عوض محمد علي أو عوض السبع
عادل إسماعيل
14 March, 2022
14 March, 2022
كان ذلك آواخر الثمانينات من القرن الماضي ، كنت في زهو الشباب أتلمس بداية حياتي العملية صحفيا في صحيفة "أخبار الصباح" التي رأس تحريرها اللوء المغني عوض أحمد خليفة صاحب "عشرة الأيام" و "ربيع الدنيا" و "ناكر هواك" فيما يروى . و كنا نهرب من زحمة العمل و نلوذ بمقهى "شيش كباب" قبالة العلم البريطاني الأرضي ، و هو ذلك التقاطع الشهير الذي تلتقي عنده عدة شوارع ، بحيث أنك لو كنت تمر فوقها بمروحية لرأيت العلم البريطاني منحوتا في قلب الخرطوم ، شاهدا حيا أبديا ، على وجود البريطانيين بيننا ذات يوم . و ليت أحد كتابنا الحذاق يتناول هذا الأمر إن كان ذلك وسما في وجه الخرطوم بمطواة بريطانية حبا أو انتقاما من هذا البلد ، خصوصا أنني سمعت عن ذات الوسم في سماء حنتوب ، و ربما وسم البريطانيون بمطواة الحب و الانتقام بلادا أخرى .
في ذلك المقهى الذي كانت ترتاده جموع مختلفة بينهم صحفيون ، ألتقيت الناقد الأدبي المعروف الراحل سامي سالم الذي كان ، حينها ، يشرف على الصفحة الثقافية بجريدة "السياسة" . كان سامي ، فيما بدا لي ، بوهيميا مدركا لبوهيمته ، و كان لي حظ من ذلك حينها . فكانت تبتلعنا الليالي و تبذرنا الصباحات . و ذات مساء ، و نحن نجوب الطرقات ، صامتين كعادتنا ، حيث يغرق كل منا في خيالاته مع وقع الخطي التلقائية ، دق سامي بابا لأحد أصدقائه في مدينة الثورة أمدرمان ، الحارة الثامنة . فتح لنا الباب شاب قمحي صبوح الوجه ، سمح المحيا ، يحمل في يده كتابا كان يتصفحه للكاتب المصري سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على ذلك القارئ النهم ، سمح المحيا ، عوض محمد علي أو عوض السبع .
استمر ثلاثتنا في الاستغراق في الليالي و الصباحات ، إلا قليلا ، لا يقطعها إلا سفر سامي للمشاركة في مهرجان المربد الذي كان محفلا كبيرا في بغداد حينها ، فيعود بعدها محملا ببعض الكتب يهدي عددا منها لعوض السبع .
و مع نهاية الثمانينات و بوادر انهيار المعسكر اليساري بقيادة الاتحاد الذي كان سوفيتيا ، أرتج المألوف و داهم العالم التيه و عدم اليقين . و تخللت الحياة العديد من أوجه الاضطراب و البحث عن ما يمكن أن يكون وراء المادة ، فظهرت "الدراسات الروحية" في العديد من دول العالم ، حيث أنشأ الدكتور عز الدين المهدي فرعا لها في السودان ، و كان يحرر مجلة بذات الاسم في عيادته بمنطقة "الشهدا" بأمدرمان .
و في تلك الأثناء استولى الإسلاميون على السلطة في السودان بقفاز عسكري ، فلا صحف و لا يحزنون . و بدأت رحلة التشرد الكبرى . فكان عوض السبع مأوانا ، يطعمنا و يسقينا .
و في معظم الأوقات يمر علي سامي في منزلنا ، فنقضي بعض نهارات التشرد في الخرطوم ، في المقاهي ، و في مكتب في عمارة ، نسيت اسمها ، كان بها أصدقاء سامي ممن يعرفون بتمثيلهم "يسار مايو" ، حيث كنا نلتقي الإذاعي المعروف محمود أبو العزايم و كامل محجوب صاحب "تلك الأيام" ، و كان الأخير ، أحيانا ، يوصلنا بعد نهاية الجلسة عصرا إلى أقرب مكان نتجه فيه إلى الشهداء ، ثم إلى عز الدين المهدي الذي اعتاد الترحيب بنا ، يدعون لحفلات "تحضير الأواح" في عيادته ، و يقص علينا ، بمنتهى الحماس ، مشاويره اليومية التي يقضيها في زيارة "البيوت المسكونة" ، ثم ، بعد تلك اللحظات الغريبة ، إلى عوض السبع .
كان عوض السبع لا يمل استقبالنا ، و كانت له صفة عجيبة ، و هو أنه يقبلك في أي وقت وإي حال كنت عليها .
و في تلك الفترة ، انضم إلينا شابان أملحان ، و هما الشاعر عثمان البشرى صاحب "الكائن الخلوي" و "ياريتك كنت معاى ياريتك" التي تغنت بها أمال النور ، حيث شهدت غرفة عوض السبع الكثير من أشعاره . و أما الشاب الوضيء الآخر ، فكان علي عمر تروس ، و بالرغم من أنه كان يصغرنا قليلا ، إلا أنه كان الأكثر جنونا على الاطلاق .
كان عوض السبع (و لعل صديقنا علي هو من أطلق عليه هذا اللقب) ، حبوبا و حلو المعشر بطريقة لا تصدق . أذكر مرة أنه دق على بابنا مع تباشير الفجر ، فاستيقت مستغربا ، فتحت الباب ، فإذا هو عوض السبع . "خير يا سبع ، مالك ؟" ، سألته . شكى لي قائلا: تصور عثمان البشرى شتمني و طردني من البيت !! شتمك كيف قال ليك شنو يعني ؟ أجابني السبع قائلا: شتمني قال لى أمشي ياخ أنت زول عادي !! هدأت من روعه و عندما دخلنا بيتنا ، سألته " طيب ، هو كيف طردك و البيت بيتك ، و هو قاعد معاك في غرفتك انت ؟" ، خبط السبع على جبهته كأنه نسي شيئا ، قائلا "اللللله ، والله ما عارف دي جات كيفّ !!
ما هذا الجمال يا ابن ودي !! و أي طين قد منه عوض السبع ؟؟
تفرقنا بعد ذلك في المنافي ، و التقينا مجددا ، و اتصلت أيامنا السمحة مع هذا السمح . عاد هو من القاهرة التي أصبح يتردد عليها ، و أنا من صنعاء . وكان دائما ما يهديني بعض الكتب التي يعرف أن لي اهتماما بها في السياسة و الأدب و العلوم ، كان آخرها كتابان للأستاذ المترجم البارع إدريس البنا ، عن نصوص غنائية ترجمها البنا ، فاستمتعت بها و أفدت من بعضها في تدريسي لبعض المواد في الترجمة ، منها مادة "الترجمة الأدبية" لطلبة ماجستير الترجمة العامة . . يا لصديقي الكريم الوفي عوض السبع .
و كنا نتواصل من حين لآخر ، و كان يعلق على بعض ما أكتب . و شعرت أنه لم يكن مرتاحا لمقالي الأخير الذي حمل عنوان "نعم انقلاب .. لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، الذي طرحت فيه ضرورة الشراكة مع العسكر في الفترة الانتقالية و دعمت فيها اتفاق حمدوك البرهان عقب انقلاب الأخير . و بالرغم من ذلك ، كان عوض السبع سمح الاختلاف ، كما هو سمح الاتفاق .
و كنت أزوره في المستشفى عندما علمت بمرضه ، إلى أن فجعني اتصال برحيله ، فغم علي إيما غم . و أنزلناه في لحد جبانة "السرحة" ، و أنا استغرب أي جمال ضم ذلك اللحد .
اللهم يا سيد الأكوان و الأبدان و الأرواح ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، ارفع عوض السبع مقاما فوق مقامه ، إنك أنت الرافع المقيم .
عزائي الحار لأصدقائه عثمان البشرى و علي عمر ، و إخوانه جمال و خالد و حسن و فرزدق و أخته الرائعة أمل و زوجته الفريدة سارة .
adil.esmail@gmail.com
في ذلك المقهى الذي كانت ترتاده جموع مختلفة بينهم صحفيون ، ألتقيت الناقد الأدبي المعروف الراحل سامي سالم الذي كان ، حينها ، يشرف على الصفحة الثقافية بجريدة "السياسة" . كان سامي ، فيما بدا لي ، بوهيميا مدركا لبوهيمته ، و كان لي حظ من ذلك حينها . فكانت تبتلعنا الليالي و تبذرنا الصباحات . و ذات مساء ، و نحن نجوب الطرقات ، صامتين كعادتنا ، حيث يغرق كل منا في خيالاته مع وقع الخطي التلقائية ، دق سامي بابا لأحد أصدقائه في مدينة الثورة أمدرمان ، الحارة الثامنة . فتح لنا الباب شاب قمحي صبوح الوجه ، سمح المحيا ، يحمل في يده كتابا كان يتصفحه للكاتب المصري سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على ذلك القارئ النهم ، سمح المحيا ، عوض محمد علي أو عوض السبع .
استمر ثلاثتنا في الاستغراق في الليالي و الصباحات ، إلا قليلا ، لا يقطعها إلا سفر سامي للمشاركة في مهرجان المربد الذي كان محفلا كبيرا في بغداد حينها ، فيعود بعدها محملا ببعض الكتب يهدي عددا منها لعوض السبع .
و مع نهاية الثمانينات و بوادر انهيار المعسكر اليساري بقيادة الاتحاد الذي كان سوفيتيا ، أرتج المألوف و داهم العالم التيه و عدم اليقين . و تخللت الحياة العديد من أوجه الاضطراب و البحث عن ما يمكن أن يكون وراء المادة ، فظهرت "الدراسات الروحية" في العديد من دول العالم ، حيث أنشأ الدكتور عز الدين المهدي فرعا لها في السودان ، و كان يحرر مجلة بذات الاسم في عيادته بمنطقة "الشهدا" بأمدرمان .
و في تلك الأثناء استولى الإسلاميون على السلطة في السودان بقفاز عسكري ، فلا صحف و لا يحزنون . و بدأت رحلة التشرد الكبرى . فكان عوض السبع مأوانا ، يطعمنا و يسقينا .
و في معظم الأوقات يمر علي سامي في منزلنا ، فنقضي بعض نهارات التشرد في الخرطوم ، في المقاهي ، و في مكتب في عمارة ، نسيت اسمها ، كان بها أصدقاء سامي ممن يعرفون بتمثيلهم "يسار مايو" ، حيث كنا نلتقي الإذاعي المعروف محمود أبو العزايم و كامل محجوب صاحب "تلك الأيام" ، و كان الأخير ، أحيانا ، يوصلنا بعد نهاية الجلسة عصرا إلى أقرب مكان نتجه فيه إلى الشهداء ، ثم إلى عز الدين المهدي الذي اعتاد الترحيب بنا ، يدعون لحفلات "تحضير الأواح" في عيادته ، و يقص علينا ، بمنتهى الحماس ، مشاويره اليومية التي يقضيها في زيارة "البيوت المسكونة" ، ثم ، بعد تلك اللحظات الغريبة ، إلى عوض السبع .
كان عوض السبع لا يمل استقبالنا ، و كانت له صفة عجيبة ، و هو أنه يقبلك في أي وقت وإي حال كنت عليها .
و في تلك الفترة ، انضم إلينا شابان أملحان ، و هما الشاعر عثمان البشرى صاحب "الكائن الخلوي" و "ياريتك كنت معاى ياريتك" التي تغنت بها أمال النور ، حيث شهدت غرفة عوض السبع الكثير من أشعاره . و أما الشاب الوضيء الآخر ، فكان علي عمر تروس ، و بالرغم من أنه كان يصغرنا قليلا ، إلا أنه كان الأكثر جنونا على الاطلاق .
كان عوض السبع (و لعل صديقنا علي هو من أطلق عليه هذا اللقب) ، حبوبا و حلو المعشر بطريقة لا تصدق . أذكر مرة أنه دق على بابنا مع تباشير الفجر ، فاستيقت مستغربا ، فتحت الباب ، فإذا هو عوض السبع . "خير يا سبع ، مالك ؟" ، سألته . شكى لي قائلا: تصور عثمان البشرى شتمني و طردني من البيت !! شتمك كيف قال ليك شنو يعني ؟ أجابني السبع قائلا: شتمني قال لى أمشي ياخ أنت زول عادي !! هدأت من روعه و عندما دخلنا بيتنا ، سألته " طيب ، هو كيف طردك و البيت بيتك ، و هو قاعد معاك في غرفتك انت ؟" ، خبط السبع على جبهته كأنه نسي شيئا ، قائلا "اللللله ، والله ما عارف دي جات كيفّ !!
ما هذا الجمال يا ابن ودي !! و أي طين قد منه عوض السبع ؟؟
تفرقنا بعد ذلك في المنافي ، و التقينا مجددا ، و اتصلت أيامنا السمحة مع هذا السمح . عاد هو من القاهرة التي أصبح يتردد عليها ، و أنا من صنعاء . وكان دائما ما يهديني بعض الكتب التي يعرف أن لي اهتماما بها في السياسة و الأدب و العلوم ، كان آخرها كتابان للأستاذ المترجم البارع إدريس البنا ، عن نصوص غنائية ترجمها البنا ، فاستمتعت بها و أفدت من بعضها في تدريسي لبعض المواد في الترجمة ، منها مادة "الترجمة الأدبية" لطلبة ماجستير الترجمة العامة . . يا لصديقي الكريم الوفي عوض السبع .
و كنا نتواصل من حين لآخر ، و كان يعلق على بعض ما أكتب . و شعرت أنه لم يكن مرتاحا لمقالي الأخير الذي حمل عنوان "نعم انقلاب .. لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، الذي طرحت فيه ضرورة الشراكة مع العسكر في الفترة الانتقالية و دعمت فيها اتفاق حمدوك البرهان عقب انقلاب الأخير . و بالرغم من ذلك ، كان عوض السبع سمح الاختلاف ، كما هو سمح الاتفاق .
و كنت أزوره في المستشفى عندما علمت بمرضه ، إلى أن فجعني اتصال برحيله ، فغم علي إيما غم . و أنزلناه في لحد جبانة "السرحة" ، و أنا استغرب أي جمال ضم ذلك اللحد .
اللهم يا سيد الأكوان و الأبدان و الأرواح ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، ارفع عوض السبع مقاما فوق مقامه ، إنك أنت الرافع المقيم .
عزائي الحار لأصدقائه عثمان البشرى و علي عمر ، و إخوانه جمال و خالد و حسن و فرزدق و أخته الرائعة أمل و زوجته الفريدة سارة .
adil.esmail@gmail.com