في اللغة المُتداولة
عبد الله الشقليني
12 July, 2012
12 July, 2012
abdallashiglini@hotmail.com
(1)
من يدخلنا مرة أخرى عالماً دون أن نرغب ؟
الإيحاء بالترديد المتواصل يستخدمه في الغالب السياسي المحترف . العبارة المشهورة ( لمارغريت ثاتشر) رئيسة الوزارة البريطانية السابقة: ( ليس هناك من بديل ) ، و المعروفة في الأوساط الإعلامية بالعبارة الآتية : There is no alternative - shortened as TINA ) ) هي أصدق مثال.
*
التلفاز هو السيد الذي نشتريه بنقودنا ليستعبدنا آخر المطاف . فهو بطل أكثر أنواع الإيحاء شيوعاً ، يُطْبِق على ملايين الناس كل يوم في بيوتهم ، بتخدير إيحائي وجذب إلكتروني . يجرّ الانتباه المرّكز و يجذب البصر و البصيرة إلى شيء واحد . لعل أسلوب الإرباك و إمطار الشخص بوابل من المعلومات والتعليمات المتناقضة والمكثفة، إلى الحّد الذي يجعله يستسلم فيه على الفور لأول أمر يمكن استيعابه ، فيدخل عقله و يستعمره .
*
ثلاثون ثانية أو أكثر من الإبهار التقني المكثف ، تتبعها رسالة واضحة سوف تسوّق لأي شيء ، ليس البُدرة الصابونية فحسب بل أي فكرة من أي نوع ، إن لم يتصدّ لها شيء كما هو الحال مع البرامج السياسية وغيرها .
كافة مبادئ السحر الطقسي متضمنة في الإنتاج التلفزيوني . وهنالك عدة طرق للتأثير في عقول المشاهدين طيلة الوقت دون معرفتهم الواعية بذلك . عندما يكون التلفاز في حالة تشغيل تشعر بدماغك يتخدر ، مشدود أنت بحبال سحرية قوية ، فأنت عوضاً عن تأدية الأشياء بنفسك ، ترغب من يؤديها إنابة عنك . يجري الآن تلقين عقلك قسراً بمعيار واحد .لا شيء يصلح توصيفاً لذلك غير الاغتصاب الجماعي لعقول المشاهدين .
*
بمراقبتك البرامج التلفزيونية جميعاً ،يمكنك التدقيق على الوسائل و التقنيات المتبعة لتحييدك تدريجياً . تُبث المعلومة بثبات وثقة تجعل الإيحاء أقرب إلى التصديق ، لا سيما إن كنت تجهل طرفاً من تلك المعلومات . يخلخلك الشك أولاً ، برهة ثم يتلاشى . تسيّرك المعلومة المتدفقة شيئاً فشيئا مع جرعة الإدهاش المضبوطة ، حتى تحولك إلى متلقٍ سالب ، لا حول له ولا قوة . تتوقف كافة المراجعات النقدية و الإيحاءات المضادة . يُصبح عندها عقلك صفحةً بيضاء ، يكتب عليها أصحاب السطوة ما يريدون . يتم تسجيل المعلومات الموحى بها على أنها أقرب إلى الحقيقة ، بل هي الحقيقة عينها . تنقل أنت جرثومتها إلى غيرك و يستشري الإفك .
*
لم تزل البرامج الإخبارية المصورة ، أو الأفلام الوثائقية التي يطلق عليها أصحابها كذلك ،تمارس كافة ضروب غسيل المخ بالتقنية التي تجعلك لن تتردد في تصديق الحدث . تسهم التعليقات المصاحبة من قِبل الأصوات التي تقود الرواية المصورة في تقديم الإيحاءات تباعاً و لا مفرّ من استسلامك . إذ تؤمِّن أنتَ على كل ما تشاهده بالتصديق الكامل . إنك الآن صيد في الشراك التي نصبها لك الإعلام الموجه ، بأداته الماكرة . أصبحت الآن تتلقى الرسالة الموجهة و يتأثر بها عقلك دون علمك التام بما يحدث . هذا هو الإجرام المنظم بكل المقاييس ، وسيلته الاستخدام غير الأخلاقي لعلوم النفس البشرية .
*
معلومات مجهولة الكيف والكمّ والمصدر و المرجعية تتدفق عليك من كل حدب و صوب . لن تَقْنَع إلا باستسلامك الكامل . يمكنها من خلال الفكرة المُصنَّعة السيطرة على العقل وتصبح مجموعة الأفكار حقيقة لا يقربها الشك . بهذا يصل المتنفذون إلى أغراضهم و مآربهم ، دون حسيب أو رقيب . البث الكثيف و المبرمج مسبقاً يحيلك دُمية ضمن نسيج الرأي العام الذي تمت صناعته في المختبرات . يمكننا و بكل هدوء أن نُشعل العالم و نسيّر الكون بحشد مجموعة من الأكاذيب وفق الصياغ الذي ذكرنا.الجميع بلا استثناء يسهم في هذا الإستجرار للذهن البشري وتسميمه على الدوام . إنها قراءة مرعبة للواقع أن يدرك المرء نهج وخبث العالم الذي نعيشه . الغش المبرمج هو البضاعة السائدة ! . التكرار المُمِل هو أسلوب غسيل الأدمغة .
(2)
نعود لقضيتنا وهي اللغة المُتداولة عندنا :
لك أنموذج يمكنك تجربته بكل هدوء في سماع أيقونات اللغة المتداولة :ـ
( حقيقةً ) ... ( قطعاً ) ...( تنزيل ) ...( مُقدّر )...(آليّة ) ... الخ .
أينما كنت تفتح قناة التلفزيون السوداني مثلاً . راقب بهدوء برنامجاً حوارياً يُقدَم . راقب الحديث ، و تتبع المفردات اللغوية وطرائق استخدامها بين المتحدثين. راقب كلمة (حقيقةً ) على سبيل المثال . ترديدها ، موقعها في صيغة الخطاب . إنها تعلو و تهبط ، تدخل بقدرة عجائبية ضمن الحدث و ضمن السرد كأنها بُهار الحديث . إنها كلمة بسيطة التركيب ، ولكنها عميقة الدلالة . تُكسب الحديث إيحاءً بأن قائله يتشكك في إيمان المشاهدين بما يقول . وأنه على وشك الكذب ، وتأتي لفظة ( حقيقةً ) لتضيف مصداقية للحديث ! . هذه الكلمة تضيف كم هائلاً من المصداقية للحديث، وتقدم قائلها وكأنه يملك الحق !. منْ يا تُرى ألحق تلك الكلمة ضمن السرد ؟ .لماذا لا نجدها عند غيرنا من المتحدّثين بالعربية ؟ .
*
لقد نفذت هذه الكلمة الصغيرة الشأن والعظيمة المدلول إلى صميم طرائق كثيرين في التفكير . كأن الجالسين في سُدة السلطة قد أصبحوا قوة يؤثرون في اللغة المتداولة عندنا!. ليس على العامة عندنا فحسب ،بل على ما يُطلق عليهم : " الصفوة " ! . يتحدث الباحث و الخبير و السياسي و العالِم الذي يقدمونه بهذا التعريف عندنا كيفما أتفق ،لكن ( حقيقةً ) تظل هي الكلمة التي تسود ! .
*
ربما نحن أمام تعريف جديد لمصطلح "الصفوة" !. جاءت بهم مؤسسات إعلامية تديرها الدولة ويقدمون متحدثين نثروا عليهم درر الألقاب! . ربما دخلت السياسة في الأمر لضبط المقاييس ، لا الحيدة و لا الاستقلالية ولا الجودة ولا مناهج للمعرفة المتداولة في الضبط الإعلامي الأكاديمي .لكن من الصعب الحكم بدون الرصد والتدقيق فيما يدور في الساحة ، فليست هنالك أرقام ولا إحصاءات دقيقة في أي مرفق ليعيننا ! . وقد كُتبتْ الكثير من المقالات تتحدث في ذات الشأن من مختصين . ولكن هنالك مداخل أخرى تُعين على استكشاف الثقل المعرفي للذين يقدمهم التلفزيون عندنا بل وعند غيرنا . أليس لنا الحق في الشك في مصداقية كثير من المتحدثين ، حين تفاجئك اللغة المنخفضة السقف وهم ينزلونها بيسر ودعة خلال لقاءات تلفزيونية ؟ . تلمس اهتزاز العبارة المنطوقة والقفز إلى الأحكام الصمدية وتخبُط في المنهاج وتراجُع مُخل في مستوى اللغة ، عامية كانت أم فصحى. وضعف كذلك في البيانات والأرقام المقدمة. ورغم ذلك تجد الأحكام كما يقولون في لغتهم السائدة : ( قطعية الدلالة ) ! . ونجد الاستجابة للغة أهل السلطة وقطوف "إبداعاتهم" في إطلاق المصطلحات على عواهنها ،حتى في أدنى اللغة السوقية!.
أيظن البعض أنهم يلامسون حياة العامّة ويحسّون معاناتهم ؟، أم هو فراغ حقيقي من القيم المعرفية والفكرية ، وأن اللغة وما يصاحبها من مرجعية القداسة وهي تخوض الاستعارة المُهلهلة لنصوص على درجة من الفخامة اللغوية الباهرة كالنص القرآني . لن يُضيف الاستخدام المبتسر لهم حُجة أو يقيم من صحاريهم الجرداء بساتين يانعة. لأن حاملي المشاعل التي يظُن السامع أنهم تربويون ومنارات أخلاق في حين أنهم تقصر قاماتهم دون تلك الشرفات الإنسانية العالية. ليس في كهوف أذهانهم إلا الظلمة الحالكة تلتقط رزقها من السائد في سوق منخفضة السقف بلا ضابط . نسمع لغة ضعيفة البنيان مبنى ومعنى. أما عند الغضب ، فتنزلق إلى مدارك سحيقة !. وذلّة اللسان تقودنا دائماً إلى المستور الذي اجتهد أصحابه في ستره حتى انكشف . عندها تتشكك أنت ليس في مصداقية المصادر والمخزون المعرفي ، بل في الأحمال الأخلاقية التي تطنّ حول آذاننا عند كل خلاف في أمور الدنيا ، فيصرعون خصومتَكَ الفكرية وهي تتوثب لحوار المنطق ، فيغمسون الدِّين دون مسوغات في ريبة السياسة . فيسدّون أبواب التأويل إلا من رأيهم، كأنهم مالكو الحق وحراسه وسدنته !.
*
منْ بدأ يا تُرى تلك اللغة المتداولة ؟ ومن أشاع سوقها ومن أطلق لها العنان لتصبح السيدة الأولى في اللغة المتداولة عندنا ؟ .
منْ يا تُرى يصوّب علينا تلك الرصاصات المدمرة ؟ . تتمدد هي في برامج الترفيه ، الأخبار ، السياسة ، الأدب والثقافة ....الخ .
*
منْ يمتلك التقنية ، يمكنه إعادة تشكيلنا وفق ما يشاء . يضبط المفاصل و يتحكم في اتجاهات تفكيرنا و لغة حديثنا و ميول الأنفس أفراداً و جماعات ؟.لا تقل لي : ( إن للمفردة المستخدمة جاذبية ، و قد أبدعها أحدهم ، و من بعد توهجت في نظر الجميع وانتقلت من الإبداع إلى الإتباع ) !. تلك المقولة تلبس رداء زائفاً و تجافي الوقائع ، فالوعاء الفارغ دائماً أعلى صوتاً.
*
إن اخترت كلمة ( مُقدّر ) على سبيل المثال ، و أجريت عليها ما جرى لصاحبتها ( حقيقةً ) ، و راقبتها في برامجنا التلفزيونية ، فسوف يتملكك العجب . فكل من يتحدث ،ويفتقد القدرة على إدارة الحديث بلغة العصر ، فان كلمة ( مُقدّر ) تسعفه بالترجيح و بالهرب من ضبط الإحصاء :
( ..إسهاماً مقدّراً ، دعماً مادياً مقّدّراً ، جهوداً مقّدّرة..الخ ) .
إن كنت تتهرب من الملاحقة ، فان الكلمة تخرج من الفم و صاحبها لا يعلم !. صنعها غيره ، وهو المسحور ، تتساقط الكلمات من عقله الباطن تباعاً، أما عقله الواعي الناقد فهو جالس في ذهوله بلا حراك .
*
بعضنا فضّل أن تسرق عقله قنوات تلفزيونية أخرى، يحسبونها بعيدة عنا ، ولكن جاء الزمان الذي صرنا فيه نعرف ما يدور في شوارعنا وبيوتنا من خلال قنوات فضائية أخرى، ويسهم أبطال الإعلام الجُدد في نقل الوقائع بلا قيود . لقد تمّ كسر الحواجز وفك قبضة الرقابة الأمنية وغلظتها . فالعالم غزا أشباه المدن وحتى الأرياف التي يحسبها البعض بعيدة ،وهي قريبة مربوطة بحبال الوريد .
*
الذين كانوا يبشروننا بالوقوف عند أبواب نعيم الدنيا ، قد خاب ظنهم أولاً وإلى آخر مطاف الحكاية المُحزنة. ها هو الجحيم قد تدحرج إلينا بفعل أيدي الذين يصفهم إعلامنا "بالقائمين على أمرنا" !. فأفضل لنا على أية حال أن نعود أدراجنا إلى المُبتدأ. فالتاريخ خير معلم ،حتى لو كان أصحاب الشأن يتحركون عرائس في مسرح اسمه الحركي " مزبلة التاريخ " استباقاً لما سوف يكون!.
عبد الله الشقليني
30 /6/2012