فيروس الخوف

 


 

 

aelhassan@gmail.com
نشرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية قبل أسابيع على صدر صفحتها الاولى مقالا بعنوان "فيروس الخوف" عن وباء الإيبولا واحتمال تفشيه في أوروبا وباقي بلدان العالم بعد أن فتك بسكان ليبيريا وغينيا وسييراليون. ولم تبالغ الصحيفة كثيرا بوصفها لفيروس الإيبولا بفيروس الخوف إذا أخذنا في الإعتبار خطورة الوباء، وارتفاع نسبة وفيات المصابين به، وسهولة انتقال عدواه، وسرعة انتشاره إلى أقطار الدنيا في زمن وجيز، في عهد يشهد فيه العالم يوميا انتقال مئات الآلاف من الأشخاص جوا داخل بلادهم، وعبر حدودها، مما يجعل انتشار الوباء يتم في متتالية هندسية تُثير الرعب. 
ما زلت الذاكرة الجمعية للعالم تروّعها الروايات عن الأوبئة السابقةالتي فتكت بالعالم: الطاعون الأسود، والجدري، والكوليرا، والإنفلونزا قديما، والإيدز وإنفلونزا الطيور والخنازير وجنون البقر، حديثاً. بيد أن "ليبراسيون"، من مستقرها الآمن الوثير في باريس النور، في قلب فرنسا الآمنة التي نسيت الجوع والخوف والمرض، لا تدرك حقاً ما هو فيروس الخوف. فالإيبولا، رغم ما يثيره من رعب قاتل وحصاد للأرواح، لا يزال، نظريا وعمليا، وباء يمكن دراسته ومعرفة أسبابه وطرق انتقاله، ويمكن بالتالي محاصرته ومكافحته والوقاية منه، وربما القضاء عليه نهائيا باللقاحات المستحدثة، والإجراءات الاحترازية والتثقيف الصحي والرقابة الصارمة.
أما فيروس الخوف الحقيقي فهو فيروس من نوع اخر؛ فيروس يجتاح العالم، فيما يبدو، من أقصاه الى أقصاه؛ من سهول شرق أوكرانيا، مرورا بسفوح الهملأيا في مقاطعة اسام الهندية، وسهول البنجاب والسند والشمال الغربي في الباكستان، وهضاب أفغانستان المضرجة بالدم لعقود طويلة، والعراق وسوريا وغزة المخلوقة، ومصر "المؤمنة"، وليبيا والسودان وجنوبه الذي ما ذاق طعم الاستقرار، والسهل الأفريقي من تشاد الى شواطئ الأطلسي، والمكسيك الغني احيانا، والفقير أحيانا كثيرة، والعنيف دوما، وغير ذلك من أماكن لا ترونها، تطفو بين الحين والآخر على سطح الأخبار، تحمل أعداد المدنيين العزل ضحايا المعارك العبثية والتفجيرات العشوائية في المدارس وأماكن العبادة، وقصف المدن الامنة، والمذابح، وانهار الدماء التي تهدر بدم بارد، والمذابح، والقبور الجماعية، ودمار البنيات التحتية وإهدار ثروات البلاد ودخر الأجيال في شراء السلاح.
ذلك هو فيروس الخوف؛ فيروس العنف الدموي المجنون والجنون الدامي العنيف؛ فيروس قتل الأطفال الأبرياء في مدارسهم، وخطف التلميذات واسترقاقهن، وقصف المدن المكتظة بالمدنيين العُزّل، وقصف الريف الآمن الذييجوع ولكنه يُطعم المدن؛ فيروس الرعب الذي يروّع الملايين ويجعلهم يهجرون قراهم ومدنهم، يهيمون على وجوههم هرب الموت، ووحشية المعاملة، وفقدان الأمان، ورؤية الخوف في عيون أطفالهم؛ يفرون من رمضاء الحرب إلى نار المذلة في معسكرات النازحين في بلدانهم، أو معسكرات اللجوء عبر الحدود في بلدان الجوار، في ظروف طبيعية قاسية، وفي مناطق بلقع جرداء لا تحميهم من زمهرير الشتاء ولا من هجير الصيف.
يُصاحب فيروس الخوف فيروس آخر هو فيروس التجاهل والتغافل والعمى. ينظر العالم إلى ما يحدث في هذه البلاد المنكوبة (وما أكثرها)، وما يُعانيه الملايين من المدنيين العُزّل والأطفال الأبرياء (وما أكثرهم)، ثم يُشيح بوجهه عنهم، وربما يرميهم بكسرات خبز وخيام، تاركا إياهم في "معازلهم" لسنوات وسنوات. أحيانا يبدو وكأن العالم إعتاد على مظاهر العنف المفرط ورؤية الدماء المهدرة، لا تهزه آنات الضحايا وإن كانوا من بني جلدته. وانظر إلى حالنا في السودان؛ استعرت حرب الجنوب لنصف قرن من الزمان، وقضت على أخضره ويابسه، وشتت شمل أهله الوادعين، ولم يطرف للغلبية العظمى منّا جفن، وتلى ذلك الحروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، ولم يؤرق ذلك لنا طرفا رغم استمرار فقدان الأرواح والنزوح واللجوء ومعاناة الملايين لأكثر من عقد من الزمان.
تختلف أعراض الفيروس والوباء، وأسبابه ومظاهره، ولكنها تتفق كلها في العبثية، واسترخاص النفس البشرية، والشطط في الآراء، وفي الوحشية، وفي احتكار الحقيقة والحق، وفي إنكار الآخرين، ونكران آدميتهم، وإلغاء وجودهم وحقهم في الحياة إن كانوا من ملّة أخرى وبلد آخر، أو إن كانوا من نفس البلد ولكن على دين مختلف، أو إن كانوا من نفس البلد ونفس الديانة ولكن من مذهب مختلف، أو إن كانوا من نفس البلد ونفس الديانة ونفس المذهب ولكن من قبيلة مختلفة، أو إن كانوا من نفس البلد ونفس الديانة ونفس المذهب ونفس القبيلة ولكن لهم رأي مُخالف في بعض الأمور! وانظر حولك ترى صدق ما أقول.
فليكن دعاؤنا إذن في خواتيم عام 2014 : يا خفيّ الآلطاف، نجّنَا ممّا نخاف!
///////

 

آراء