عرضان لكتاب جبرائيل واربيرج: “الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية”

 


 

 



Islam, Sectarianism and Politics in the Sudan, by Gabriel Warburg
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة عرضين لكتاب البروفيسور الإسرائيلي جبرائيل واربيرج المعنون "الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية". ولد هذا المؤلف في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان "، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري "، وكتب أخرى، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات هذا الكاتب.
ونشر العرض الأول لهذا الكتاب بقلم ريديقر سيسيمان بروفيسور الدراسات الإسلامية بجامعة بايرويت Bayreuth بألمانيا في العدد رقم 49 من المجلة الألمانية "عالم الإسلام Die Welt des Islam" الصادرة عام 2009م. بينما نشر العرض الثاني بقلم البروفيسور روبرت كرامر أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسكنسن الأمريكية في العدد رقم 49 من "مجلة الدراسات الإفريقية African Studies Review" الصادرة عام 2006م.

المترجم
*********** *********

العرض الأول (لريديقر سيسيمان)

صرم جبرائيل واربيرج غالب سنوات نشاطه البحثي في دراسة تاريخ السودان المضطرب في مجالي السياسة والدين. وهذا هو الكتاب الأخير للمؤلف عن السودان (كما ذكر ذلك بنفسه)، وهو يرفع (بعنوانه) سقف تطلعات القارئ عاليا. ورغم أن واربيرج (الإسرائيلي الجنسية) لم يتمكن من زيارة السودان قط، إلا أن كتبه ومقالاته عن ذلك البلد قد أكسبته شهرة عالية بحسبانه أحد كبار المتخصصين في مجال الدراسات السودانية، ليس فقط خارج السودان، بل في داخله أيضا.
ويقدم الكتاب عرضا متماسكا (وكثيفا بعض الشيء) لأهم مراحل التطورات السياسية والدينية التي حدثت بالسودان في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويؤكد المؤلف في غالب كتابه هذا على الحقائق التاريخية، التي كان كثيرا ما يضيف عليها تفسيراته لتلك الوقائع، دون تحديد أو تعريف لأنماطها الأساسية والضمنية بطريقة منتظمة. وتقوم حجة المؤلف في سائر أجزاء كتابه على الدور التخريبي / المدمر الذي لعبته "الطائفية" في السياسة السودانية. إلا أنه يجب القول بأن تناول المؤلف لهذا الموضوع ظل على مستوى افتراضات ضمنية أكثر منه على مستوى تحليل مقنع، كما سأفصل فيما يلي من عرض للكتاب.
وعلى الرغم من أن الكتاب كان قد نشر عام 2003م، إلا أن مخطوطته كانت قد اكتملت في عام 2000م، ولعل هذا يفسر خلوه من كثير من الأحداث المهمة التي وقعت مؤخرا، مثل التقارب التدريجي بين حكومة السودان بقيادة عمر البشير وحركة تحرير السودان بقيادة جون قرانق، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى توقيع معاهدة السلام الشامل في عام 2005م. ولن يلام واربيرج بالطبع على أن كثيرا من الأحداث السياسية والدينية تظهر عادة تحت ضوء مختلف عندما ينظر إليها بعد مرور وقت من وقوعها. غير أن تقييمه، الذي ذكره صراحة في غلاف كتابه الخلفي، والذي يفيد بأن "المحاولات المستمرة لفرض نظام إسلامي في مجتمع متعدد الأديان والأعراق هي المسؤولة عن تطاول سنوات الحرب الأهلية وعن الإفلاس الاجتماعي والاقتصادي والسياسي" هو مَحْضٌ تبسيط مفرط – ليس فقط بناءً على التطورات التي وقعت بعد عام 2000م، بل كتفسير للماضي. وهذا لا ينفي بالطبع بأن الصراع حول دور الإسلام في السياسة يشكل عائقا رئيسا في السودان الحديث. غير أنه لا يمكن محاسبة "الطائفية" بمفردها على ذلك المأزق التاريخي، كما أنه لا يمكن لذلك التوصيف / الوسم (label) أن يسع كل تلك التعقيدات المتداخلة والمعقدة بين القوى الإسلامية في الساحة السياسية السودانية.
وقسم المؤلف كتابه زمنيا (بحسب تواريخ الأحداث) إلى خمسة أجزاء، عنون أولها "الأسلمة"، ويغطي الفترة إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مع تركيز خاص على عهد ما سمى بـ "التركية" بين عامي 1820 و1881م. وتناول الجزء الثاني فترة المهدية بين عامي 1882 و1898م (لعل مؤلف الكتاب أخطأ في بداية عهد المهدية. انظر تعليق كاتب العرض التالي. المترجم). وتناول المؤلف في جزء الكتاب الثالث السياسة الدينية في عهد الحكم الثنائي (1899 – 1956م)، وخصص نحو ثلث الكتاب لتلك الفترة من تاريخ السودان. أما الجزء الرابع من الكتاب (ويمثل ربع الكتاب تقريبا) فقد تناول عهد الاستقلال بين عامي 1956 إلى 1989م. وعنون المؤلف فصله الخامس والأخير بعنوان: "الإسلاموية والديمقراطية"، وفيه تناول – في 25 صفحة – انقلاب 1989م، وما تبعه من حكم اسلاموي. ولخص واربيرج في الصفحات الأخيرة من فصله الخامس مجمل الآراء والحجج التي طرحها في الكتاب. وجاءت تلك الخلاصة كخواطر عابرة عن الاتساق والتوافق بين الإسلام والديمقراطية في السياق السوداني.
