على حافة الغابة البدائية: الحلقة (3)

 


 

 

الفصل الأول
على حافة الغابة البدائية: الحلقة (3)
تجارب وملاحظات طبيب الماني في أفريقيا الإستوائية
كتبها: آلبرت شفايتزر
نقلها من الإنجليزية د. أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الازهري – السودان

•ديباجة
تعرفنا على كثير من الجوانب المظلمة في الحقبة التي تكالب فيها الإستعمار الأوربي على أفريقيا. وقد توالت الأحداث الجسام من تهجير وقهر وقتل، دأب المستعمر الأبيض على ممارستها، ليفرض سيطرته على إنسان أفريقيا ومقدراته وموارده التي نهبت - ردحاً من الزمن - ليعمّر بها العالم الأوربي، بينما يرزح الأفريقي صاحب كل ذاك الخير في فقر لا يدانيه فقر. ومازالت أفريقيا تعاني من استنزاف مواردها بطرق شتى، وما زال بنوها يعانون من الأمرّين: استغلال المستعمر المباشر وتغول بعض أبنائها المتسلطين على إهانة شعوبهم وسرقة مقدراتهم – بواسطة حفنة من الحكام الفاسدين. لقد خرج الاستعمار من الباب الأمامي ليتسلل مرة أخرى من الباب الخلفي.
كانت سيرة الاستعمار طوال وجوده في أفريقيا، ليست بالسيرة العطرة، غير أنه قد تخللت هذه السيرة غير المحبوبة، بعض الفضاءات المضيئة من أفراد بيض، آثروا أن يغلّبوا الجانب الانساني في علاقتهم بالانسان الأسود، بطرق عديدة، كالخدمات الطبية التي قدمها الطبيب والفيلسوف الألماني (آلبرت شيفايتزر) وزوجه، للانسان الأفريقي في الجابون الحالية، اذ قاموا ببناء مستشفى لخدمة السكان المحليين، هذا المجهود أهّله للترشيح والفوز بجائزة (نوبل) تقديراً لهذا العمل الانساني الكبير. هذه الصفحات هي ترجمة لمذكراته التي صدرت في كتاب باسم (On the Edge of the Primeval Forest)
********************************

كان هناك، قبل الحرب، حوالي مئتا شخص أبيض يعيشون في منطقة الأراضي المنخفضة في أوغوي: مزارعون، تجار خشب، أصحاب متاجر، مسؤولون، ومبشرون، ولكن من الصعب تقدير عدد السكان الأصليين، وعلى أية حال، فإن البلاد ليست مأهولة بكثافة، اذ لدينا في الوقت الحاضر بقايا ثماني قبائل فقط كانت قوية يوماً ما، ثم قلّ عدد السكان بشكل فظيع خلال ثلاثمائة عام بسبب تداول الكحول وتجارة الرقيق. لم يبق شيء تقريباً من قبيلة الأورونجو التي كانت تعيش في دلتا أوغوي؛ ومن الجالواس، الذين كانوا ينتمون إلى منطقة لامبارين، ولا يزال هناك ما يصل إلى ٨٠٠٠٠ شخص على الأكثر. امتلأ الفراغ الذي نتج بوصول قبائل الفانز آكلي لحوم البشر من الداخل، والذين يطلق عليهم الفرنسيون "باهوين"، والذين لم يتصلوا حتى لحظتها بالعالم المتحضر، ولولا وصول الأوروبيين في الوقت المناسب، لكان هذا الشعب الحربي قد أكل قبائل أوغوي القديمة بالفعل. وتشكل لامبارين في وادي النهر، الحدود الفاصلة بين الباهوين والقبائل القديمة.
*ملحوظة جانبية: استعمار أوغوي وبعثاتها
اكتشف البرتغاليون الجابون في نهاية القرن الخامس عشر، وفي عام 1521 انشأت بعثة كاثوليكية مستوطنة هناك على الساحل بين المساحات الواسعة بين الكونغو وأوغوي. وقد أطلق اسم رأس لوبيز باسم أحدهم، هو إدواردو لوبيز، الذي ذهب إلى هناك في عام 1578. كانت لدى اليسوعيين في القرن الثامن عشر، مزارع واسعة على الساحل، مع الآلاف من العبيد، لكنهم كانوا بعيدين عن التوغل في الداخل البري مثل التجار البيض.
وعندما اجتمعت القوى الفرنسية والإنجليزية في منتصف القرن التاسع عشر لمحاربة تجارة الرقيق على الساحل الغربي، اختاروا في عام 1849، الخليج الواقع شمال خليج رأس لوبيز ليكون مقراً لأسطولهم، وأقاموا هناك أيضاً مستوطنة حيث يمكنهم إرسال العبيد الذين تم انقاذهم إليها: ومن هنا جاء اسم ليبرفيل. لم يكن البيض يعرفون حتى ذلك الحين أن القنوات الضيقة التي تتفرع هنا وهناك إلى خليج رأس لوبيز تنتمي إلى نهر كبير، لأن السكان الذين يعيشون على الساحل كانوا قد أمسكوا بالمعلومات للحفاظ على التجارة الداخلية بأيديهم. لم يكن معلوماً حتى عام 1862 عندما اكتشف النقيب سيرفال ذلك النهر، أثناء رحلة له في جنوب شرق ليبرفيل، أوغوي بالقرب من لامبارين. ثم بدأت بعد ذلك استكشافات مجرى النهر السفلي من رأس لوبيز، وتم تدريجياً اخطار الزعماء المحليين بتيعية هذه المناطق محميات فرنسية.
عندما شعر الناس في الثمانينيات بضرورة إيجاد أفضل طريق للتجارة من الساحل إلى الأجزاء القابلة للتنقل في الكونغو، اعتقد دي برازا أنه يمكن العثور على ذلك في أوغوي، حيث ينبع هذا النهر على بعد حوالي ١٢٥ ميلاً شمال غرب بركة ستانلي، ويفصل بينه وبين منطقة اليما واد تسهل فيه الحركة إلى الكونغو، يتصف بتضاريس ضيقة. نجح دي برازا في جلب قوارب بخارية إلى الكونغو عبر هذا الطريق، تلك القوارب يمكن تفكيكها ونقلها بالبر، لكن اتضح أن الطريق غير صالح للتجارة بسبب الصعوبات التي تتسبب بها الشلالات في الجزء العلوي من أوغوي. اكتمل بناء السكة الحديدية البلجيكية - الكونغولية بين ماتادي وبرازافيل في عام ١٨٩٨، وقد وضع هذا بصورة نهائية أي فكرة تجعل من أوغوي طريقاً إلى الكونغو. واليوم، يستخدم الأوغوي فقط لحركة المرور التي تتجه إلى الجزء الخلفي الذي لم يستكشف بعد بصورة كاملة.
كانت أول بعثات التبشير البروتستانتية على الأوغوي لأمريكيين، وصلوا إلى هناك حوالي عام ١٨٦٠، لكنهم لم يستطيعوا الامتثال لمتطلبات الحكومة الفرنسية بتقديم تعليمهم المدرسي باللغة الفرنسية، لذا استقالوا من عملهم في وقت لاحق لصالح الجمعية التبشيرية الباريسية.
وتمتلك ، هذه الجمعية اليوم، أربع محطات: نغومو، لامبارين، سامكيتا، وتالاجوجا. تقع نغومو على بعد حوالي ١٤٠ ميلاً من الساحل، وتتبع الأخرى بالترتيب بمسافات تبلغ حوالي ٣٥ ميلاً. تقع تالاجوجا على جزيرة ذات منظر جميل أمام نجول، وهي النقطة الأبعد التي تصل إليها الباخرة النهرية. توجد في كل محطة بعثة بروتستانتية وعموماً يوجد مبشر أعزب واثنين متزوجين، وعادة ما تكون هناك معلمة أيضاً، مما يجعل عدد الأشخاص حوالي خمسة أو ستة، دون حساب الأطفال. تمتلك البعثة الكاثوليكية ثلاث محطات في نفس المنطقة: واحدة في لامبارين، وواحدة في نجول، وأخرى بالقرب من سامبا، على نهر نغونج، أكبر فروع أوغوي، ويعيش على كل محطة حوالي عشرة أشخاص من البيض: عادة ثلاثة كهنة، اثنان من الأخوة العاملين، وخمسة من الاخوات. يقيم المسئولون الإداريون للمنطقة في رأس لوبيز، في لامبارين، في سامبا، وفي نجول، بصحبة خمسمائة جندي من الافارقة موزعين عليها للعمل كقوة شرطة.
اذن، هذه هي البلاد التي أقمت فيها، وهؤلاء هم الناس الذين عملت بينهم طبيباً مقيماً بالغابة، لمدة أربع سنوات ونصف. وسأصف الآن ما عشته خلال تلك الفترة والملاحظات التي عنت لي قبل اندلاع الحرب، بمساعدة التقارير التي كنت اكتبها كل ستة أشهر في لامبارين وأقوم بارسالها كرسائل مطبوعة لأصدقائي ومناصريّ. وقد كان من المستحيل، خلال الحرب، بالطبع، إرسال مثل هذه المراسلات، وبالنسبة لتلك الفترة لاحقاً، وفيما يتعلق بالمشاكل الدينية والاجتماعية التي تعاملت معها، فقد أعتمدت على المذكرات التي كتبتها لاستخدامي الشخصي.


aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء