عصابات المافيا و الجرائم المنظمة. تمثلت تلك السياسة فى تكوين الشركات الحكومية التى أمسكت بمفاتيح و قمم الإقتصاد السوداني، وبالأخص فى قطاع التجارة الخارجية، و التى لم نعرف عنها شيئا الى أن أصدر السيد رئيس الجمهورية قرارا بتصفيتها فى الآونة الأخيرة. و على الرغم من أنه قد إتضح لاحقا أن تلك الشركات كانت مملوكة بالكامل للحكومة، إلا أن إدارتها كانت تتبع لأجهزة و مؤسسات الإنقاذ النافذة كجهاز الأمن و المؤتمر الوطني. ليس هذا فحسب بل إن من أنيط بهم إدارتها هم من القيادات المتنفذة فى أروقة الدولة و حزب الحكومة، وذويهم و أقاربهم، الذين سخروا موارد تلك الشركات لخدمة أغراضهم و مآربهم و مصالحهم الخاصة و الشخصية، و تمكنوا من خلالها من نهب ثروات الشعب السوداني و مقدراته.
إن تكوين الشركات الحكومية لتحتكر قمم الإقتصاد السوداني و مفاتيحه يعتبر فى حد ذاته مناقضا تماما لفلسفة الإقتصاد الحر و آلية السوق،  التى ترتكز فعاليتها تماما على ضرورة قيادة القطاع الخاص للأنشطة الإقتصادية، و فى مختلف المجالات، على أن يقتصر نشاط الدولة على تنظيم تلك الأنشطه، و توفير البيئة المناسبة لها، و كذلك على تلك المجالات التى يعجز فيها القطاع الخاص عن توفير الخدمة، بالنوعية و المستوي المطلوب، كالدفاع عن أرض البلاد. لقد روج السيد حمدي لسياسة التحرير الإقتصادي، و أصر على تطبيقها بحذافيرها، حتى و إن كان ذلك على جماجم الكادحين من بنات و أبناء الشعب السوداني، و لم يستثنى من ذلك حتى المجالات الحيوية، كالصحة و التعليم.
 إن إصرار السيد حمدي على تطبيق تلك السياسة قد تم بأسلوب مخادع يشبه أهل الإنقاذ تماما، حيث ضخم من محاسن السوق الحرة، و لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة عن مساوئ الإحتكار. بمعنى آخر فقد قدم للشعب السوداني "روشتته" لمعالجة المشاكل الإقتصادية على طريقة لا تقربوا الصلاة،وهي كلة حق أراد بها باطل، مما جعل الكثيرين يتوهمون بأن كلمتي’‘السوق الحرة‘ ربما كانتا سرا إلهيا مقدسا، أتت بهما الإنقاذ، ضمن مشروعها الإسلاموي، الذى إعتبرت مجرد معارضته هو خروج عن الملة، إن لم يكن عن الدين نفسه، و بالأخص فى ظل الجرعة الدينية المكثفة التى سقتها للشعب فى تلك الأيام كالحة السواد...فتأمل!!
لكن السر الحقيقي المقدس وراء ذلك الإصرار العجيب من قبل السيد حمدي على تطبيق سياسة التحرير الإقتصادي بحذافيرها هو شئ آخر تماما تمثل فى "عبقرية" الإنقاذ التى سحرت بها بعض الصفوة، وبهرت بها جزء من الشعب، و خدرت بها القلة من أصحاب الحظوة و النفوذ. السر المقدس الذى إبتكرته عبقرية السيد حمدي قد تمثل فى تطبيق سياسة التحرير الإقتصادي فى جانب أسعار السلع الإستهلاكية فقط، مما مكن لتجار الجبهة من فرض الأسعار التى يريدونها، دون توفي الحد الأدنى من الرقابة التى تنادى بها جميع نظريات آلية السوق، و بالتالى من جني أعلى نسبة من الأرباح على حساب المستهلك المغلوب على أمره. إن ما نفذه السيد حمدي لا يعتبر سياسة إقتصادية راشدة بأي معيار من المعايير، و إنما يمكن إعتبارها، و دون أدنى مبالغة، بمثابة إعلان حرب إقتصادية إكتوى بنيرانها قطاع واسع من المسحوقين أصلا. و أما سماح الإنقاذ بتكوين الشركات الحكومية فليست سوى وسيلة ماكرة لتطبيق سياسة الإحتكار فى قطاع التجارة الخارجية (الوكلاء)، المناقضة تماما لسياسة التحرير الإقتصادي و حرية السوق المعلنة،حتى يتمكنوا من السيطرة على المزيد من الفائض الإقتصادى، و بالتالى مضاعفة ثرواتهم المتزايدة أصلا.
أليست هذه هي العبقرية بعينها؟! إن الجمع بين ظاهرة الإحتكار، و آليات السوق الحرة فى ذات الوقت، و ضمن نفس النموذج الإقتصادي يشكل، فى تقديري، المثال الأكثر وضوحا ل"عبقرية" الإنقاذ. ففى الوقت الذى كان فيه الشعب السوداني يتضور جوعا جراء سياسة التحرير الإقتصادي التى هندسها السيد حمدي، كان نفس هذا الرجل، و معه بطانة السوء من حكام الإنقاذ، يكنزون الذهب و الفضة، التى إمتصوها من دم الشعب السوداني جراء الفساد المالى و الإداري الممنهج الذي مارسوه فى حق هذا الشعب الصامد، دون أن يرمش لهم جفن، و من دون أي وازع ديني أو أخلاقي.
لقد شارك العديد من قيادات الإنقاذ، بمن فيهم الحلقة الضيقة من بطانة السوء الملتفة حول الرئيس نفسه، السيد حمدي فى تطبيق تلك السياسة/الجريمة التى أفقرت الشعب السودانى، و أذلته، و أهانت كرامته، و كونت إمبراطورية الفساد التى مكنت لشخصين فقط من تلك البطانة من السيطرة على ما يزيد على السبعمائة مليون دولار من أموال البسطاء و الكادحين، ثم يأتى السيد الرئيس ليذرف لنا دموع التماسيح من فوق منابر المساجد، مدعيا بأن لا علم له بهذا النوع من الفساد. و حينما يواجه بالحقائق الدامغة بأن اشقائه يمثلون جزءا لا يتجزأ من حلقة الفساد الضيقة، يأمر سيادته بتكوين مفوضية لمحاربة الفساد، وهو يدرى تماما ما قصده أهلنا الطيبين من عمال السكة الحديد حينما قالوا قديما، "كان داير تكتل ليك موضوع....كون ليهو لجنة". بهذا الفهم فإن تلك المفوضية ستكون هي نفسها مجرد حلقة فى سلسلة فساد الإنقاذ الذى أزكم الأنوف!!
لم يكن من الممكن لهذه الثنائية أن ترى النور، و ينكشف أمرها على الملأ كأحد "عبقريات" الإنقاذ، و لتفضح ممارساتهم الفاسدة التى أزكمت الأنوف، لولا القرار الأخير الذى إتخذه السيد الرئيس بتصفية 27 شركة من الشركات المملوكة للحكومة، و أكده بالأمس فى خطاب إفتتاحه للدورة الجديدة لبرلمان الإنقاذ. إن هذا القرار كان سيحمد له لو تم إتخاذه فى إطار عودة الوعي بمنهج و آليات السوق الحر و سياسات التحرير المعتمدة من قبل حكومته، أو حتى كبداية لمحاربة الفساد الذى زعم الرئيس بأنه سيتصدى له، و لكن حينما نعرف بأن هذا الإجراء لم يتخذ سوى لممارسة المزيد من الفساد، و تفعيله بصورة لا لبس فيها، لإتضح لنا حجم الجريمة الكبرى التى لا تزال الإنقاذ تواصل إرتكابهابحق الإقتصاد السوداني.
 الحقيقة الماثلة أمامنا، و السبب الرئيسي لإتخاذ قرار تصفية الشركات الحكومية يتمثل فى أن بعضها قد أفلس تماما، و بالتالى أصبحت عبئا عليهم و ليس من مصلحتهم الإستمرار فى ممارسة انشطتها، أو أن بعضها يعتبر شركات رابحة، و بالتالى فقد سال لعابهم لما تدره من أرباح و قرروا بيعها و تمليكها لأصحاب الحظوة و النفوذ من أهل الإنقاذ، ليمارسوا من خلالها المزيد من الفساد و التراكم البدائي للثروة، و يجعلونها مطية لكنز المزيد من الذهب و الفضة، التى نأمل أن تكوى بها جباههم و جنوبهم، حينما يقابلون المولى عز و جل، و ليس فى جعبتهم سوى الحصاد المر لجرائمهم التى إرتكبوها، و لينالوا جزاءهم المستحق جراء الممارسات التى تفننوا من خلالها فى تعذيب الشعب السوداني، و إفقاره، و إذاقته الأمرين، من قبيل تطبيق سياسات التحرير الإقتصادي...و تكوين الشركات الحكومية الإحتكارية، التى يديرها منتسبي النظام، فى ذات النظام الإقتصادي، كأحد "العبقريات" التى تفرد بها نظام الإنقاذ.

5/4/2011م
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء