عسكر السودان وسُعار السلطة ! 

 


 

فضيلي جماع
22 September, 2021

 

===

   يؤمن كاتب هذه السطور – مثل سودانيين كثيرين - بقيام دولة مدنية ديموقراطية ، يساوي دستورها بين المواطنين من كل حدب وصوب. ولن يحدث هذا إن لم تقف الدولة على مسافة واحدة من كل الأعراق والثقافات والمعتقدات والإنتماء العشائري والجهوي. إضافة إلى توظيف الدولة لهذا التباين توظيفاً عادلاً وجيداً يسهم في رتق النسيج الإجتماعي بانسجام يخدم وحدة البلد التي هي الضمان الوحيد للإستقرار والتنمية – قطارنا الذي نعبر به ركام التخلف إلى مرافيء العصر الجديد.

ويؤمن كاتب هذه السطور مثل كثيرين من أبناء وبنات السودان أنّ هذا الحلم ممكن التحقيق. لكنه طبعاً لن يتحقق بالأمنيات العذاب ولا بجلد الذات ونبش أخطائنا كلما تعثرنا . أو كلما قام ضابط مغامر أو  شلة عسكريين عذرهم الوحيد لاستلام مقاليد السلطة بقوة السلاح في أمرين إثنين: أولهما مبرر أن الوضع الإقتصادي تردّى ولابد من إصلاحه (وكأنهم حفدة آدم سميث أو كارل ماركس في دراسة معضلات المجتمع عبر ظاهرة الإقتصاد ونمو المجتمعات)! والأمر الثاني: أنّ البلد يعيش حالة من الفوضى وانفراط الأمن ولابد للجيش من أن يستلم السلطة ويحفظ أمن البلاد والدستور. ثلاث وخمسون سنة هي سنوات حكم العسكر من  جملة سنوات الإستقلال الخمس وستين. وحين تسألهم عن هذا السعار للسلطة يقولون بأن الأحزاب السودانية هي التي سلمتهم السلطة بعد أن فشلت في إدارة الدولة (عذر أقبح من الذنب).

سأكون أكثر صراحة وأنا أكتب هذا المقال - صراحة لا تخلو من كشف الحساب المر. خرج علينا ضباط عسكريون كثيرون في مناسبات كثيرة وبنبرة فيها من التعالي والمباهاة الجوفاء ما نعجب له غاية العجب ، وذلك حين يقولون بأن القوات المسلحة ضحّت في سبيل البلاد ما ضحت وأنها دفعت في ميادين الوغى آلاف الشهداء . ويذهب أحدهم (عسكري انقلابي) في تسريب صوتي من عام 2019 بأنهم خاضوا الحروب من أجل الوطن في الجنوب  وفي دار فور. لم يذكر الضابط الإنقلابي ميدانين آخرين خاض جيش السودان فيهما حرباً ضروساً ولسنوات: جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق!!

نسيت ذاكرة هذا الضابط أن جميع حروبه التي يتباهى بخوض الجيش السوداني لها إنما هي حروب ضد مواطنيه السودانيين. أتحدى أكبر رتبة في الجيش السوداني منذ أن نلنا استقلالنا من المستعمر في 19 ديسمبر 1955 - والذي أعلنته حكومة مدنية جاءت عن طريق الإنتخاب الحر في الأول الأول من يناير عام 1956 – أن يسمّي لي معركة واحدة خاضها الجيش السوداني ضد عدو أجنبي - وما أكثر سنوات الحسرة على أراضٍ سودانية محتلة – وهي أراضينا في أطلس العالم ..لا يقع الغلاط حولها بين إثنين. لكن سلاح الجيش السوداني يعرف كيف يخترق صدور  مواطنيه. هل أضرب مثلاً للضابط الإنقلابي ومن هم على شاكلته بآخر معارك الجيش وأجنحته التي تحت إمرته والتي حشدوا لها ستة آلاف مقاتل في الليلة الأخيرة لشهر رمضان المعظم من العام 2019؟ هل أحتاج لأنعش ذاكرة  ضباط الجيش الإنقلابيين بمطر الرصاص الذي حصد أبناءنا وبناتنا وهم بعتصمون أمام القيادة في أجمل وأرقى ألوان التعبير السلمي الحضاري مطالبين بقيام الدولة المدنية الديموقراطية – دولة العصر؟ حدث في تلك الليلة قتل وسحل واغتصاب لحرائرنا أمام مبنى القيادة العامة والجيش يخول لأجنحته التي تحت إمرته استخدام آلة  الموت ضد من افترشوا الأرض أمام بوابته – ظناً منهم أنّ هذا الجيش هو جيشنا ودرعنا وإن خضع عبر ثلاثين سنة لاستخدام الأخوان المسلمين له مطية لتقسيم البلاد وسرقة مواردها وإبادة مئات الآلاف من إخوتنا وأخواتنا وأمهاتنا في الجنوب (سابقاً) وفي دار فور وفي جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق.

نقول رغم ذلك إنه جيشنا .. فليس من عاقل يعطي قفاه لجيش بلاده ، وليس من عاقل يرفع بطاقة التخوين في جملة العسكريين من طرف. هنالك ضباط وصف ضباط وجنود كثيرون تجري محبة هذا الوطن في عروقهم. وليس اكثر دلالة من حامد الجامد وآخرين من أشراف جيشنا ممن تصدوا  لكتائب أمن النظام المباد وهي تمطر المعتصمين بالرصاص في بداية الإعتصام الشهير أمام بوابات القوات المسلحة. لكن رغم ذلك أبت عقيدة سعار السلطة إلا أن تعمي من هم على رأس الهرم  العسكري ، وتعلن "أم المعارك " على أبنائنا وبناتنا العزل – في مجزرة ستظل وصمة عار على العقيدة العسكرية السودانية ما عاش هذا البلد الذي قهر كل الغزاة!

  قلت في رأس هذا المقال بأني قصدت الصراحة المرة. ولأني- غصباً عني كمواطن يحرص على إكمال هذه المرحلة الإنتقالية أملاً في قيام النظام الديموقراطي وبناء مؤسساته الدستورية – لابد لي من قبول الشراكة مع العسكر ، تلك الشراكة التي فرضها واقع خارج عن  إرادة الكثيرين. ولأن السياسة هي فعل الممكن ، فإن كاتب هذه السطور وملايين السودانيين يقبلون بالشراكة لحكومة الفترة الإنتقالية.. لكن أعيننا وأعين أبنائنا وبناتنا التي صنعت المستحيل في إحدى أروع ثورات العصر - ستظل صاحية مثلما حدث في فجر يوم 21 سبتمبر حين شهدنا مسرحية إنقلابية سيئة السيناريو والإخراج !

  كل شيء جائز الحدوث في السودان - بما في ذلك بيضة الديك أو أن يطير النعام. لكنّ انقلاباً يعيد عجلة هذه البلاد إلى الوراء ويفرض علينا حكماً شمولياً أياً كانت مبرراته وشكله - هو سابع المستحيلات. ومن يكذبني فليختبر وعي الشعب السوداني، والشارع الذي يحرسه شباب قلبوا الطاولة بصدور عارية على آلة الموت التي عجز سدنة النظام المباد أن يوقفوا بها نهر التاريخ من جريانه  إلى الأمام.


فضيلي جمّاع – الخرطوم

عشية  21 سبتمبر 2021


fjamma16@yahoo.com

 

آراء