في الذكرى 67 لاستقلال السودان – الثَّورة وفُرُوض التَّغْيير(5)

 


 

بلّة البكري
15 January, 2023

 

15 يناير 2023م

إذا ما الجُرح رُمَّ على فَسادٍ تَبيَّن فيه إهمالُ الطبيبِ
البُحتري

ظللنا على الدوام صغاراً في نظر دول الجوار وخاصة في المنطقة العربية؛ لا يُحسب لنا حساب كدولة وشعب، بل يهزءون منا في طريقة كلامنا ومن خلال "استريوتايب" الكسل الذي أُلْصق بنا كأمة. والمؤلم إنه هؤلاء الساخرون لم يكونوا دولاً أصلاً إلا بعد سنوات من نيلنا الاستقلال والخروج إلى العالم كأول دولة أفريقية مستقلة، تفوق مساحتها مساحة كل غرب أوربا وتكمن في ظاهر أرضها وباطنها كنوز الدنيا والعالمين. بل إنّ لهذه الدولة الناشئة إرثٌ تاريخي مهول، لا زالت شواهده وآثاره العمرانية قائمة. إنه إرثٌ كفيل بوضع بلاد السودان قبلة للسياحة في المنطقة إن لم يكن في العالم أجمع. فأين نحن الآن وكيف صار بنا الحال لنتحول من مارد عملاق واعد يُنتظر منه الكثير إلى فاشل جائع مريض يُهزء به ويزدريه كل من هبَّ ودبَّ. هذا سؤال مفتاحي ولابد من الإجابة عليه الآن قبل مواصلة المسير في طريق الفشل والمهانة. وكما قال بطل الملاكمة العالمي الأشهر محمد علي: "ليس العيب أن تسقط أرضاً في حلبة الصراع وإنما العيب أن تبقى على الأرض". وهناك الكثير من الأمثال من تراثنا الشعبي تهدينا إلى علتنا المزمنة. منها قولهم: : "الصَّغَرة صَغَرْة الرأي". يعني إنّ المرء سيظل دوما صغيراً في نظرالآخرين طالما هو ذو رأي صغير. فهل نحن فعلاً صغار الرأي كأمة؛ أم أن من قادونا سياسياً طوال الفترة منذ الاستقلال هم صغار الرأي منا. الإجابة واضحة وبديهية، ولكن سنترك التفصيل فيها الآن للخبراء الاستراتيجيين والذين يملأون الساحة ضجيجا، كل مرة، يزينون لصغار الرأي آراءهم ويعينونهم على الإتيان بأصغر منها. قد يقول قائل مهلاً يا هذا فأنت تظلم الرعيل الأول من الذين نادوا بالاستقلال من داخل البرلمان في الخمسينات وأجبروا المستعمر على الجلاء وسلمونا بلداً حُرّاً مستقلاً. والإجابة هي ما إلى هذا قَصَدْنا، وليس هذا المقال القصير بحثاً تاريخياً يُقيّم فيه مسلك القادة وسياساتهم في كل مرحلة؛ فلذلك أهلُه ومكانه والتاريخ هو الحكم.

لا أفهم كيف تكون دويلة صغيرة بمساحة محلية سواكن في البحر الأحمر أثقل وزناً دولياً من كل السودان، وأغني منه في الناتج القومي؛ ولها احتياطي مالي بمئات البلايين من الدولارات، بينما نحن نكاد نتصدر المركز الأخير في كل مؤشرات النمو في العالم. ما هي العِلّة؟ ولماذا نحن عاجزون حتى عن تشخيصها. ذكرنا، في مقالٍ سابق إنّ مساحة مثلث حلايب لوحده أكبر من مساحة خمس دول مجتمعة تشمل قطر وسنغافورة وهونق-كونق والبحرين ولكسمبورغ؛ وأنّ جملة الدخل القومي لهذه الدول يفوق دخل السودان القومي بأكثر من عشر مرات. كذلك فإنّ مساحة السودان الحالي بالكيلومتر المربع (M1.861) تقارب مساحة المملكة المتحدة (0.243M) وفرنسا (M0.641) وألمانيا (M0.357) وإيطاليا (M0.301) واليابان (M0.378) مجتمعة. هذا والسودان أغنى من أيٍّ منها موارداً بخيراته من أرضٍ شاسعة خصبة وبحارٍ صالحة ومالحة. أما مقارنة الدخل القومي لأيٍّ من هذه الدول بالسودان فلا داعي لذكره؛ ويكفي أن نعلم إنها تحتل مواقعها في قائمة العشر دول ذات أعلى دخل قومي في العالم. صحيح إن المقارنة بدول ما يعرف بالعالم الأوّل مجحفة لا تراعي عوامل عدة أهمها فترة الاستعمار وسبقها في مضمار التقدم الحداثي بعد الثورة الصناعية. فلنتركها جانبا وننظر من حولنا لدولٍ في آسيا وأفريقيا كانت في مثل حالنا بعد الحرب العالمية الثانية أو في حال مشابه: كوريا الجنوبية؛ الفلبين؛ الهِند؛ ماليزيا؛ تايلاند؛ المملكة العربية السعودية؛ كينيا؛ رواندا؛ جنوب أفريقيا؛ المغرب وسنجد إننا في ذيل القائمة أيضاُ.

فلا جاجة، إذنْ، للمزيد من أدلة على عجزنا في إدارة هذه المؤسسة العملاقة التي اسمها (السودان العريض) بطريقة عصرية ناجحة، توفر لإنسانها العيش الكريم وفرص النمو البشري والإقتصادي. ولا نعتقد أنّ هناك عاقلاً يرى مصدراً آخر، للعلِّة التي أقعدتنا، سوانا نحن أهل السودان وخاصة (المنظومة السياسية والعسكرية) التي تقفز للمقدمة دوماً وتتحدث باسمنا دون تفويض. 67 عاماً من الفشل وغياب الحريات تكفي. وأي تماهي مع حلول فطيرة وصفقات مشبوهة تُطبخ سراً في الغرف المغلقة ولا تنتج غير المزيد من المسكنات الآنية ينبغي رفضها من منطلق أخلاقي بحت أولاً. فالمهندس لا يُعالج الشُروخ الإنشائية في مبنى متهالك بورق الحائط لأن ذلك يخفيها فقط؛.والطبيب لا يَرُمّ الجروح، على فسادها، لأنها ستزداد فساداً ربما أدّى إلى بتر العضو المجروح أو تسمم الجسم كله ومَوْتُه. وهذه بداهة.

الساحة الآن في حاجة إلى تحالف (قوى التغيير الجذري) كُلّها، والتي ينبغي أن تُقدم برنامج سياسي واضح للناس نحو الطريق إلى الحكم المدني الديمقراطي المستدام؛ وأن ينازل هذا التحالف حكومة الفترة الانتقالية أو ما تلاها ناقداً بناءاً لأدائها، على ضوء ثوابت (التغيير الجذري)، وجاهزاً بتقديم البديل الخالف لها. فقد بدأ جيراننا في الجوار، يعترفون، أخيراً، بأن (المجتمع السوداني) أقوى من الدولة؛ وهذه بداية النهاية لعقبة التدخل الأجنبي!!

-ونواصل -


(*) مهندس (CEng FICE) وكاتب في الشأن السوداني
ballah.el.bakry@gmail.com

 

آراء