(كلام عابر)
ها هو ديدان كيماثي يعود للحياة من جديد.. ها هو ينتصب في قلب المدينة بكل الشموخ مثلما كان قبل أكثر من ستة عقود من الزمان.. قبضته القوية تمسك بأعلي البندقية المرتكزة على الأرض والمستندة على طول ساقه.. شعره الكثيف يعلو رأسه ويتدلى على كتفيه وهو يصوب بصره من وجهه الصلب لما وراء الأفق البعيد حيث يقع جبل كينيا.أخيرا رأى القوم أن ديدان كيماثي أحق من غيره بأن يكون له تمثال وأن يتوسط هذا التمثال قلب نيروبي في بداية الشارع الذي يحمل اسمه. هو اعتراف صريح بمكانة ثورة الماوماو في الوجدان الكيني والأفريقي ،وإن جاء متأخرا نوعا ما،,وتكريم لقادتها العظام مولينقي وماثايقا وكاقو وشاينا.
اشتعلت ثورة الماوماو لاسترداد الأرض التي استوطنها البريطانيون في كينيا في الفترة من 1952 إلى 1956 وانخرطت في القتال قبيلة الكيكويو بشكل رئيس ولكن قاتلت معها قبائل ميرو وأمبو وكامبا ولوا والماساي وراح ضحيتها أكثر من ثلاثة عشر ألف أفريقي من ثوار الماوماو ومن الكينيين الذين أفلح البريطانيون في دفعهم للقتال بالوكالة عنهم. كما ضمت معسكرات الاحتجاز أكثر من اربعمائة ألف محتجز تعرضوا لأبشع وسائل التعذيب الهمجية، واستخدمت بريطانيا كل الأسلحة الحديثة ضد الثوار بما فيها القصف بالطائرات. لم يتجاوز عدد القتلى البريطانيين اثنين وثلاثين (32) قتيلا فقط، وانتهت الحرب بأسر ديدان كيماثي واعدامه في السجن 1956، وهزم الماوماو عسكريا في ظروف دولية غير مواتية لحركات التحرر الوطني، ولكن ثورة الماوماو أدت لأن يصرف البريطانيون النظر نهائيا عن حلم الاستيطان في كينيا واستنساخ تجربة جنوب أفريقيا،وقاد ذلك لتسريع استقلال كينيا. حتى الآن ترفض بريطانيا الاعتذار عن جرائمها في كينيا مثلما اعتذر الفرنسيون مؤخرا عن جرائمهم في الجزائر. في عام 2013 م قامت بريطانيا بدفع حوالي عشرين مليون جنيه استرليني لعدد 5228 كينيا تعويضا لهم عن الجرائم التي ارتكبتها بريطانيا في حقهم، وهو مبلغ لا يساوي إلا كسرا صغيرا من المبالغ التي أجبرت ليبيا على دفعها لضحايا لوكربي أو المبالغ التي يطالب بها الأمريكيون تعويضا لضحايا برجي نيويورك. كالعادة الثوار الحقيقيون لا يجنون ثمار النصر، فقد جاء (مناضلون) جدد بعد الاستقلال وخيم التعتيم على تاريخ كينيا.
اقامة نصب كيماثي في قلب نيروبي بعد أكثر من ستين عاما على اعدامه انجاز أفرحني لأنه يشكل أفقا جديدا في تاريخ كينيا ومصالحة وطنية مع الإرث النضالي. كثيرا ما كان طريقي يمر بجوار تمثال كيماثي في أشهر ابريل ومايو ويونيو الماضية.
ذهبت لمنتزه (أوهورو بارك) الشعير في نيروبي ،وهو يضم نصب تذكاري ضخم لأبطال الاستقلال ورموز كينيا التاريخيين. كنت أعتقد أن قبر وانقاري ماثاي في نفس المنتزه. كانت وانقاري ماثاي، التي رحلت قبل سنوات قليلة، سلسلة من المعارك من أجل حقوق المرأة ومقاومة الطغيان والفساد في كينيا وكانت أستاذة في جامعة نيروبي ورئيسة لاتحاد نساء كينيا، ولكن أعظم انجازاتها هي حماية البيئة وغرس ملايين الأشجار في كينيا وغيرها من البلدان عبر منظمتها "الحزام الأخضر" مما أكسبها لقب "أم الأرض"، وتوج نضالها قبل رحيلها بجائزة نوبل. في منتزه أوهورو بارك الأخضر أحد أكبر المنمتزهات في العالم، والذي قاتلت ماثاي من أجله وحالت دون تحويله لمجعات تجارية ، لم أجد نصبا لماثاي، وعلمت أن جثمانها قد تم حرقه ونثر رماده سمادا للأرض في أوهورو بارك تنفيذا لوصيتها.
في مكتبها في مقر اتحاد نساء كينيا أجريت معها لقاءا صحفيا لمجلة الاذاعة والتلفزيون عام 1981م التي كنت أتعاون معها وأراسلها من نيروبي على أيام أخي الدكتور عبدالله جلاب حينما كان رئيسا لتحريرها، وكانت رئاسته لتحرير المجلة فترة زاهرة في مسيرتها حيث استطاع جلاب بحس الشاعر والأديب والصحافي والمثقف أن يستكتب في المجلة فيمن استكتب أقلاما أنيقة مثل المرحوم الاستاذ جمعة جابر والمرحوم الأستاذ حبيب مدثر والشاعر الفخيم كامل عبدالماجد متعه الله بالصحة والعافية. تناول اللقاء قضايا المرأة الأفريقية والحريات والبيئة والمستقبل، وقد خصتني ماثاي بهذا اللقاء تقديرا منها للصحافة السودانية والقاريء في أول اطلالة لها عليه، رغم زهدها في الصحافة والأضواء. قالت لي في نهاية اللقاء أنها لا تعتقد أن لقاءنا سينشر في الخرطوم، فأكدت لها،وأنا في ذروة التفاؤل، أن لدينا مساحة كبيرة من حرية الصحافة في الخرطوم أكبر من تلك المتاحة لهم في نيروبي. ولكن خلف من بعد عبدالله جلاب خلف في مجلة الاذاعة والتلفزيون زين له قصور بصيرته حجب المادة. للأسف لم أحتفظ بنسخة من ذلك العمل، ولم أجده في مكاتب المجلة عندما راجعتها فيما بعد، ولم تكن وسائل الحفظ والتواصل الحديثة متوفرة آنذاك، ففقدت أفضل عمل صحفي لي في اعتقادي.
التحية لكيماثي وماثاي ولكل شموس أفريقيا المضيئة الملهمة للشعوب على مر الزمان.
(عبدالله علقم)
khamma46@yahoo.com