عودة غردون للسودان عبر رحلة نيلية .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

عودة غردون للسودان عبر رحلة نيلية
Nile Journey
John Pollock جون بولوك
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في الفصل الثلاثين من كتاب Gordon: The Man Behind the Legend، المعنون “Nile Journey”، من تأليف جون بولوك. ويتكون الكتاب من أربعة أجزاء في كل جزء منه تفصيل لمرحلة تاريخية من مراحل حياة غردون. وكان الكتاب قد صدر عام 1993م عن دار نشر A Lion Book.
وبالإضافة لكتابه عن سيرة شارلس غردون، نشر المؤلف المسيحي (القس) البريطاني جون بولوك (1924 – 2012م) كتابه الأشهر Paul the Apostle (بولس الرسول) وسيرا لعدد من المشاهير مثل اللورد كتشنر والقس الأمريكي بيلي جراهام والطبيب والقس البريطاني والمبشر في الصين هيدسون تايلور.
تتميز لغة ومضمون الكتاب (وهذا الفصل على وجه الخصوص) بسخرية وتعال وعنصرية لا تخفى، وباِعتذاريّة apologia بالغة لغردون.
المترجم
**** **** ****
استقل غردون في رفقة عدد من البريطانيين (منهم جيرلاد جراهام وانجل اسكوت واستويرت وغيرهم) القطار من القاهرة إلى أسيوط ليلا. وفي أسيوط أعد لهم توماس كوك باخرة صغيرة لتنقلهم في نحو أسبوع كامل إلى كورسيكو، والتي منها سيقطعون الصحراء إلى الخرطوم. وكان مع غردون في ذلك القطار الليلي الخاص سلطان دارفور الشاب، والذي كان غردون يؤمل أن ينشئ برئاسته اتحادا للسلاطين.
غير أن ذلك السلطان كان مصدر حرج شديد وخيبة أمل عظيمة. فبالإضافة لمنظره الكوميدي، طلب ذلك السلطان من غردون تأخير موعد تحرك القطار لعدة أيام حتى يتمكن من جمع "حريمه"، واللواتي بلغ عددهن خمسة وعشرين من الزوجات، مع عدد آخر من الأشقاء والأقارب والأتباع. ورضخ غردون للطلب، إذ لم يكن يرغب في ترك كل أولئك الناس خلف السلطان، وأمر بتجهيز عربة قطار إضافية تسعهم جميعا.
وفي محطة القطار كان غردون ما يزال يبدو غاضبا من رفض ايفينلي بارينغ (لورد كرومر، حاكم مصر البريطاني بين عامي 1883 – 1907م. المترجم) السماح للزبير باشا بمرافقته في تلك الرحلة، فقد كان يؤمل في أن يساعده وجود شخص مثله في رحلته تلك، وترك مذكرة للورد كرومر يخبره فيها بنيته مقابلة المهدي شخصيا، وقد يؤخذ رهينة، وإذا لم يسمع عنه شيئا بعد شهرين كاملين، فإنه ينصح بإحلال الزبير مكانه.
ولما قرب القطار عند الصباح من محطة أسيوط دهش غردون ومن معه من الضباط الانجليز وهم يرون سلطان دارفور يقبل عليهم في زي مُوَشًّى مقصب بالذهب، وعلى صدره وشاح عريض وضع عليه نِيْشانا منح له قبل مدة قصيرة. وتجاهل السلطان الحاكم العام وهو يمشي متبخترا في خطوات طويلة واسعة نحو الباخرة ذات المجداف أمام حاشيته المتنافرة المكونة من رجال ونساء في ثياب رثة قذرة. ودلف السلطان نحو المقصورة الرئيسة على سطح الباخرة. غير أن غردون سارع بطرده في لهجة ازدراء بائنة وأمره بخلع تلك البِزّة فورا.
وبعد أن تناول الجميع طعام الإفطار، أقبل ذلك السلطان "وبدا كواحد من الأهالي (natives)، غير واثق من نفسه، تعوزه الفطنة، ويرتدي زيا غير مرتب" ووقف بتواضع ومسكنة أمام غردون، والذي نصحه بأنه سيقتل لا محالة إن ارتدى ذلك الزي الفاخر المذهب في غضون تلك الرحلة. وقال له أيضا بأن عليه أن يحتفظ بذلك الزي الفاخر إلى أن يستعيد عرشه (وبالطبع لم يتم ذلك، بل أدمن الرجل شراب "الجن").
ثم بدأت الرحلة النيلية، وسارت الباخرة طوال ذلك اليوم إلى أن رست لساعات قليلة في الليلة الأولى. وناموا جميعا على سطح الباخرة، إلا أن غردون بقي ساهدا بسبب برد هواء الصحراء، إذ كان قد نسي العباءة الدافئة التي كان واطسون قد ابتاعها له.
وفي الصباح بدأ جراهام كتابة خطاب لزوجته، وراقب غردون وهو يتحدث بلغة عربية غاية في الركاكة إلى إبراهيم فوزي (الأسود)، والذي كانت حياته ذات مرة معلقة بكلمة من غردون (لعل المقصود هو الضابط المصري إبراهيم فوزي الذي عمل مع غردون حتى يوم مقتله، وألف كتاب "السودان بين يدي غردون وكتشنر". المترجم). كان الرجل يومها في الثانية والثلاثين من العمر، وسبق لغردون أن سأل عنه تحديدا، وأنقذه من النفي بعد أن كان مقاتلا في صفوف عرابي.
وصف جراهام قائده غردون عندما يتكلم وعلى وجهه ابتسامة، وتنضح عيناه بالمرح، وتؤكد حركات أصابعه أنه كان يلعب دور "الفارس العربي". كان ذلك عقب ليلة ساهدة باردة جافاه فيه المنام. وعادة ما يكون المرء وهو على تلك الحالة في حالة مزاجية نكدة غاضبة. غير أن غردون لم يكن كذلك قط. ولا غرو، فقد كان ذلك اليوم هو يوم عيد ميلاده الواحد والخمسين.
خالف الضابطان جراهام وسيتورات رأي غردون عندما أخبرهما بنيته إرسال خطة عملياته المقبلة للقاهرة، وقال له أحدهما: "إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب". انزعج غردون من ذلك الرد وقال لهما بأنه سيكتب خطة العمليات بنفسه. غير أنه عاد للمزاج الطيب على مائدة الغداء، وأخبر رفيقيه بأنه فرغ للتو من كتابة خطاب للمهدي.
وفي صباح اليوم الثالث رست الباخرة على الشاطئ حتى يتمكن غردون ومن معه من ركوب القطار في رحلة سريعة حول الشلال الأول إلى فيلي Philae، والتي بلغوها بسرعة في وسط هرج وارتباك عظيمين. وقبل العودة بباخرة أخرى قابل غردون القساوسة الرومان الكاثوليك الذين سحبوا من الخرطوم. وذكر سيتورات أنه وجد رئيسهم القس سوجارو خليفة كمبوني "رجلا خوّافا جبانا وكثير التردد ويتوقع إغارة رجال القبائل في أية لحظة". وطمأن غردون القس ووعده بإبراق القاهرة بالأمر رغم تأكده من أن فيلي في أمان. ثم ودع غردون القساوسة وطلب منهم ألا ينسوه من صالح الدعاء. وذكرهم في جملة عابرة تبدو بعد مرور ما يزيد على مئة عام جملة اِعتيادية لا غرابة فيها، ولكنها كانت غير مألوفة في ذلك الزمان. قال لهم: "الكاثوليك والبروتستانت ليسوا إلا جنودا في أفواج مختلفة في جيش السيد المسيح، ولكنه نفس الجيش، نسير في ركابه معا".
ومع تواصل الرحلة النهرية استغل غردون طاقته في كتابة بعض المذكرات والبرقيات، وهو منغمس في التفكير في إيجاد الحلول لما سيواجهه من معضلات، مستعينا بما لديه من معرفة عميقة بالسودان، رغم أن رفيقه سيتورات كان يفزع عند سماعه لبعض أفكار غردون (الشاطحة).
وكانت البرقيات التي دأب غردون على إرسالها لكرومر متناقضة جدا. وبدا أن غردون كان متذبذب الرأي لمن لم يكونوا يعرفونه جيدا. غير أنه كان بالفعل يسجل على الورق أول أفكار تخطر على باله... وكان ذلك من الفُروق الجوهرية بينه وبين غالب من كان يكتب لهم. وكان لا يأبه إن جاء كتابه في مرة مخالفا لما كتبه من قبل في رسالة سابقة أو ما سيسطره في رسالة قادمة. غير أن أفكاره الحقيقية لا تتغير إلا قليلا، رغم ما قد يراه البعض من تناقضات فيها.
أما لورد كرومر فقد كان رجلا دقيقا مرتب الأفكار، لا يكتب شيئا قبل أن يقلب الأفكار في عقله وتغدو جلية واضحة أمامه. ولذا فقد استاء من برقيات غردون المتناقضة، وبدأ يشك في أنه قد يكون قد كتبها وهو تحت تأثير الخمر. غير أن أحد الضابط الذين رافقوا غردون في رحلته تلك، شهد بعد مرور 47 عاما، بأنه لم ير نقطة مشروب كحولي واحد تدخل جوف غردون، علما بأن البواخر كانت صغيرة وبطيئة جدا في تلك السنوات. ونصح أحد المقربين كرومر بتغيير فكرته عن غردون ورسائله المتناقضة وقال له إن "غردون قد يقول (يكتب) كل فكرة غبية تمر على رأسه، غير أن حكمه صائب دوما". وبالفعل كان كرومر قد كتب للملكة (فيكتوريا) عن غردون وهو في طريق للخرطوم: "لا أعتقد بأن هنالك في هذا العالم من يشابه غردون. ولكن يجب القول أيضا بأن غردون باشا، مع كل ما يحاط بشخصيته من هالة وتعظيم، رجل متقلب جدا. ورغم ذلك فهنالك فكرة واحدة ثابتة بقيت في رأسه لسنوات، ألا وهي "تحرير السودان من حكم الباشوات الأتراك والمصريين".
وللتدليل على ثبات موقفه أذكر أن غردون كان قد التقى في أحد الفنادق بالأقصر القس المستشرق آرشيبولد سايس Archibald Sayce وأحد أساتذة جامعة أكسفورد بينما كانت باخرته تحمل بالفحم. كتب سايس فيما بعد في مذكراته عن تلك المقابلة ما نصه: " لقد أخبرني غردون بأنه تأبى في البداية على القبول بالذهاب للسودان، إذ أن ملك بلجيكا ليوبولد كان قد عرض عليه العمل في الكنغو. غير أن اللورد قرانفيلد ناشده أن يلبي طلب القيام بتلك المهمة في السودان باعتباره رجلا انجليزيا ومسيحيا، وهو لا يستطيع رفض تلك المناشدة. لذا فقد قبل التكليف القاضي بإعادة الحاميات المصرية من السودان بأعجل ما تيسر، مستخدما نفوذه الشخصي، إن أمكن، وإلا فيمكنه الاستعانة بالجنود". تلك كانت هي القناعة والحماس الذي قبل بموجبه تلك المهمة".
وفي الثاني من فبراير (اليوم الثامن في الرحلة) بلغوا كورسيكو، حيث ودع جراهام غردون وداعا حزينا وهو موقن بأنه لن يراه مجددا. وامْتَطَى غردون واستوريت والبقية جمالهم عبر الصحراء النوبية القاحلة الموحشة على طريق القوافل الذي يقطع منحنى دنقلا عل النيل، وتحاشى بذلك ثلاثة شلالات. لم يكن غردون يحمل أي سلاح بينما اكتفى استويرت بمسدس صغير. وكان معهم أحمد أحد أبناء شيخ بربر، وكان شابا صغيرا وسيما قسيما يمتطي جملا أبيضا جميلا، متقدما القافلة وهو يحمل سيوفا ودرقات مصنوعة من جلد وحيد القرن. وسجل أحد مرافقي غردون أن غردون أعطاه سوطا (كرباجا) طويلا من جلد وحيد القرن له مقبض فضي.، وقال له إن ذلك هو بمثابة "تذكار" يؤكد بأن عهد الكرباج قد ولى دون رجعة. وفي المقابل أخذ غردون من الرجل مظلته البيضاء بعد أن كان قد فقد مظلته.
وفي الباخرة عاد جراهام للكتابة عن غردون فسجل أن غردون "لم يكن ينظم سلوكه بحسب آراء الآخرين، ولكنه كان شديد التوق لتعاطف البشر الآخرين. ولم تكن قلة صبره إلا عرضا لشدة لذلك الشوق. ورغم اتهامه بالغرور إلا أنه كان يعطي بلا حدود، وهذا يفسر تأثيره القوي على الأهالي. وينطبق ذات الشيء على الأطفال. فغردون هو الرجل الذي "يعبده/ يقدره ويضعه في مقام رفيع" الأطفال غريزيا. (من المعروف أن هنالك من نسب لغردون بعض الميل للمثلية الجنسية http://www.britishempire.co.uk/biography/gordon.htm . المترجم). لقد كان غردون يبكي من فرط التأثر لبؤس الأهالي، أحيانا قبل أن يلتقيهم، ومعهم أيضا. ولعقولهم الساذجة (simple minds) فقد كان ذلك الرجل القوي صاحب السلطة يحمل لهم شعورا نبيلا، وكان ذلك بالنسبة لهم بمثابة "وحي جديد new revelation". يمكنك أن ترى عطفه يشع في وجهه عندما تكون جماهير الأهالي تحيط به، ويقبلون يده... لم يكن يظهر أي قلة صبر أو ضجر منهم ..." (جاء في بعض المصادر أن الخديوي عرض على غردون راتبا سنويا قدره 10000 جنيه، ولكن غردون اقترح تخفيض راتبه إلى 2000 جنيه، وقال لأخته في أحد خطاباته لها بأنه فعل ذلك حتى يري الخديوي وشعبه أن هنالك في هذا العالم من لا يعبد الذهب والفضة. المترجم).
وبدا غردون بعد أيام من مغادرته مصر أكثر سعادة وثقة في أن بمقدوره تأليف حكومة وجيش وطنيين، وكأن تلك الغاية أمر في غاية اليسر! لا ريب أن لغردون صفات شخصية لها تأثير ضخم على الأهالي. ولعل السر في كل ذلك هو أن غردون كان يكن لهم حبا حقيقيا، ويدخل إلى قلوبهم، وفي ذات الوقت يظهر طاقة عجيبة تجعلهم يعتقدون بأنه رجل خارق (superhuman).
وأنفق غردون تلك الطاقة في ركوب جمل بعد انقطاع أربعة أعوام عن ذلك. كان يغذ السير مع رفاقه لمدة ستة عشر ساعة يوميا لمدة ستة أيام تحت قيظ نهار حار وهواء ليل بارد، وعلى الرمال والحصى، ويشرب ماء بئر مالحة. وكانت تقابل قافلة غردون وهي في طريقها عبر الصحراء قوافل في طريقها لمصر. وكان في أحد تلك القوافل مدير (مصري؟) فصل من الخدمة. سجل استوريت في مذكراته أن ذلك الرجل " بدا مريضا جدا، وفزعا للغاية من غردون باشا".
وفي المسيرة الأخيرة قبيل الوصول للنيل مرة أخرى عند أبي حمد، امتطى غردون جملا جديدا ومضى يسير به بسرعة كبيرة أذهلت مرافقيه. وذكر أحد هؤلاء أنه كان يخشى السقوط من على جمله وهو يجاهد كي يلحق بغردون، فمثل ذلك السقوط كان سيعد نذير شؤم عند هؤلاء القوم المؤمنين بالخرافات.
وجد غردون من معه الأهالي بأبي حمد في غاية الدماثة والهدوء، وكانوا فرحين لرؤيته. وغادروا البلدة وهم مطمئنين لنجاح مهمتهم.
كتب غردون رسالة للورد كرومر قال فيها: "أنا سعيد بذهابي للسودان، لأني، بسبب وطريقة ما، أؤمن بأن الله سيبارك مهمتي بفضل دعوات المخلصين".
وبعد مسيرة ثلاثة أيام وصل غردون وصحبه لبربر، ثاني أكبر مدينة في السودان، ووجد فيها استقبالا حافلا حيث غصت الشوارع بالأهالي، الذين اصطفوا مع الجنود في صفوف طويلة. بينما تابع مسيرة الزوار إلى مقر الحاكم عدد كبير من الرجال وهم على ظهور الجمال والخيول والحمير، مما أثار عاصفة كريهة من الغبار. وارتفعت الأصوات بالغناء وضربت الطبول الدفوف فرحا بمقدم "المنقذ".
وصف الرحالة والمغامر الإيطالي قيسبي كوزي (الكاتب في أحد المحلات التجارية) والذي كان على معرفة بغردون من قبل تفاصيل استقبال الرجل في مقر الحاكم. فذكر أن الكبار والصغار توافدوا على قاعة مقر الحاكم، وكان كثير منهم يحملون عرائض ومطالبات ليعرضوها على غردون، والذي كان يستلمها منهم، ولا يقرأها، بل ينفح كل واحد من أصحابها قطعة أو أكثر من الذهب الخالص. وكان بعض الأهالي يتقدمون نحوه ويقبلون يديه وقدميه ويحدثونه عن حوائجهم. كان يواسيهم في عطف بطيب الكلمات، ويساعدهم ببعض المال.
قابل غردون الرجل الإيطالي بترحاب شديد وأمر بتعيينه ممثله الخاص الشخصي وقنصل بريطانيا، ودعاه للعشاء معه، وبقي يسمر معه لمنتصف الليل. وسجل الرجل أن غردون ظل يؤكد أن مهمته هي إعادة الأمن والنظام بطريقة سلمية، وكتب أنه قال لغردون: "على الرغم من شعبيتك الكبيرة وسط الأهالي، إلا أنني لا أعتقد أن مطمحك يمكن أن يتحقق بالوسائل السلمية، وأنه يلزم لتحقيقها قوة عسكرية قوية". ورد غردون على ذلك بالقول في يسر وثقة: "في تلك الحالة فإن تحت يدي مئة ألف من الرجال". أبدى الإيطالي تعجبه من ذلك الرقم الضخم، وقال لغردون: "إن صح ذلك، وإن كان هؤلاء الرجال من ذوي الكفاءة العسكرية فإن بإمكانك هزيمة المهدي بعشر هذا العدد الذي ذكرت". وبدا له أن غردون كان واثقا مما يقول، وكأن بمقدوره استدعاء قوة عسكرية ضخمة من إنجلترا في أية لحظة".
وفي بربر بدأت البرقيات تنهال على غردون مرة أخرى. وكان كلما بعد عن المدنية civilization كلما كان أقل اهتماما بسرية البرقيات وتشفيرها لدرجة أنه أمر من معه بكتابة برقياته بلغة عادية غير مشفرة. غير أن أسوأ نبأ تلقاه غردون في بربر كان في برقية مشفرة أفادت بأن المتمرد المهدوي عثمان دقنة قد أفلح في هزيمة فلانتين باشا بيكر (شقيق صمويل بيكر) بالقرب من سواكن. وأثبت المصريون جنود فلانتين – مجددا- عدم قدرتهم على هزيمة المتمردين، ونجح فلانتين بصعوبة بالغة في الإفلات من تلك المجزرة.
وقطع المتمردون الطريق بين سواكن وبربر، وكان ذلك هو الطريق الأقصر لإخلاء الخرطوم. وإن سقطت سواكن فسوف يفقد غردون الطريق البحري الوحيد إلى الهند.
وساد الفزع أروقة حكومة قلاديستون. وكتبت الملكة بخط يدها من قصر وينذر رسالة إلى سكرتيرها الخاص بونسونبيه بعد أن طرق مسمعها شائعة سخيفة عن اعتقال غردون جاء فيها: "هذه هيبتنا (prestige) ...اسم بريطانيا الذي أهين ومرغ في التراب... أمننا في الهند وفي كل مكان من مستعمراتنا في خطر عظيم. يا له من وضع مروع للغاية! عليك بتشفير هذه الرسالة وبعثها لأي واحد في الحكومة لديه أي بقية من الروح والإحساس تجاه شرف بريطانيا العظمى!".

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء