عندما يدرك الأصدقاء الحقيقة

 


 

 

عصب الشارع -
كتب الكاتب العراقي علي الصراف مقالا رائعا عن الحرب بالسودان بجريدة العرب الدولية تحت عنوان (جيش الغزاة بالسودان) اعجبني وفي اعتقادنا انه جدير باعادة النشر يقول الصراف:
ان الحرب الدائرة في السودان من الخير أن تستمر لسببين على الأقل
الأول لأنها تختزل كل أمراض السودان مع الطغيان والانقلابات العسكرية وأدواتها ولأنها تعد بأول الشفاء منها عندما تضعف البكتيريا والفايروسات التي تسببت بالحرب
والثاني لأن الأطراف المدنية أثبتت أنها أضعف من أن تقف حائلا دونها أو أن يكون لها رأي فيها أو أن تتقدم لتولي المبادرة وذلك برغم أن القصة كلها تتعلق بـ”عودة الحكومة المدنية”. واضح من ذلك أن الأحزاب المعنية بهذه العودة كانت ما تزال تنتظر عسكريا ولو كان مرتزق يدلها على طريق العودة أو أن يسلمها مفاتيح السلطة وإلا فإنها تفضل قيلولة الظهيرة وشخير العاطلين عن العمل على أن تفعل شيئا
الضحايا المدنيون كثيرون وهذا صحيح ولكن اُنظر إلى كل ما قدمه الشعب السوداني من ضحايا على امتداد سنوات الاستقلال والانقلابات العسكرية المتوالية فيها وستعرف أن أعداد الضحايا في الحرب الراهنة هي جزء من سياق متواصل ونزيف مفتوح
كان يجب له أن يتوقف بأن يخرج الجيش من معادلات السياسة كليا بل حتي ولو يتم حله وإعادة تأسيسه على قواعد وأنظمة جديدة لا تسمح لأي ضابط أن يدعم أو أن ينتمي أو أن يتآمر أو حتى أن يتحدث مع أي طرف سياسي في البلاد ولا حتى بشأن الطقس أو موجات الجراد لأنه هو الجراد الذي ظل يأكل الأخضر واليابس
اللجنة الأمنية داخل الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان تشن غارات جوية على الخرطوم فماذا يعني أن يهاجم الجيش خصومه بطائرات لا تجيد التصويب على أهدافها وهو يعرف أن الخصوم ميليشيا وليس قطعات عسكرية تتمركز في قواعد دون سواها وأن وجودهم بين المدنيين هو الواقع الطبيعي وذلك يعني بمنتهى الوضوح أن هذا الجيش يستخدم معداته التي اشتراها من أموال الشعب لكي يقتل ويدمر بمنتهى العشوائية الشعب والبني التحية وذلك يعني أيضا أنه يتصرف كجيش غزاة مثله و المليشيا التي يحاربها وانه معادٍ للدولة التي يزعم أنه جيشها فلم تذهب طائرات البرهان لتضرب الميليشيات الإثيوبية التي قتلت العشرات من جنوده وشنت سلسلة من الهجمات عبر الحدود لتحتل أجزاء من أراضي السودان. ولكن طائراته ذهبت لتقصف إخوانه واباءه وأخواته وامهاته بعشوائية ولاندري
اجُبنٌ هذا أم حماقة عسكرية أم جريمة
أيا ما تختار، فإنه .. عار
قصف الطائرات لم يحدث في أي مكان آخر لا لتدبير انقلاب ولا للرد على انقلاب ولكنه يحدث في قلب العاصمة لأن الجيش فيه تقوده لجنة أمنية كيزانية لا يهمها من أمر البلاد التي تسترزق منها أي شيء ولأنها تعرف مسبقا أنها محصنة من الملاحقة والتجريم فتجرؤ على أن تفعل ما تشاء وإذا هددها أحد بالمحاسبة فالجواب لديها لا أسهل منه تعمل انقلابا جديدا فتحاسبه بدلا من أن يحاسبها
بكل اسف الخراب كثير
ولكن البلاد كانت خراب من الأساس. سبعون عاما من الاستقلال، ومن تبديد الثروات والإمكانيات لم تثمر إلا الهزيل والمتداعي لا توجد تنمية والفقر فيها
قبل الانقلاب يشمل أكثر من نصف السكان وكلما نهض مشروع تم تدميره بالإهمال والسمسرة البلاد تدور في حلقة مفرغة بين نهب منظم تمارسه قيادات الجيش والنظام وبين فساد إداري وبين أحزاب تتناحر في ما بينها وكل ما ترجوه من الدنيا أن تحظى برضا ضابط ينفذ لصالحها انقلابا حتى وهي تعرف بحكم التجربة أنه سوف ينقلب عليها في النهاية ليرضى نفسه
الحياة التي يعيشها السودانيون في الخرطوم وضواحيها مُرّة هذا صحيح أيضا ولكن متى كانت الحياة هناك حلوة الحياة التي تفتقر إلى مقومات الاستقرار ليست حياة في النهاية وكل ما يمكن جنيه فيها يزول أو ينهار مع أول منعطف يكفي أن يساور الاعتقاد ضابطا آخر أن “الدور” وصله ليعتلي منصب الرئاسة حتى يبدأ الانهيار يتجدد
الجيش في السودان هو العدو الأول للسودان وهو جيش لا نفع فيه إلا لنفسه يحارب من أجل امتيازاته ونفوذه الخاص وهو دولة مستقلة داخل دولة تزعم أنها مستقلة ولكنها لا تملك من أدوات الاستقلال شيئا يستولي على الموارد ويتاجر بها بمعزل عن أي حكومة ويوظف عائداتها لثراء ضباطه
إنه أسوأ من طابور خامس لأنه هو الطوابير الأربعة الأخرى للجريمة والتعسف والإرهاب والفساد والحرب هذه الحرب بالذات هي السبيل الوحيد لكي يضعف وينكسر فينهار فتفتح الطريق أمام تغيير حقيقي يبدأ بأن يكون السودان بلا جيش، بلا قوات مسلحة تقصف الخرطوم بالطائرات وتضعف معه المليشيات التي صنعها وغذها وتتلاشي فيرتاح السودان من كلاهما
الهدنة تسقط تلو الأخرى لأن الصراع بالنسبة إلى طرفيه هو صراع وجود وليس صراع تسويات لا توجد سياسة في هذا الأمر يمكن أن تصل إلى حل وسط ولا يوجد حل أصلا وإذا ما بقي الطرفان يمتلكان القوة للعودة إلى القتال فإنهما سيعودان إلى القتال وحيث أنهما يستبطنان الغدر فإن الثقة معدومة بينهما حتى ولو وقّعا على مليون اتفاق لوقف إطلاق النار
هناك سبيل واحد يمكن للجهود الدولية والإقليمية أن تفعله هو أن تفرغ الخرطوم من سكانها وتترك المتحاربين يتحاربان إلى أن يرفع أحدهما راية الاستسلام بل ربما كان من المفيد أيضا تزويدهما معا بالسلاح فكلما قتلا من بعضهما أكثر كلما كان ذلك أفضل لمستقبل البلاد
منتسبو الجيش لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أبناء البلاد لأن انتسابهم الأول هو إلى عصابة اللجنة الامنية التي توزع عليهم المغانم. ما يعني أن قتل الطرفين لا يستدعي أن يذرف أحد دمعة عليه تقاتلهم ربح وليس خسارة
عندما تتحول هذه الرؤية إلى معيار للتعامل معهم فإنهم سيعرفون حقيقة المكانة التي احتلوها في تاريخ البلاد والدور الذي أدوه في تخريبها ولسوف يدركون من بعدها أنهم لا يستحقون الاهتمام وأنهم أقل جدارة بالاحترام من أن يكون لهم شأن أو رأي في السياسة أو أن يشاركوا في تقرير الوجهة التي تتخذها البلاد
السودان، حالما يتخلص من دولة الغزاة بطرفيها والتي تحكمه فإن الوقت لن يطول على نخبته الوطنية أن تعثر على سبيل للتنمية والاستقرار ومازال في السودان شباب واعي قدر التحدي
الجريدة

 

آراء