وجمع واربيرج في دراسته هذا بين القليل من المصادر الأولية والكثير من الأدبيات الثانوية. ويعطي الفصل الذي خصصه للتركية عرضا معياريا للتطورات التي أفضت لـ "ثورة" المهدي في ثمانينات القرن التاسع عشر. وهنا، كما في سائر أجزاء الكتاب، لن يجد القارئ المبتدئ مراجع أصلية تعينه على فهم أولي وضروري لفهم ما جاء في الكتاب. فهنالك دراسة نيل ماكهيج المعنونة "Holymen on the Blue Nile شيوخ النيل الأزرق"، والتي أشار إليها المؤلف ضمن مراجعه باعتبارها رسالة أكاديمية غير منشورة، ولم يشر لها في الهوامش إلا قليلا، رغم أنها نشرت بالفعل في عام 1994م، وكان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها مرجعا لإلقاء المزيد من الضوء على "الأولياء والصالحين" في السودان. واعتمد المؤلف كثيرا في وصف المهدية على كتابات بيتر هولت، والتي تعد الآن مما عفَا عليه الزَّمَن بعض الشيء. outdated
أما فصول الكتاب عن الحكم الثنائي فهي تقدم سردا تاريخيا مستمدا في غالبه من الكتب القديمة للمؤلف نفسه. وصور واربيرج عهد الحكم الثنائي وكأنه ذلك العهد الذي "قضي فيه الأمر بالنسبة للسياسة الطائفية في السودان"، رغم أنه يعد ذلك النمط (من السياسة) هو العامل السائد والغالب عبر كل التاريخ السياسي للسودان الحديث. وناقش المؤلف تحول أنصار المهدية من حركة ثورية إلى حزب سياسي دون أن يشير إلى مقالات (المؤرخ الفرنسي) جيرارد برونيرز Gérard Prunierالموسعة، التي حاول فيها الإجابة عن ذات السؤال.
ولا يظهر في كتاب واربيرج هذا، إلا لماما، زعيما أكبر طائفتين في البلاد في غضون سنوات الحكم الثنائي (عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية الصوفية) بحسبانهما أكبر شخصيتين دينيتين في البلاد يجلهما (بل يقدسهما) عدد كبير من الأنصار والأتباع. ونظر واربيرج إليهما بمنظار السياسة، مستندا على الوثائق الاستعمارية، خاصة عند مناقشته لموضوع تجنيد الأنصار، حين جاءت أفكاره في هذه النقطة مجرد صدى لنظرة المستعمرين البريطانيين للأنصار كجماعة متعصبة و"متخلفة". ولم يشر المؤلف في مناقشته هنا إلى أي مصدر أولي غير استعماري خلا كتاب للصادق المهدي، الذي كان ولا يزال الزعيم الأكثر تأثيرا لهذه الجماعة منذ الستينيات.
وجاءت فصول الجزء الرابع من هذا الكتاب عن السياسة الدينية في السودان المستقل، مثل فصول الكتاب السابقة، لا تقدم شيئا (جديدا) غير ما كتب في كثير من المصادر التقليدية. فقد أورد المؤلف بعض الخطوط العريضة عن "إحياء الإسلام / الصحوة الإسلامية" منذ بداية الستينيات مع قيام حركة "الإخوان المسلمون" تحت قيادة حسن الترابي، مرورا بأواخر السبعينيات حين أعلن الرئيس النميري عن توجهه الإسلامي، الذي قرب العناصر الإسلامية إلى مركز السلطة بالبلاد. وأفضى ذلك التوجه في 1983م إلى إعلان قوانين الشريعة الإسلامية. وأفلح المؤلف، معتمدا على كتابات الصادق المهدي وحسن الترابي وحيدر إبراهيم علي، ونميري نفسه، في تكملة صورة المصادر الثانوية لتلك الأحداث. غير أني لا أوافق المؤلف البتة في ما ذهب إليه من محاولة الربط بين تصوير نميري لنفسه كـ "إمام"، والفكرة الشيعية عن الزعامة الدينية (صفحتي 157 و170 من الكتاب). ورغم أن تحليل مؤلف هذا الكتاب لمحاكمة محمود محمد طه يعد أقوى أجزاء الكتاب، فقد كان بإمكانه أن يلقي بمزيد من الضوء عن تطبيق الشريعة في تلك الفترة بالاستعانة بكتاب أولاف كونديقنOlaf Köndgen الصادر عام 1992م والموسوم "القوانين الجنائية الإسلامية بالسودان Das Islamisierte Strafrecht des Sudan"، والذي خلص فيه إلى أن القوانين الجنائية الإسلامية المطبقة في السودان ما هي إلا امتداد للممارسات القانونية السابقة ولكن بشكل إسلامي. (حصل الألماني أولاف كونديقن (1961م -) على الدكتوراه من "مدرسة أمستردام للتحليل الثقافي" بأطروحة عن القوانين الجنائية في عهدي النميري والبشير. المترجم).
ويعيب الكتاب أيضا (خاصة في الجزء الرابع) عدم تطرقه لمناقشة منهجية منتظمة لمفهوم "الطائفية". فالمؤلف يربط بين تلك الكلمة وبين الأنصار والختمية، ولكنه لا يذكر في تعريفه للكلمة الجماعات الدينية الأخرى مثل "الإخوان المسلمون" و"الإخوان الجمهوريون" و"أنصار السنة" (الذين يصفهم خصومهم بالوهابية). وإن كانت "الطائفية" هي بالفعل سبب المأزق التاريخي في السودان المستقل فسيتوقع القارئ أن يضع المؤلف الأنصار والختمية في صف "المتشددين" وليس في صف "الذين يقدمون نسخة إسلامية أقل تشددا وتعصبا" كما ذكر المؤلف في صفحة 151 من كتابه. بل يميل واربيرج لوصف الصادق المهدي (آخر رئيس وزراء في العهد الديمقراطي بين 1986 و1989م) بأنه "ممثل للاعتدال “ويشيد بأفكاره ورُؤاه، مما يشي ببعض التحيز والمحاباة biasله.
ومضى واربيرج في الجزء الخامس من كتابه، المعنون "الإسلاموية والديمقراطية" في شرحه للطريقة التي أفضت بها تلك "الصحوة الإسلامية" إلى قيام انقلاب عام 1989م، وتسنم التحالف بين العسكر والإسلاميين للسلطة، وتعميق الصراع بين شمال البلاد وجنوبها. وهنا يبرز السؤال (مجددا) عن دور "الطائفية" في تلك التطورات. فالمؤلف فيما يبدو يؤمن بفرضية أن أجندة "الطوائف" والأحزاب الإسلامية المختلفة كانت كلها تهدف لفرض الإسلام واللغة العربية. غير أنه أخفق في أن يعي أن تلك "الطوائف" والأحزاب الإسلامية المختلفة هي قوى متصارعة، تحمل (في بعض الأحيان) أفكارا متناقضة، ليس فقط بسبب التنافس السياسي حول النفوذ والسلطة، بل لأن نظرة كل واحد منها لمفهوم الدولة الإسلامية مختلف جدا.
ويعتقد واربيرج أن احتمالات قيام حكم علماني وديمقراطي في السودان ضئيلة للغاية. فهو يرى أنه حتى إن قدر للنظام الشمولي الحاكم الآن أن يزال عن سدة الحكم، فستظل البلاد تحت قبضة القوى "الطائفية". ويستشهد الرجل بمقولات ودعوات الصادق المهدي الداعية لعودة الديمقراطية، ولكنه رغم ذلك يتمسك بتقويمه السالب لـ "الطائفية". ويختم المؤلف كتابه بمقولات لبيرنارد لويس مستلة من كتاب له صدر عام 1973م عن التوافق والمُلاَءَمَة بين الإسلام والديمقراطية. وبالنظر إلى ظهور كم هائل من الأدبيات الأكثر حداثة وحذقا ودقة حول هذه القضية، وكتابات كثير من المفكرين والمنظرين الإسلاميين في داخل وخارج السودانيين عنها، فإن إعطاء بيرنارد لويس الكلمة الأخيرة في هذه الدراسة ربما يبدو كمفارقة تاريخية حدثت في غير وقتها (anachronistic).
أعتقد أن كتاب واربيرج الأخير هذا يمكن أن يصلح للمبتدئين الذين يرغبون في معرفة أولية بالسياسة الدينية بالسودان، خاصة وهو يحاول أن يتناول الموضوع من منظور محايد، وهذا أمر نادر في الأعمال التي تتناول الإسلام والسياسة في السودان. غير أن الكتاب أخفق في تقديم رؤية وتوليفة أوسع وأشمل مستمدة من أعمال المؤلف الأكاديمية الكثيرة عن السودان. وسيجد القراء من المتخصصين أن حالة السودان تعلمنا دروسا أكثر، خاصة في مجالي تفسير السياسة الدينية بالبلاد، والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية.

العرض الثاني (لروبرت كرامر)

قليلون هم المؤرخون الذين ساهموا بالكثير في مجال دراسات السودان ووادي النيل مثلما فعل جبرائيل واربيرج، والذي ظل لأكثر من ثلاثين سنة يداوم على البحث والنشر، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، والزيارات البحثية. ورغم أن مجمل دراساته كانت في مجال البحث والتنقيب والاستكشاف في طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أن تركيزه الأكبر انصب على الحركات السياسية، والمنظمات الدينية، والأمور القانونية، والرق، وحتى قضايا الحدود. ولهذا المؤلف ثلاث كتب على الأقل أعدها من أهم كتبه: أولها مؤلفه عن بدايات الحكم الثنائي (السودان تحت إدارة وينجت، 1899 – 1916) الصادر في لندن عام 1970م (ترجمه للعربية الأستاذ سيف الدين عبد الحميد. المترجم)، وكتابه الثاني بعنوان (الإسلام والوطنية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان) الصادر في لندن عام 1978م، وكتابه الثالث المعنون (الخلاف التاريخي في وادي النيل) الصادر في لندن عام 1992م. وقد أطلق المؤلف على كتابه الذي نحن بصدده هنا (الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية) والذي كان ثمرة اهتمام بحثي امتد لعقود سابقة عن دور الإسلام في السياسة السودانية "آخر أعمالي الرئيسة في هذا الموضوع". وهذا الكتاب بلا ريب إضافة مقدرة لمجموعة أعمال قيمة ومثيرة للإعجاب، وسيلقى الترحيب والاهتمام من طلاب الدراسات السودانية وطلاب التاريخ الإسلامي الحديث أيضا.
ولم يسمح قط لجبرائيل واربيرج (أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا) بزيارة السودان إذ أنه إسرائيلي الجنسية. وبذا فإن الرجل لم يقم بالبحث في أرشيف دار الوثائق (القومية) بالخرطوم، وإجراء مقابلات مع سودانيين لا يستطيعون مغادرة البلاد. ولعل ذلك العائق قد شكل اختيارات مواضيعه البحثية عبر العقود، وجعله من المجيدين لاستخدام المصادر الثانوية في الأدبيات التاريخية المنشورة باللغة العربية واللغات الأخرى. فالرجل وثيق المعرفة بدار السجلات البريطانية (في كيو Kew) وبأرشيف السودان في جامعة درم، وبأماكن أخرى. وتتضح معرفته الوثيقة والمتعمقة بما كتب في الأدبيات التاريخية في كتابه هذا (الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية)، والذي أتى في 226 صفحة، وقدم فيه عرضا واضحا ومقنعا للتاريخ الديني والسياسي للسودان منذ ظهور المهدية في 1881م إلى إعادة انتخاب عمر حسن البشير رئيسا للسودان في عام 2000م (ربما يكتب المؤلف ملحقا للكتاب يعرض فيه لأحداث مهمة وقعت بعد عام 2000م مثل عقد اتفاقية السلام الشامل عام 2005م بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان) في طبعة قادمة.
وبدأ المؤلف كتابه – بتوفيق كبير- بمناقشة مقتضبة لنشأة وتطور المؤسسات الإسلامية والممارسات في السودان في فترة ما قبل المهدية. وتناول أيضا الكثير من هذه الجوانب مثل الطرق الصوفية، وعائلات السودان "المقدسة"، والحكم التركي – المصري، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، والمصالح الأجنبية. وللعجب لم يتطرق الكاتب إلا قليلا لدور الإسلام في سلطنتي دارفور وسنار، والتي كتب عنها الكثير. وهذا قد يعد نقصا في هذا الكتاب صغير الحجم. إلا أن المؤلف قد أقر ببعض جوانب التقصير في كتابه، وأتى بعدة مراجع مفيدة في الهوامش وثبت المراجع لمن يرغب في الاستزادة في الموضوعات التي مَرَّ عليها الكاتب خطفا.
وتناول الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب أمر المهدية. وهنا أعترض على عنوان هذا الجزء الذي أتى به المؤلف "الدولة المهدية، 1881 – 1898م"، فهو عنوان مضلل، إذ أن تلك الدولة لم تقم إلا في عام 1885م. وهنا يقدم المؤلف عرضا عاما لما جرى من أحداث في تلك الفترة معتمدا بصورة كبيرة على ما كتبه بيتر هولت وآخرون، ومبرزا في ذات الوقت الطرق التي اتبعها المهدي ثم خليفته من بعده لتفسير الإسلام لمصلحتهما. وليس هنالك من دليل على زعم المؤلف بأنه "عقب وفاة المهدي صارت طريقة الختمية الصوفية هي مركز معارضة الخليفة عبد الله". ومن المؤسف أن المؤلف لم يتطرق لنقاش أمر الجو العام الذي نشأت فيه الحركات العيساوية (العيسوية) التي اجتاحت السودان في نهايات القرن التاسع عشر، والتي أدت في الواقع لظهور المهدية. ورغم ذلك فإن رأيه في أن تلك الفترة – رغم طبيعتها الثورية – تمثل درجة عالية من "الاستمرارية المؤسسية" هو رأي مهم في إطار نظرته الأشمل لدور الإسلام في الحياة السياسية السودانية.
وخصص المؤلف ما يقارب ثلث الكتاب لدراسة موضوعه في غضون سنوات الحكم الثنائي البريطاني – المصري (1899 – 1955م)، وهو أحد الموضوعات التي تناولها بالبحث المفصل عدد من السودانيين والبريطانيين والأمريكيين وغيرهم. وعوضا عن أن يقوم المؤلف بتلخيص ما نشره الآخرون في هذا الجانب، قام بجلب الكثير من مواد المصادر الأولية في عرضه للسياسة الحكومية تجاه الدين من نصوص التقارير الحكومية ومذكراتها، والرسائل الخاصة، والمذكرات، ومقالات الصحف وغيرها. وهي مواد مهمة ومثيرة للاهتمام. ونالت – لأسباب مفهومة - علاقات الحكومة مع "السيدين" (علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي) وأفراد طائفتيهما معظم اهتمام المؤلف في هذا الجزء من الكتاب. وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "الطريق إلى الاستقلال، 1939 – 1955م) تناول الكاتب السياسة الحزبية بالبلاد وتجاهل الجنوب، ممهدا الطريق لنقاش قضايا ما بعد الاستقلال في السودان.
أما الثلث الأخير من الكتاب، فقد خصصه المؤلف للسودان بعد استقلاله، وعن فترات الحكم الديمقراطي فيه بين عامي 1956 و1989م، وعن فترة الحكم العسكري الإسلامي بين 1989 وديسمبر من عام 2000م، حيث يقف الكتاب. وناقش المؤلف هنا بوضوح وتفصيل يبعث على الإعجاب مواضيعا مختلفة شملت الأفكار المتنافسة على تحديد ما هو "صحيح" الدين، والمشاكل العملية المتعلقة بتطبيق الشريعة في دولة متعددة الأديان والأعراق، ومكائد الساسة السودانيين – مثل جعفر نميري والصادق المهدي وحسن الترابي وعمر البشير –
وقد يندهش القراء الذين لم تتح لهم الفرصة لدراسة تاريخ السودان من شدة التنوع في الأفكار السياسية الإسلامية في هذا المجتمع المسلم.
وفي الفصل الأخير قدم المؤلف خلاصة قصيرة تناولت القضايا المعقدة المتعلقة بتوفيق الأفكار (المختلفة) عن الإسلام والديمقراطية، وهو يشير بالطبع لأحوال السودان (الآن).
أحسب أن هذا الكتاب كان سيكون أكثر فائدة لو أضاف له المؤلف مزيدا من الخرائط، خاصة تلك التي توضح تقسيم الولايات / المديريات منذ الثمانينات، إذ أن ذلك كان أحد تكتيكات حكام السودان الإسلاميين.
كذلك لم يخل الكتاب من قليل من الأخطاء الطباعية التي أثق أنها لن تشتت ذهن القارئ أو تصرف أفكاره.
وأخلص إلى أن المؤلف أفلح في تقديم دراسة موجزة ومكتوبة بشكل جيد عن موضوع بالغ الأهمية في يومنا هذا. ولا شك عندي أن طلاب الدراسات السودانية، والقراء – على وجه العموم- سيداومون الاطلاع على هذا الكتاب ويقدرونه حق قدره.


Islam, Sectarianism and Politics in the Sudan, by Gabriel Warburg
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة عرضين لكتاب البروفيسور الإسرائيلي جبرائيل واربيرج المعنون "الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية". ولد هذا المؤلف في برلين بألمانيا عام 1927م، وهاجر مع عائلته لفلسطين وهو طفل صغير وبقي بها حتى عام 1946م حين أكمل دراسته بكلية للزراعة، ثم درس تاريخ الدول الإسلامية في الجامعة العبرية بالقدس (بين عامي 1961 و1964م) واللغة العربية وآدابها في جامعة لندن، التي تحصل منها أيضا في عام 1968م على درجة الدكتوراه بأطروحة عن "إدارة الحكم الثنائي بين عامي 1899 – 1916م". وعمل بعد ذلك أستاذاً في جامعة حيفا حتى تقاعده في عام 1996م. ونشر الرجل الكثير من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، منها كتاب بعنوان "الإسلام والقومية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان "، وكتاب "إعادة الشريعة الإسلامية في السودان في عهد النميري "، وكتب أخرى، إضافة لعدة مقالات عن الإخوان المسلمين، وأنصار المهدي، والحزب الشيوعي السوداني. وسبق لنا أن قمنا بترجمة شذرات من بعض كتب ومقالات هذا الكاتب.
ونشر العرض الأول لهذا الكتاب بقلم ريديقر سيسيمان بروفيسور الدراسات الإسلامية بجامعة بايرويت Bayreuth بألمانيا في العدد رقم 49 من المجلة الألمانية "عالم الإسلام Die Welt des Islam" الصادرة عام 2009م. بينما نشر العرض الثاني بقلم البروفيسور روبرت كرامر أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا بكلية سانت نوربينت بولاية وسيكنسون الأمريكية في العدد رقم 49 من "مجلة الدراسات الإفريقية African Studies Review" الصادرة عام 2006م.
المترجم
*********** *********** *********
العرض الأول (لريديقر سيسيمان)
صرم جبرائيل واربيرج غالب سنوات نشاطه البحثي في دراسة تاريخ السودان المضطرب في مجالي السياسة والدين. وهذا هو الكتاب الأخير للمؤلف عن السودان (كما ذكر ذلك بنفسه)، وهو يرفع (بعنوانه) سقف تطلعات القارئ عاليا. ورغم أن واربيرج (الإسرائيلي الجنسية) لم يتمكن من زيارة السودان قط، إلا أن كتبه ومقالاته عن ذلك البلد قد أكسبته شهرة عالية بحسبانه أحد كبار المتخصصين في مجال الدراسات السودانية، ليس فقط خارج السودان، بل في داخله أيضا.
ويقدم الكتاب عرضا متماسكا (وكثيفا بعض الشيء) لأهم مراحل التطورات السياسية والدينية التي حدثت بالسودان في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويؤكد المؤلف في غالب كتابه هذا على الحقائق التاريخية، التي كان كثيرا ما يضيف عليها تفسيراته لتلك الوقائع، دون تحديد أو تعريف لأنماطها الأساسية والضمنية بطريقة منتظمة. وتقوم حجة المؤلف في سائر أجزاء كتابه على الدور التخريبي / المدمر الذي لعبته "الطائفية" في السياسة السودانية. إلا أنه يجب القول بأن تناول المؤلف لهذا الموضوع ظل على مستوى افتراضات ضمنية أكثر منه على مستوى تحليل مقنع، كما سأفصل فيما يلي من عرض للكتاب.
وعلى الرغم من أن الكتاب كان قد نشر عام 2003م، إلا أن مخطوطته كانت قد اكتملت في عام 2000م، ولعل هذا يفسر خلوه من كثير من الأحداث المهمة التي وقعت مؤخرا، مثل التقارب التدريجي بين حكومة السودان بقيادة عمر البشير وحركة تحرير السودان بقيادة جون قرانق، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى توقيع معاهدة السلام الشامل في عام 2005م. ولن يلام واربيرج بالطبع على أن كثيرا من الأحداث السياسية والدينية تظهر عادة تحت ضوء مختلف عندما ينظر إليها بعد مرور وقت من وقوعها. غير أن تقييمه، الذي ذكره صراحة في غلاف كتابه الخلفي، والذي يفيد بأن "المحاولات المستمرة لفرض نظام اسلامي في مجتمع متعدد الأديان والأعراق هي المسؤولة عن تطاول سنوات الحرب الأهلية وعن الإفلاس الاجتماعي والاقتصادي والسياسي" هو مَحْضٌ تبسيط مفرط – ليس فقط بناءً على التطورات التي وقعت بعد عام 2000م، بل كتفسير للماضي. وهذا لا ينفي بالطبع بأن الصراع حول دور الإسلام في السياسة يشكل عائقا رئيسا في السودان الحديث. غير أنه لا يمكن محاسبة "الطائفية" بمفردها على ذلك المأزق التاريخي، كما أنه لا يمكن لذلك التوصيف / الوسم (label) أن يسع كل تلك التعقيدات المتداخلة والمعقدة بين القوى الإسلامية في الساحة السياسية السودانية.
وقسم المؤلف كتابه زمنيا (بحسب تواريخ الأحداث) إلى خمسة أجزاء، عنون أولها "الأسلمة"، ويغطي الفترة إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر، مع تركيز خاص على عهد ما سمى بـ "التركية" بين عامي 1820 و1881م. وتناول الجزء الثاني فترة المهدية بين عامي 1882 و1898م (لعل مؤلف الكتاب أخطأ في بداية عهد المهدية. انظر تعليق كاتب العرض التالي. المترجم). وتناول المؤلف في جزء الكتاب الثالث السياسة الدينية في عهد الحكم الثنائي (1899 – 1956م)، وخصص نحو ثلث الكتاب لتلك الفترة من تاريخ السودان. أما الجزء الرابع من الكتاب (ويمثل ربع الكتاب تقريبا) فقد تناول عهد الاستقلال بين عامي 1956 إلى 1989م. وعنون المؤلف فصله الخامس والأخير بعنوان: "الإسلاموية والديمقراطية"، وفيه تناول – في 25 صفحة – انقلاب 1989م، وما تبعه من حكم اسلاموي. ولخص واربيرج في الصفحات الأخيرة من فصله الخامس مجمل الآراء والحجج التي طرحها في الكتاب. وجاءت تلك الخلاصة كخواطر عابرة عن الاتساق والتوافق بين الإسلام والديمقراطية في السياق السوداني.
وجمع واربيرج في دراسته هذا بين القليل من المصادر الأولية والكثير من الأدبيات الثانوية. ويعطي الفصل الذي خصصه للتركية عرضا معياريا للتطورات التي أفضت لـ "ثورة" المهدي في ثمانينات القرن التاسع عشر. وهنا، كما في سائر أجزاء الكتاب، لن يجد القاريء المبتدئ مراجع أصلية تعينه على فهم أولي وضروري لفهم ما جاء في الكتاب. فهنالك دراسة نيل ماكهيج المعنونة "Holymen on the Blue Nile شيوخ النيل الأزرق"، والتي أشار إليها المؤلف ضمن مراجعه باعتبارها رسالة أكاديمية غير منشورة، ولم يشر لها في الهوامش إلا قليلا، رغم أنها نشرت بالفعل في عام 1994م، وكان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها مرجعا لإلقاء المزيد من الضوء على "الأولياء والصالحين" في السودان. واعتمد المؤلف كثيرا في وصف المهدية على كتابات بيتر هولت، والتي تعد الآن مما عفَا عليه الزَّمَن بعض الشيء outdated.
أما فصول الكتاب عن الحكم الثنائي فهي تقدم سردا تاريخيا مستمدا في غالبه من الكتب القديمة للمؤلف نفسه. وصور واربيرج عهد الحكم الثنائي وكأنه ذلك العهد الذي "قضي فيه الأمر بالنسبة للسياسة الطائفية في السودان"، رغم أنه يعد ذلك النمط (من السياسة) هو العامل السائد والغالب عبر كل التاريخ السياسي للسودان الحديث. وناقش المؤلف تحول أنصار المهدية من حركة ثورية إلى حزب سياسي دون أن يشير إلى مقالات (المؤرخ الفرنسي) جيرارد برونيرز Gérard Prunierالموسعة، التي حاول فيها الإجابة عن ذات السؤال.
ولا يظهر في كتاب واربيرج هذا، إلا لماما، زعيما أكبر طائفتين في البلاد في غضون سنوات الحكم الثنائي (عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار، وعلي الميرغني زعيم طائفة الختمية الصوفية) بحسبانهما أكبر شخصيتين دينيتين في البلاد يجلهما (بل يقدسهما) عدد كبير من الأنصار والأتباع. ونظر واربيرج إليهما بمنظار السياسة، مستندا على الوثائق الاستعمارية، خاصة عند مناقشته لموضوع تجنيد الأنصار، حين جاءت أفكاره في هذه النقطة مجرد صدى لنظرة المستعمرين البريطانيين للأنصار كجماعة متعصبة و"متخلفة". ولم يشر المؤلف في مناقشته هنا إلى أي مصدر أولي غير استعماري خلا كتاب للصادق المهدي، الذي كان ولا يزال الزعيم الأكثر تأثيرا لهذه الجماعة منذ الستينيات.
وجاءت فصول الجزء الرابع من هذا الكتاب عن السياسة الدينية في السودان المستقل، مثل فصول الكتاب السابقة، لا تقدم شيئا (جديدا) غير ما كتب في كثير من المصادر التقليدية. فقد أورد المؤلف بعض الخطوط العريضة عن "إحياء الإسلام / الصحوة الإسلامية" منذ بداية الستينيات مع قيام حركة "الإخوان المسلمون" تحت قيادة حسن الترابي، مرورا بواخر السبعينيات حين أعلن الرئيس النميري عن توجهه الإسلامي، الذي قرب العناصر الإسلامية إلى مركز السلطة بالبلاد. وأفضى ذلك التوجه في 1983م إلى إعلان قوانين الشريعة الإسلامية. وأفلح المؤلف، معتمدا على كتابات الصادق المهدي وحسن الترابي وحيدر إبراهيم علي، ونميري نفسه، في تكملة صورة المصادر الثانوية لتلك الأحداث. غير أني لا أوافق المؤلف البتة في ما ذهب إليه من محاولة الربط بين تصوير نميري لنفسه كـ "إمام"، والفكرة الشيعية عن الزعامة الدينية (صفحتي 157 و170 من الكتاب). ورغم أن تحليل مؤلف هذا الكتاب لمحاكمة محمود محمد طه يعد أقوى أجزاء الكتاب، فقد كان بإمكانه أن يلقي بمزيد من الضوء عن تطبيق الشريعة في تلك الفترة بالاستعانة بكتاب أولاف كونديقنOlaf Köndgen الصادر عام 1992م والموسوم "القوانين الجنائية الإسلامية بالسودان Das Islamisierte Strafrecht des Sudan"، والذي خلص فيه إلى أن القوانين الجنائية الإسلامية المطبقة في السودان ما هي إلا امتداد للممارسات القانونية السابقة ولكن بشكل إسلامي. (حصل الألماني أولاف كونديقن (1961م -) على الدكتوراه من "مدرسة أمستردام للتحليل الثقافي" بأطروحة عن القوانين الجنائية في عهدي النميري والبشير. المترجم).
ويعيب الكتاب أيضا (خاصة في الجزء الرابع) عدم تطرقه لمناقشة منهجية منتظمة لمفهوم "الطائفية". فالمؤلف يربط بين تلك الكلمة وبين الأنصار والختمية، ولكنه لا يذكر في تعريفه للكلمة الجماعات الدينية الأخرى مثل "الإخوان المسلمون" و"الإخوان الجمهوريون" و"أنصار السنة" (الذين يصفهم خصومهم بالوهابية). وإن كانت "الطائفية" هي بالفعل سبب المأزق التاريخي في السودان المستقل فسيتوقع القارئ أن يضع المؤلف الأنصار والختمية في صف "المتشددين" وليس في صف "الذين يقدمون نسخة إسلامية أقل تشددا وتعصبا" كما ذكر المؤلف في صفحة 151 من كتابه. بل يميل واربيرج لوصف الصادق المهدي (آخر رئيس وزراء في العهد الديمقراطي بين 1986 و1989م) بأنه "ممثل للاعتدال “ويشيد بأفكاره ورُؤاه، مما يشي ببعض التحيز والمحاباة bias)) له.
