عندما يتجاوز مسلحون الجيش القومي في السودان

 


 

 

 

صحيفة العربي الجديد اللندنية

(1)
ما أشدّ حاجة السياسيين السودانيين للنظر في تاريخهم البعيد والآخر القريب، لتتضح لهم الخطوط الصفراء والخضراء والحمراء، فيما يتصل بإعادة بناء بلادهم، بعد خراب ثلاثين عاما أهدرها نظام "الإنقاذ" المباد. لعلَّ أبرز ما وقع خلال تلك الحقبة الكالحة انقسام السودان إلى دولتين، شمالية وجنوبية.

لا يختلف المتابعون حول حقيقة ماثلة، أن إغفال التنوّع الإثني في بلاد شاسعة المساحة ضاعف من تعقيدات التباين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات السودانية، بصورةٍ أفضت بها إلى نزاعاتٍ تعدّدت أسبابها ومسبباتها، إلا أن القتال الذي نشب بين الشمال والجنوب عام 1955 تواصل 17 عاماً في جنوب السودان. لم يتوقف إلا باتفاق تم في 1972، أعاد السلام إلى ربوع البلاد، على أنه لم يصمد طويلا، لسببين: لم تسنده إرادة شعبية عبر استفتاء أو باعتماد من أجهزة تمثل إرادة غالبة تكسبه شرعية البقاء والاستمرارية، أنه أوقف القتال بين جيشين، وكان حريا أن تعالج مسألة دمج الجيشين في جيش قومي واحد بعد حلول السلام، على أن ذلك لم يُنجز بصورة مثلى.

 

(2)

نتيجة هذه الثغرات، تجرّأتْ حكومة الخرطوم، تحت نظام الرئيس جعفر نميري وقتذاك، فأهدرت في عام 1982 ذلك الاتفاق، ليدخل السودان من جديد في دوّامة حربٍ أهليةٍ بين الشمال والجنوب. هذه المرّة، رفع المعارضون للنظام في الخرطوم من مناصري الحركة الشعبية لتحرير السودان شعار بناء "سودان جديد"، وليسَ فقط تحرير جنوب السودان أو الانفصال عن الشمال. تواصل القتال الشرس أكثر من عقدين، ولم تتوفّر ثقة بين المتقاتلين لإنجاز اتفاقٍ يوقف نزيف الدّم. عند الجنوبيين، صار نقض العهود هو ما يلاقونه من الشماليين. ولكن في 2005، وبعد مفاوضات مضنية، وبضغوط متعاظمة من أطراف المجتمع الدولي، تم توقيع اتفاقٍ، عُرف باتفاق نيفاشا، وهذه ضاحية في العاصمة الكينية. توقفت الحرب، لكن الجديد، هذه المرّة، أنه تم الاتفاق بين النظام الحاكم في الخرطوم والحركة الشعبيىة لتحرير السودان على استفتاء يحدّد مصير جنوب السودان، ليبقى ضمن حدود السودان، أو ينفصل ليصير دولة لحاله. ذلك ما تمّ في عام 2011، وقامت على أثره، دولة جنوب السودان.

التفاصيل المتعلقة باستيعاب القوات كاملة التسليح، وأنشأتها الحركات التي كانت تعارض نظام البشير، لم يتمّ التعرّض لها بالصورة التي تحفظ للقوات المسلحة القومية وضعها جيشا قوميا للبلاد

(3)

فيما كان التفاوض قد بدأ بين حكومة "الإنقاذ" وممثلي "الحركة الشعبية"، وقوامه حركات تمثل جنوب السودان، نشبت أزمة إقليم دارفور (أقصى غرب)، لكأنّ أقدار السودان أن يخرج من أزمةٍ ليدخل في أخرى أشد وأكثر دموية. لم تكن حكومة "الإنقاذ"، بقيادة الرئيس المعزول، عمر البشير، رحيمة بمن تمرّد من أبناء الإقليم. فشل نظامه هناك، ولحقت به تهمة الإبادة الجماعية، فقادت إلى عزلة ذلك النظام، وإلى فرض عقوبات قاسية، أفضت، ولعوامل أخرى، في النهاية، إلى انهيار نظام البشير الذي صار كبشاً أسود في المجتمع الدولي. ثم في ثورة قادها الشباب والنساء، رافعين شعارات الحرية والسلام والعدالة، استبشر السودانيون بفتح صفحة جديدة، عبر إقرار فترة انتقالية، يتولاها عسكريون ومدنيون، لتضميد جراحاتهم التاريخية، واستعادة كرامتهم، وبناء ما خرّبه نظام "الانقاذ"، خصوصا العمل بجدٍ لإنجاز سلام دائم في كل أرجاء البلاد.

(4)

لم يتسم اتفاق السلام الذي تم إنجازه في عاصمة دولة جنوب السودان في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2020 بالشمول، وبقيتْ بعض حركات معارضة، سياسية/ عسكرية في دارفور، وحركات أخرى في جبال النوبة في ولاية كردفان، وهي الأقرب إلى وسط البلاد، بقيتْ خارج اتفاق جوبا. وفي مارس/ آذار 2021، وقع رئيس المجلس السيادي للفترة الانتقالية، الفريق عبد الفتاح البرهان، وأيضا في عاصمة دولة جنوب السودان، اتفاقا إطارياً مع قادة حركات جبال النوبة، لا صلة مباشرة له باتفاق أكتوبر 2020 مع بعض حركات دارفور المعارضة لنظام البشير. الجديد في هذا الاتفاق الإطاري أنه لامس قضايا دستورية مفصلية مثيرة للجدل، مثل علاقة الدين بالدولة أو/ وعلمانيتها، وهي قضايا قد لا يتأتّى حسمها إلا بوجود برلمان منتخب، وليس حكومة انتقالية، لا ديمومة لها سوى بضعة أشهر، مثل التي يقودها البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك.

(5)

وفق الوثيقة الدستورية المؤقتة التي تحكم الفترة الانتقالية في السودان، المُعضلة التي كان ينبغي حسمها هي التي تتصل بتحقيق السلام مع كلّ حركات المسلحة التي ظلت تحارب نظام "الإنقاذ" سنوات طويلة. هكذا تم توقيع اتفاق سلام مع قياداتها في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، الأولى في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2020، والثانية هي التي وقعها البرهان في أواخر مارس/ آذار 2021.

إغفال التنوّع الإثني في بلاد شاسعة المساحة ضاعف من تعقيدات التباين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمعات السودانية

إذا كان الاتفاق شاملا أو إطاريا، فالمتوقع أن تلقي كل المجموعات المسلحة التي وقعت تلك الاتفاقات كامل أسلحتها، تمهيدا لدمجها مع قوات الجيش القومي للبلاد. الملاحظ أن التفاصيل المتعلقة باستيعاب (ودمج) القوات كاملة التسليح، والتي أنشأتها الحركات التي كانت تعارض نظام البشير، لم يتمّ التعرّض لها بالصورة التي تحفظ للقوات المسلحة القومية وضعها كجيشٍ قومي للبلاد. كان طبيعياً أن يتمّ الاتفاق على تفاصيل دمج أولئك المسلحين ضمن الجيش القومي للبلاد، غير أن الاتفاق تجاوز مناقشة تلك التفصيل المطلوبة، على أنّ الشياطين ستواصل كمونها في مثل هذه التفاصيل.

(6)

لم يتم السلام الذي تحقق نسبياً وفق اتفاق 1972 بالصورة المثلى التي تسدّ كل الثغرات. أمّا في تجربة السلام الذي تمَّ وفق اتفاقية نيفاشا في عام 2005، فقد أجيزتْ تفاصيل دمج القوات التابعة للحركة الشعبية لتحرير السودان في جيش البلاد القومي، بحيث يحتفظ الطرفان بجيشيهما إلى حين الاستفتاء الذي يقرّر في بقاء جنوب السودان ضمن الدولة الواحدة، أو أن ينفصل إلى دولة مستقلة. وكان واضحاً أن اتفاق 2005، قد استوعب درس اتفاق 1972، وعمل على تجنب سلبياته. وفي عام 2011، تم الاستفتاء وفق ما هو متفق عليه، وكانت نتيجته لصالح الانفصال عن شمال السودان. والنظر في العِبر المُستقاة من تجربتي دمج المعارضة المسلحة، وفق اتفاقي 1972 و2005 يساعد بالتأكيد في كيفية التعامل مع القوات كاملة التسليح التابعة للحركات التي كانت تعارض نظام "الإنقاذ" وحاربته سنين عددا. الآن، وبعد موافقة معظم الحركات المسلحة على سلام مع حكومة ثورة ديسمبر الانتقالية، فقد تضمّن الاتفاق دمج القوات بتدرّج مناسب، لينشأ جيش قومي، وفق عقيدة جديدة.

(7)

بعد هذه الاتفاقيات، أرسلت تلك الحركات المسلحة قواتٍ من ولايات دارفور أو من كردفان أو من النيل الأزرق، لتنشئ معسكرات لها في العاصمة الخرطوم، وهو تطورٌ لم يكن متوقعا. احتلتْ بعض هذه القوات الفنادق الكبيرة، واستولى بعضها على الحدائق والمتنزهات العامّة. ثمّة من استولى على مباني اللجنة الأولمبية الضخمة، وما خرجوا منها صاغرين إلّا بعد تدخلٍ من رئيس اللجنة الأولمبية الدولية الذي زار الخرطوم خصيصاً، والتقى رئيس المجلس السّيادي في الأمر. ليسَ ذلك فحسب، بل يرجّح مراقبون سودانيون أنّ وجود هذه القوات، وقد بلغت أعدادها آلاف المسلحين، شكّل عاملاً مساعداً لتفشي ظاهرة الانفلات الأمني المتصاعد في طرقات العاصمة القومية الخرطوم وأحيائها.

يُفاجأ المكوّن العسكري المتحالف مع المكوّن المدني لإكمال فترة الحكم الانتقالي من وجود مكوّن عسكري إضافي، يشكل ظاهرة جديدة في الساحة السياسية في السودان، ويزيد الصورة الماثلة تعقيداً على تعقيد. ويبقى السؤال أيّ عقيدة جديدة يتبناها جيش السودان القومي؟

https://www.alaraby.co.uk

 

آراء