(1) أحكي لكم، عن فنان، رجل طويل، ذو صوت مميز، نحيف، يقسرك على تأمله، ولو كنت نائم، أو حتى تصلي، صاحب عيون طفولية شقية، تبحث عن شئ ضاع منها، وتجهله، تجدها مفتوحة بسعة، وهي تتلصص بحب وفهم عجيب، على كل الأمكنة، سوق كان او طرق شعبية، عم يبحث؟
ربما تجده دون ساعة، أو هاتف، بل حتى دون حذاء، ولكن لن تجده دون صديقته الأبدية، العين الزجاجية الثالثة، أو القلب الثاني، معلقة على كتفة، كثمرة سوداء، على شجره عشقه الأبدي.
يبدو دوما بقمصان افريقية الطابع، غابة عجيبة في قماش، وأكمام، محب للقهوة، وطقوس صنعها "أهي تجربة ارتريا؟"، ويهوي الجزم الملونة الخفيفة، "والتي دوما تكون نصيبي حين سفره، ووداعه الحزين"، جزم مفارقة للخطى حولها، وحكاء فطري، عن ترحاله العجيب، في نواحي الأرض، ذلكم، هو المصور الفنان، محمد الجزولي.
(2)
إن عين الجزولي، الزجاجية، ترفع من شأن العادي، لمقام الرؤية، والتأويل، تلكم العين الثالثة، التي ظنها الهنود عين الحكمة، التي ترى الجمال الباهر في كل شئ، فهي ثملة بالرضا، والعمق والبساطة، تسحرها خشبة تعليق ملابس، أو دسته أقلام مبرية، حادة الطرف، وناعمة الرؤية، تقف في خشوع لتلكم العين، كي تصور تلكم الحميمية بينها، قبيلة من أقلام، فيها من يكتب نصيحة ويجهر بها، أو رسالة، وقلم آخر لقاض، أو تلميذ يخربش، وآخر قلم قاص، أو شاعر أو عرضحالجي لقوم جاواء من بعيد، لمعزة ضائعة، أو حق مضيع، اقلامه تبدو تتشابه في المظهر، وتتباين في المظهر، وكلها في صلاة خشوع، في انتظار قدرها "المبرأة الحادة"، وتسطير عوالم مختلفة حد الافتتنان، "تلك احد صورة، مجرد اقلام في صلاة".
هكذا تبدو صورة الأقلام الخاشعة في وقوفها، منتصبه، في صلاة الرؤية، مثل "صندوق ببسي"، ولم لا؟ فتلكم العين الحكيمة، الثالثة، الزجاجية تعشق الاستحالة، والتجريب، وستشرب من رؤيتها أرق الإحساسيس التي تشغى النفس من الصور، والمصور.
إن عين كاميرته، كانت تحتفي بكل شئ، حولها، تصطاد أدق التفاصيل التي تمر مرور الكرام على الخواطر، والعيون، ولكن تلكم العين الزجاجية الثالثة، لبصيرتها المتقدة، تلمها لصدرها الحنون، وتنصبها أميرة بين فريمات اللوحات، والصور، يدهشها خيط عنبكوت، أو بلحات في حال آنس معا، قبيل إفتراس الضروس، يتسامرن، قبيل إفراس هويتهن، أو صف من دبابيس ملونة، يزحف نحوك كعثبان، تحسه "يسعى"، فيما يختفي ذيله الملون الأزرق في ضباب ما، مجرد دبابيس، ملونة تبدو ثعبان يفحم التفسير، مثل طفل، ينفخ الروح، فيما يطاله بصره، وبصيرته، فعنده الكون حي، قيوم. هناك صورة، لجنزير حديد، حاد، وشاعري معا، يتلوى مثل فطيرة في طريقها للطهي، فهل يأكل الحديد؟ لم لا، هو عنصر مثل كل العناصر، تلف ألكتروانته، حول نواته، وفي المنتهى "هو ذبذبة"، ليس إلا، فهل ترى تلك العين تلكم الوشاح الفيزيائي؟ الذي يخيط الكون معا، بأواصر الذبذبة، والتلامس، والتلاقح؟ حتى الضوء منسرب منه، الجنزير (في النجوم)، اليس الحجر الكبير مشعا؟ اعني القمر؟.
(3)
حكايات أقرب لعوالم السحر، من خلال صور ناطقة بصمت تكويني هامس، غامض، لألف تأويل في بال القارئ لها، والمتفرج على سرها، وسحرها. هناك علاقة ملابس "تعلق عليها ملابسنا"، تبدو كأنها مشانق، أو نجوم "كل حال لها حس"، هل تحبنا الملابس؟ وتكره التعليق؟ أم تبدو كأنها غابة بلاستيك، ثمارها هي الأجساد، ونداها هو العرق؟ ينتابني احساس انها "مشنوقة"، اي الملابس حين تعلق، السيت هي "جلودنا؟"، ومن يتمتع بالحياة اكثر من الجلد؟ مساج ونسيم عليل، ولو كان الفستان لفتاة؟ أليس تعاريج جمسها فن فاتن ومحير؟ فتنة الشكل، كذلك كل تصوراته، تحتفي بفتنة "الشكل"، مجرد الشكل، شكل القلم، أو ورقة "صفقة"، او خيط عنبكوت؟ هل قلت خيط عنكبوت؟.
هل اعود للأقلام؟ تبدو كصواريخ تود ان تنطلق؟ تقذف من؟ بحروفها؟ لست أدري، لست شاعرا كي ادرك بنفسي وحدسي نيات الاقلام المحتشدة للأنطلاق، وللأعلى، من العدو ايتها الاقلام؟ من عدوك ا لحقيقي؟ ولا محال حروفك اقوى من كل القنابل، قوة الحرف، ألم يقل المسيح، "الجبال تزول، وكلامي لا يزول؟"، حروف كلماته لا تزول، تشع دوما كشمس في الفم حين تنطق،وتضئ السامع والمسموع.
(4)
أأأه من الاقلام؟ هل امحو ما سبق؟ هناك اقلام تنامل كعشاق على شاطي؟ لا، كشباب في فراش بكاء قروي؟ على الارض متجانبين؟ لا، اطفال تتدردق على الارض؟ الله والعين الزجاجية اعلم؟، هي اقلام ترقد على جنبها في حميمية جميلة ذكرتني بصديقة فرنسية زارت السودان فقالت ان اكثر مشهد اثارها وادهشها، هو، هو "النيل؟"، السمرة؟ لا وألف لا، ادهشتها "لمة فتيات تحت شجرة في حميمية لطيفة، كل تنام على حجر الاخرى او تتكئ على ظهر اختها"، قالت تلكم الحميمية "غابت في اوربا كلها"، أهكذا الاقلام؟ اظنها اقلام اطفال مدرسة، لذا هناك اواصر حب، وتفاهم، وربما اقلام متباينة الهم والحرفة، ولكنها تؤمن بوحدة الوجود، لكل شئ علاقة بكل شي..
خيط، أو قل نسيج العنكبوت، في البدء "ولأن الذاكرة تكتظ، بكرة القدم "وكأس عالم روسيا في البال"، حسبته شبكة المرمى، شكبة نحيفة، أظن الكرة مخلوقة من رقة خد طفلة، أو روح قصيدة، ولكن يشدك بساطة الصورة وعمقها، وتحس "بأمن وأمان"، ان كان هذا الفن الرفيع من الغزل، من صنيع عنكبوت، فن وخرفة، ومكر، فلم الخوف؟ من العقل القديم الفنان؟ هذه الشبكة كي تصطاد فرائسها، وعيوننا، بحكمة الحياة "الحياة في خلد عنبكوت"، نحب الحياة، اذ ما استطعنا إليها سبيلا.
هناك قطرة ماء، لا تزال ممسكة بنهاية الدش، للحق انتظرتها سويعات كي تهوي، تكاد تهوي، بل هوت، في حسي، الصورة اصطادتها في لحظة الصفر، في لحظة تفك يدها الخائفة وتهوي لقعر الحمام، ويسرح البال، هذه القطرة ما مصيرها؟، حقا؟ اسعيد أم شقي؟
ستهوى للبلاط؟ لكتف رجل؟ لنحر فتاة؟ من في الحمام الأن؟ ولم نلبس ونتعرى، أعراف؟ تفتح القطرة شهيتك للتأمل، وهي ممسكة بالدش بصورة آسرة، تبدو كنهد، بلى نهد سائل، بلا لون، وحلمته نقطة نور ناعمة، مثله، من ترضع هذه الحلمة؟ نعود للنهد، للقطرة، التي تبدو ثدي حقيقي، يود ارضاع المشاهد بدلالات كثر، لا تحصى.
(5)
هناك كمشة، خشبية، "واقعة على راسها"، هذا ما شعرت به، غاضبة، أتحب الشهادة؟ والتضحيات؟ أيحب احدكم أن يحرق؟ هذا ما توده هي، أن تغرس في ماء يغلي، وتصوووت فيه الطعام"، يبدو أنه طعام ايتام، هي باسلة هذه المسيح الخشبي، "خذوا دمي خمرا"، تبدو كطفل (حردان)، نائم على بطنه، "وبعد حين يلعب بالطين"، ولا يضج ولا يثور، كشان حكمة الاطفال، "لا شئ يدوم"، ولا الحزن والحرد والعتاب"، في حكمة الرسل، تلك هي ثمار "براءتهم"، ارأيت طفل يغضب؟ أكثر من سويعة؟ بل دقائق؟ ما اعجب جنة قلوبهم البيضاء، الخضراء، السوداء، البنفسجية، البرتقالية، الزرقاء، البنية.
هناك طائر، يفرد جناحية فوقه، كلاهما، "معا تعزف نشيد التحليق"، تهوي وتعلو معا، كانت كشراع سفينة تسبح في محيط السماء الازرق، شراع ابيض جميل، اصبح جسم الطائر هو القارب، والاجنحة الشراع، ما اعجب الشبة بكل اشياء الحياة، بين احياء الحياة، كل شئ حي، يلفت نظرك، نظرة الطائر الجانبية، وهو يحني عنقه، "فضولي هو"، ومع هذا لم يهوي للأرض، لا يشغله شأن عشان"، أم يبحث عن "مطرح له"، في الارض الواسعة حوله "هو يرى الأن كل المدينة بعينيه الصغيرة"، ما اسعده، دودة هو القطار في نظرة، وعلبة كبريت هي البيوت "شاعرية التصاغر، تملأ نبضه العجيب "أي الطائر، وأنت ايها الرائي"، لهذه اللوحة.
(6)
تتفرس النفس، تأملاته، وكتابته، وتفسيراته من خلال الصورة، للصور عنده قمز، وكناية، وجناس، ومرمى، ومن عجب في قلب الصورة، كأنه يصور المجاز، وعينه تلمس المعنى، فترى ظلال الكناية كما ترى ظل شجرة، أو ظلك، وهنا تكمن متعة القراءات المتعددة، لذات الصورة، الواحدة، فحين تجد صورة قلم، (عدت للقلم)، مجرد قلم خشبي، تحسه يحك جلدك، أو صفحات وسطور من قلبك، ويكتبه فيها ما يريد، رغم سكونه، ثم ترى المقروء، وترى غيب مداده، في صورة لا يزال القلم، حرا من الأصابع المغرضة، والتي تجعل موته الحثيث، أي برايته، هو حياتها.
ندى، أم عرق؟ تكثر لوحاته التي تصور "الندى"، على الاوراق، عرق مثل لؤلؤ، على الورقة التي تبدو بعروقها الصغيرة، العجيبة، مع اللون الاخضر، والقطرات تتناثر بخريطة عجيبة، كشأن الفن الكوني، تبدو "كعرق"، على جبين، من تعب "الصبر في مكان واحد، أم من الرقص مع النسيم؟ كل الاوراق ترقص مع موسيقى النسيم "وليس دفره"، للنسيم موسيقى تسمعها هي فترقص، فتتعرق "ندى"، عذب، وليس مالح، مثل عرق الرسل، كان أحلى من العسل.
للحق اقول، كل اللوحات تفتح شهية الحدس، والتأمل، بمكرها في ادعاء البراءة، فهي تمور بالدلالات والتلميحات.
عين زجاجية ثالثة، نرى بها عجب "العادة، والمسلمات"، في معرض الفنان، المصور، محمد الجزولي، حيث تشعر بهمس الضوء، والظلال، وغناء الاشياء العادية، وبوحها بسرها الخفي، المدهش، كلها،.!! وحريتها من عيوننا، لم لم تراها؟ كما هي، وليس كما يتراءى لنا؟.