ومضى واربيرج في الجزء الخامس من كتابه، المعنون "الإسلاموية والديمقراطية" في شرحه للطريقة التي أفضت بها تلك "الصحوة الإسلامية" إلى قيام انقلاب عام 1989م، وتسنم التحالف بين العسكر والإسلاميين للسلطة، وتعميق الصراع بين شمال البلاد وجنوبها. وهنا يبرز السؤال (مجددا) عن دور "الطائفية" في تلك التطورات. فالمؤلف فيما يبدو يؤمن بفرضية أن أجندة "الطوائف" والأحزاب الإسلامية المختلفة كانت كلها تهدف لفرض الإسلام واللغة العربية. غير أنه أخفق في أن يعي أن تلك "الطوائف" والأحزاب الإسلامية المختلفة هي قوى متصارعة، تحمل (في بعض الأحيان) أفكارا متناقضة، ليس فقط بسبب التنافس السياسي حول النفوذ والسلطة، بل لأن نظرة كل واحد منها لمفهوم الدولة الإسلامية مختلف جدا.
ويعتقد واربيرج أن احتمالات قيام حكم علماني وديمقراطي في السودان ضئيلة للغاية. فهو يرى أنه حتى إن قدر للنظام الشمولي الحاكم الآن أن يزال عن سدة الحكم، فستظل البلاد تحت قبضة القوى "الطائفية". ويستشهد الرجل بمقولات ودعوات الصادق المهدي الداعية لعودة الديمقراطية، ولكنه رغم ذلك يتمسك بتقويمه السالب لـ "الطائفية". ويختم المؤلف كتابه بمقولات لبيرنارد لويس مستلة من كتاب له صدر عام 1973م عن التوافق والمُلاَءَمَة بين الإسلام والديمقراطية. وبالنظر إلى ظهور كم هائل من الأدبيات الأكثر حداثة وحذقا ودقة حول هذه القضية، وكتابات كثير من المفكرين والمنظرين الإسلاميين في داخل وخارج السودانيين عنها، فإن إعطاء بيرنارد لويس الكلمة الأخيرة في هذه الدراسة ربما يبدو كمفارقة تاريخية حدثت في غير وقتها (anachronistic).
أعتقد أن كتاب واربيرج الأخير هذا يمكن أن يصلح للمبتدئين الذين يرغبون في معرفة أولية بالسياسة الدينية بالسودان، خاصة وهو يحاول أن يتناول الموضوع من منظور محايد، وهذا أمر نادر في الأعمال التي تتناول الإسلام والسياسة في السودان. غير أن الكتاب أخفق في تقديم رؤية وتوليفة أوسع وأشمل مستمدة من أعمال المؤلف الأكاديمية الكثيرة عن السودان. وسيجد القراء من المتخصصين أن حالة السودان تعلمنا دروسا أكثر، خاصة في مجالي تفسير السياسة الدينية بالبلاد، والعلاقة بين الإسلام والديمقراطية.
العرض الثاني (لروبرت كرامر)
قليلون هم المؤرخون الذين ساهموا بالكثير في مجال دراسات السودان ووادي النيل مثلما فعل جبرائيل واربيرج، والذي ظل لأكثر من ثلاثين سنة يداوم على البحث والنشر، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، والزيارات البحثية. ورغم أن مجمل دراساته كانت في مجال البحث والتنقيب والاستكشاف في طبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلا أن تركيزه الأكبر انصب على الحركات السياسية، والمنظمات الدينية، والأمور القانونية، والرق، وحتى قضايا الحدود. ولهذا المؤلف ثلاث كتب على الأقل أعدها من أهم كتبه: أولها مؤلفه عن بدايات الحكم الثنائي (السودان تحت إدارة وينجت، 1899 – 1916) الصادر في لندن عام 1970م (ترجمه للعربية الأستاذ سيف الدين عبد الحميد. المترجم)، وكتابه الثاني بعنوان (الإسلام والوطنية والشيوعية في مجتمع تقليدي: حالة السودان) الصادر في لندن عام 1978م، وكتابه الثالث المعنون (الخلاف التاريخي في وادي النيل) الصادر في لندن عام 1992م. وقد أطلق المؤلف على كتابه الذي نحن بصدده هنا (الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية) والذي كان ثمرة اهتمام بحثي امتد لعقود سابقة عن دور الإسلام في السياسة السودانية "آخر أعمالي الرئيسة في هذا الموضوع". وهذا الكتاب بلا ريب إضافة مقدرة لمجموعة أعمال قيمة ومثيرة للإعجاب، وسيلقى الترحيب والاهتمام من طلاب الدراسات السودانية وطلاب التاريخ الإسلامي الحديث أيضا.
ولم يسمح قط لجبرائيل واربيرج (أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا) بزيارة السودان إذ أنه إسرائيلي الجنسية. وبذا فإن الرجل لم يقم بالبحث في أرشيف دار الوثائق (القومية) بالخرطوم، وإجراء مقابلات مع سودانيين لا يستطيعون مغادرة البلاد. ولعل ذلك العائق قد شكل اختيارات مواضيعه البحثية عبر العقود، وجعله من المجيدين لإستخدام المصادر الثانوية في الأدبيات التاريخية المنشورة باللغة العربية واللغات الأخرى. فالرجل وثيق المعرفة بدار السجلات البريطانية (في كيو Kew) وبأرشيف السودان في جامعة درم، وبأماكن أخرى. وتتضح معرفته الوثيقة والمتعمقة بما كتب في الأدبيات التاريخية في كتابه هذا (الإسلام والطائفية والسياسة بالسودان منذ المهدية)، والذي أتى في 226 صفحة، وقدم فيه عرضا واضحا ومقنعا للتاريخ الديني والسياسي للسودان منذ ظهور المهدية في 1881م إلى إعادة انتخاب عمر حسن البشير رئيسا للسودان في عام 2000م (ربما يكتب المؤلف ملحقا للكتاب يعرض فيه لأحداث مهمة وقعت بعد عام 2000م مثل عقد اتفاقية السلام الشامل عام 2005م بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان) في طبعة قادمة.
وبدأ المؤلف كتابه – بتوفيق كبير- بمناقشة مقتضبة لنشأة وتطور المؤسسات الإسلامية والممارسات في السودان في فترة ما قبل المهدية. وتناول أيضا الكثير من هذه الجوانب مثل الطرق الصوفية، وعائلات السودان "المقدسة"، والحكم التركي – المصري، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، والمصالح الأجنبية. وللعجب لم يتطرق الكاتب إلا قليلا لدور الإسلام في سلطنتي دارفور وسنار، والتي كتب عنها الكثير. وهذا قد يعد نقصا في هذا الكتاب صغير الحجم. إلا أن المؤلف قد أقر ببعض جوانب التقصير في كتابه، وأتى بعدة مراجع مفيدة في الهوامش وثبت المراجع لمن يرغب في الاستزادة في الموضوعات التي مَرَّ عليها الكاتب خطفا.
وتناول الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب أمر المهدية. وهنا أعترض على عنوان هذا الجزء الذي أتى به المؤلف "الدولة المهدية، 1881 – 1898م"، فهو عنوان مضلل، إذ أن تلك الدولة لم تقم إلا في عام 1885م. وهنا يقدم المؤلف عرضا عاما لما جرى من أحداث في تلك الفترة معتمدا بصورة كبيرة على ما كتبه بيتر هولت وآخرون، ومبرزا في ذات الوقت الطرق التي اتبعها المهدي ثم خليفته من بعده لتفسير الإسلام لمصلحتهما. وليس هنالك من دليل على زعم المؤلف بأنه "عقب وفاة المهدي صارت طريقة الختمية الصوفية هي مركز معارضة الخليفة عبد الله". ومن المؤسف أن المؤلف لم يتطرق لنقاش أمر الجو العام الذي نشأت فيه الحركات العيساوية (العيسوية) التي اجتاحت السودان في نهايات القرن التاسع عشر، والتي أدت في الواقع لظهور المهدية. ورغم ذلك فإن رأيه في أن تلك الفترة – رغم طبيعتها الثورية – تمثل درجة عالية من "الاستمرارية المؤسسية" هو رأي مهم في إطار نظرته الأشمل لدور الإسلام في الحياة السياسية السودانية.
وخصص المؤلف ما يقارب ثلث الكتاب لدراسة موضوعه في غضون سنوات الحكم الثنائي البريطاني – المصري (1899 – 1955م)، وهو أحد الموضوعات التي تناولها بالبحث المفصل عدد من السودانيين والبريطانيين والأمريكيين وغيرهم. وعوضا عن أن يقوم المؤلف بتلخيص ما نشره الآخرون في هذا الجانب، قام بجلب الكثير من مواد المصادر الأولية في عرضه للسياسة الحكومية تجاه الدين من نصوص التقارير الحكومية ومذكراتها، والرسائل الخاصة، والمذكرات، ومقالات الصحف وغيرها. وهي مواد مهمة ومثيرة للاهتمام. ونالت – لأسباب مفهومة - علاقات الحكومة مع "السيدين" (علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي) وأفراد طائفتيهما معظم اهتمام المؤلف في هذا الجزء من الكتاب. وفي الفصل الثاني الذي جاء بعنوان "الطريق إلى الاستقلال، 1939 – 1955م) تناول الكاتب السياسة الحزبية بالبلاد وتجاهل الجنوب، ممهدا الطريق لنقاش قضايا ما بعد الاستقلال في السودان.
أما الثلث الأخير من الكتاب، فقد خصصه المؤلف للسودان بعد استقلاله، وعن فترات الحكم الديمقراطي فيه بين عامي 1956 و1989م، وعن فترة الحكم العسكري الإسلامي بين 1989 وديسمبر من عام 2000م، حيث يقف الكتاب. وناقش المؤلف هنا بوضوح وتفصيل يبعث على الاعجاب مواضيعا مختلفة شملت الأفكار المتنافسة على تحديد ما هو "صحيح" الدين، والمشاكل العملية المتعلقة بتطبيق الشريعة في دولة متعددة الأديان والأعراق، ومكائد الساسة السودانيين – مثل جعفر نميري والصادق المهدي وحسن الترابي وعمر البشير –
وقد يندهش القراء الذين لم تتح لهم الفرصة لدراسة تاريخ السودان من شدة التنوع في الأفكار السياسية الإسلامية في هذا المجتمع المسلم.
وفي الفصل الأخير قدم المؤلف خلاصة قصيرة تناولت القضايا المعقدة المتعلقة بتوفيق الأفكار (المختلفة) عن الإسلام والديمقراطية، وهو يشير بالطبع لأحوال السودان (الآن).
أحسب أن هذا الكتاب كان سيكون أكثر فائدة لو أضاف له المؤلف مزيدا من الخرائط، خاصة تلك التي توضح تقسيم الولايات / المديريات منذ الثمانينات، إذ أن ذلك كان أحد تكتيكات حكام السودان الإسلاميين.
كذلك لم يخلو الكتاب من قليل من الأخطاء الطباعية التي أثق أنها لن تشتت ذهن القارئ أو تصرف أفكاره.
وأخلص إلى أن المؤلف أفلح في تقديم دراسة موجزة ومكتوبة بشكل جيد عن موضع بالغ الأهمية في يومنا هذا. ولا شك عندي أن طلاب الدارسات السودانية، والقراء – على وجه العموم- سيداومون الاطلاع على هذا الكتاب ويقدرونه حق قدره.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء